فوائدُ وعِبَر .. مِنْ خَبَرِ مُوسَى والخَضِر

عبدالله اليابس
1440/05/25 - 2019/01/31 20:49PM

فوائد وعبر من خبر موسى والخضر       الجمعة 26/5/1440هـ

الحَمدُ للهِ.. أَعْظَمَ لِلمُتَقِينَ العَامِلِينَ أُجُورَهُمْ، وَشَرَحَ بِالُهدَى وَالخَيرَاتِ صُدُورَهُم، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَفّقَ عِبادَه للطَاعَاتِ وَأَعَانَ، وَأَشهَدُ أَنّ نبيَّنا مُحمّدًا عبدُاللهِ وَرَسُولُهُ خَيرُ مَنْ عَلَّمَ أَحْكَامَ الدِّين وَأَبَانَ، صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصحَابِهِ أَهْلِ الهُدى وَالإِيمَانِ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإيمانٍ وَإِحْسَانٍ مَا تَعَاقُبَ الزَّمَانُ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا.

أَمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَأَطِيعوُهُ، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}.

يَا أُمَّةَ مُحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ.. رَوَى البُخاريُ وَمُسْلِمٌ عَنْ سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبَكَّالِيَّ ــ وَهوَ قَصَّاصٌ مِنْ أهلِ الكُوفَةِ ــ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى ــ يَعنِي الذِي وَرَدَتْ قِصتُهُ في سُورَةِ الكَهفِ ــ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ.

فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللهِ، حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رضي اللهُ عنهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قالَ: قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ. فَعَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتًا ــ أي: سَمَكةً ــ فِي مِكْتَلٍ ــ وَهوَ الزَّبِيلُ الكَبِيرُ ــ، فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهُوَ ثَمَّ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَحَمَلَا حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَ، فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنَ الْمِكْتَلِ {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمَهُمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ}، قَالَ مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}, فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ، أَوْ قَالَ تَسَجَّى بِثَوْبِهِ، فَسَلَّمَ مُوسَى فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ فَقَالَ: أَنَا مُوسَى. فَقَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

والخَضِر سُمِّيَ بِهَذَا الاِسْمِ لِأَنَّهُ كَمَا وَرَدَد فِي الحَديثِ الصَّحيحِ الذِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ: جَلَسَ عَلَى فَروَةٍ بَيضَاء، فَإِذَا هِيَ تَهتَزُ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ. وَالفَرْوَةُ هِيَ الأَرْضُ اليَابِسَةُ، جَلَسَ الخَضِرُ عَلَيهِ السَّلامُ عَليهَا ولَيسَ فِيهَا نَبَاتٌ، فَإِذَا هِيَ تَهتَزُ تَحتَهُ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى خَضْرَاءَ، مُعْجِزَةً لِلخَضِرِ عَلَيهِ السَّلامُ، فَمِنْ هَذَا الحَادِثِ سُمِيَ الخَضِرُ خَضِرًا.

نَعودُ لِقصَةِ مُوسَى عَلَيهِ السلامُ مَعَ الخَضِر, قَالَ مُوسَى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} قَالَ: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لَا أَعْلَمُهُ. {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الْخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ ــ أَي مَجانًا ــ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ ــ أَي: حَافَّتِهَا ــ ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ الْخَضِرُ: يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إِلَّا كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ، فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ، فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟ {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} فَكَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا فَانْطَلَقَا، فَإِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلَاهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ، ـــ وَأَوْمَأَ سُفْيَانُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ كَأَنَّهُ يَقْطِفُ شَيْئًا ـــ فَقَالَ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} مَائِلًا .. أَوْمَأَ بِيَدِهِ هَكَذَا قال الراوي: وَأَشَارَ سُفْيَانُ كَأَنَّهُ يَمْسَحُ شَيْئًا إِلَى فَوْقُ.. قَالَ: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا عَمَدْتَ إِلَى حَائِطِهِمْ {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}.. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا.

ثُمَّ أَخَذَ الخَضِرُ يُفَسِّرُ أَفْعَالَهُ.. {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}، أي: فَأَرَدْتُ إِذَا هِيَ مَرَّتْ  بِالمَلِكِ أَنْ يَدَعَهَا إِذَا شَاهَدَ العَيْبَ الذِيْ فِيهَا،  فَإِذَا جَاوَزُوهُ أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا، وَأَمَّا الغُلَامُ، فَإِنَّهُ طُبِعَ يَومَ وُلِدَ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَكَانَ أَبَوَاهُ قَدْ عَطَفَا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبُرَ {أرهقهما  طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} وَفِيْ رِوَايَةٍ: "كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ، وَكَانَ كَافِرًا، {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}, أي: يَحْمِلُهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُطَاوِعَاهُ عَلَى دِينِهِ، {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}, أَي: وَكَانَ تَحتَ هَذَا الِجَدارِ المَائِلِ كَنْزٌ لِهَذَينِ الغُلَامَينِ غَيرِ القَادِرَينِ عَلَى تَدْبِيرِ شَأْنِهِمَا، وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ مَا سَيَحْدُثُ لَوْ تَهَدَّمَ الجِدَارُ، وَانْكَشَفَ هَذَا الكَنْزُ، وَلَمَعَ ذَهَبُهُ أَمَامَ عُيونِ هَؤُلاءِ القَومِ الذِينَ عَرَفْتَ صِفَاتَهُمْ، وَقَدْ مَنَعُوهُمَا الطَّعَامَ بَلْ وَمُجَرَدَ الـمَأْوَى, فَأَصْلَحَ الخَضِرُ الجِدَارَ وَرَدَّهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ بنَاهُ بِنَاءً مَوقُوتَاً يَتَنَاسَبُ وَعُمْرَ الغُلَامَيْنِ، وَكَأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى عُمُرٍ افتِرَاضِيٍ يَنْتَهِي بِبُلُوغِ الغُلَامَينِ سِنَّ الرُّشْدِ وَالقُدْرَةِ عَلَى حِمَايةِ الكَنْزِ. {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}. أَيْ: أَنَّ مَا حَدَثَ كَانَ بِأَمْرِ اللهِ، وَمَا عَلَّمْتُكَ إِيَّاُه كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ..

 بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلَّا اللهُ رَبُّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَقَيَّومُ السَّمَاوَات وَالأَرَضِين، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ, وَأَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين، وَعَلَى مَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّين.

أَمَّا بَعْدُ: {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. هَذِهِ القِصَّةُ المَاتِعَةُ.. غَزيرَةُ الفَوائِدِ والفَرائِدِ.. فَمِنْ هَذِهِ الفَوائِدِ:

أَدَبُ طالِبِ العِلْمِ مَعَ مُعَلِمِهِ..  حَيثُ ظَهَرَ تَأَدُّبُ مُوسَى عَليهِ السَّلامُ مَعَ العَبْدِ الصَّالِحِ جَلِيًّا فِي عِدَّةِ مَوَاقِفَ فِي هَذِهِ القِصِّةِ، مِنْهَا قَولُهُ: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}, فَبِهَذَا الأَدَبِ الجَمِّ بَدَأَ مُوسَى عَليهِ السَّلامُ؛ يَسْتَفْهِمُ وَلَا يَجْزِمُ، وَيَطلُبُ العِلْمَ الرَّاشِدَ مِنَ العَبْدِ الصَّالِحِ العَالِمِ.

وفِي مَوقِفِ ثَانٍ يَقُولُ موسَى:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}.

وَفِي مَوقِفٍ ثَالثٍ يَقُولُ: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}.

ومن فوائِدِ هَذِهِ القِصَّةِ: صَبرُ المُعَلِّمِ عَلَى تِلمِيذِهِ وَتَكْرَارِ النُّصحِ وَالإِرْشَادِ لَهُ: فَبَعدَ اعتِرَاضِ مُوسَى عَليهِ السَّلامُ عَلَى العَبدِ الصَّالِحِ لِخَرقِهِ السَّفِينَةَ، لَمْ يُعَنِّفهُ العَبْدُ الصَّالِحُ، بَلْ ذَكَّرَهُ فِي صَبْرٍ وَلُطْفٍ بِقَولِهِ: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} وقَبِل عذرَه.

وَعِندَمَا كَرَّرَ مُوسَى ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى عِنْدَ قَتْلِه الطِّفْلَ رَدَّهُ الخَضِرُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى شَرْطِهِ الذِي شَرَطَ، وَوَعْدِهِ الذِي وَعَدَ، دُونَ أَيِّ تَعْنِيفٍ أَوْ ضَجَرْ: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}.

ومن فوائِدِ القِصَّةِ: أَنَّ صَلَاحَ الأَبِ مُمْتَدُ الأَثَرِ وَدَائِمُ النَّفْعِ، فَفِي الآَيَةِ دَعْوَةٌ لِأَنْ يَبْدَأَ الآَبَاءُ بِتَربِيَةِ أُنْفُسِهِمْ قَبْلَ تَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِمْ، {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً}.. حَتَّى قَالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أَنَّهُ الأَبُ السَّابِعُ لِلغُلَامَينِ.

قَالَ مُحَمَّدُ بنُ الـمُنكَدِرُ: "إِنَّ اللهَ يَحفَظُ بِصَلَاحِ العَبدِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَعِتْرَتَهُ وَعَشِيرَتَهُ وَأَهْلَ دُوَيرَاتٍ حَوْلَهُ، فَلَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللهِ مَا دَامَ فِيهِم).

ومن فوائِدِ القِصَّةِ: فِي قَولِهِ عَلَيهِ السَّلامُ: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} نِسْيَانُ نَفْسِهِ وَهُوَ بَيْنَ الرَّاكِبينَ، مَعَ أَنَّهُ جَديرٌ بِأَنْ يَنهَمِكَ بِأْمرِ نفْسِه، وَمَا هُو مُقْدِمٌ عليه مِنْ خَطَرِ الغَرَقِ، لَكِنْ حمَلَه عَلَى المُبادَرَةِ بِالِإنْكَارِ الالْتِهَابُ وَالحَميَّةُ لِلْحَقِّ، فَنَسِي نفْسَه واشتَغَل بغيرِه نُصْرَةً لِلحَقِ.

وَمِنْ فوائِدِ القِصَّةِ أَيْضًا: فِي قَولِ اللهِ تَعَالَى:{فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} فِيهِ اسْتِحْبَابُ إِطْعَامِ الإِنْسَانِ خَادِمَهُ مِنْ مَأكَلِهِ، واستِحبابُ أَكْلِهِمَا جَمِيعًا.

رَوَى البُخارٍيُّ عَن أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِي رَضِيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ).

وَمِنْ فوائِدِ القِصَّةِ: فِي قَولِ الله تعالى: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}.. فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلصَّاحِبِ أَلَّا يُفارِقَ صَاحِبَهُ فِي حَالَةٍ مِنَ الأَحوالِ، وَيَترُكَ صُحبَتَه، حتى يُعْذِرَهُ، كَمَا فَعَلَ الخَضِرُ مَعَ مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ.

أيُّها الإخوَةُ.. وَبَعدُ .. فَهَذَا طَرَفٌ يَسيرٌ مِنْ فَوائِدِ هَذِهِ القِصَّةِ الجَلِيلَةِ.. وَلَوْ بَسَطْنَا الكَلامَ فِيهَا لَطالَ المُقامُ..

تِلْكَ أَعْمَالٌ مَتَى يَعْمَلْ بِهَا *** عَامِلٌ يَسْعَدْ وَيَرْشَدْ وَيُصِبْ

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.

المرفقات

وعبر-من-قصة-موسى-والخضر-26-5-1440

وعبر-من-قصة-موسى-والخضر-26-5-1440

المشاهدات 1080 | التعليقات 0