فوائد من كتاب التبيان في أيمان القرآن .. الشيخ فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ

الفريق العلمي
1441/02/27 - 2019/10/26 11:37AM

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:

 

فمن مصنفات العلامة ابن القيم -رحمه الله- كتابه الموسوم بـ(التبيان في أيمان القرآن)، تكلم فيه عن الأيمان والأقسام الواردة في القرآن الكريم؛ قال -رحمه الله- في مقدمة كتابه: "فهذا كتاب صغير الحجم كبير النفع فيما وقع في القرآن العزيز من الأيمان والأقسام، والكلام عليها يمينًا، وارتباطها بالمقسم عليه، وذكر أجوبة القسم المذكورة والمقدرة، وأسرار هذه الأقسام؛ فإن لها شأنًا عظيمًا يعرفه الواقف عليه في هذا الكتاب".

 

وكما هي عادة العلامة ابن القيم -رحمه الله-، فقد سال قلمه بالكثير الكثير من الكنوز والفوائد في مواضيع شتى، وقد يسر الله الكريم فاخترت شيئًا من تلك الفوائد، أسأل الله أن ينفع بها ويبارك فيها.

 

النفس المعطية: هي النفاعة المحسنة التي طبعها الإحسان وإعطاء الخير اللازم والمتعدي، فتعطي خيرها لنفسها ولغيرها؛ فهي بمنزلة "العين" التي ينتفع الناس بشربهم منها، وسقي دوابهم وأنعامهم وزروعهم، فهم ينتفعون بها كيف شاءوا فهي ميسرة لذلك، وهكذا الرجل المبارك ميسر للنفع حيث حلَّ، فجزاء هذا أن ييسره الله لليسرى كما كانت نفسه ميسرةً للعطاء.

 

وكل نفس لوامة؛ فالنفس السعيدة تلوم على فعل الشر وترك الخير فتبادر إلى التوبة، والنفس الشقية بالضد من ذلك.

 

ونبَّه -سبحانه- بكونها لوامة على شدة حاجتها وفاقتها وضرورتها إلى مَن يعرفها الخير والشر، ويرشدها إليه ويلهمها إياه، فيجعلها مريدة للخير مؤثرة له، كارهة للشر مجانبة له.

 

والمتقي ميسر عليه أمور دنياه وآخرته، وتارك التقوى وإن يسرت عليه بعض أمور دنياه، تعسر عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى، وأما تيسير ما تيسر عليه من أمور الدنيا، فلو اتقى الله رحمه الله لكان تيسيرها عليه أتم، ولو قُدِّر أنها لم تُيسر له؛ فقد يسر الله له من الدنيا ما هو أنفع له مما ناله بغير التقوى؛ فإن طيب العيش ونعيم القلب، ولذة الروح وفرحها وابتهاجها من أعظم نعيم الدنيا، وهو أجلُّ من نعيم أرباب الدنيا بالشهوات واللذات، ونعيم أهل التقوى بالطاعات والقربات أعظم وأجل.

 

وحقيقة اليسرى: أنها الخلة والحالة السهلة النافعة الواقعة له وهي ضد العسرى، وذلك يتضمن تيسيره للخير وأسبابه، فيُجري الخير وييسره على قلبه ونيته، ولسانه وجوارحه؛ فتصير خصال الخير وأسبابه ميسرة عليه مذللة له منقادة، لا تستعصي عليه ولا تستصعب؛ لأنه مهيأ لها ميسر لفعلها، يسلك سبلها ذللًا، وتنقاد له علمًا وعملًا.

 

 

و"الودود": المتودد إلى عباده بنعمه، الذي يود من تاب إليه وأقبل عليه وهو "الودود" أيضًا؛ أي: المحبوب؛ قال البخاري في صحيحه: "الودود: الحبيب".

 

والتحقيق: أن اللفظ يدل على الأمرين؛ على كونه وادًّا لأوليائه مودودًا لهم؛ فهو الحبيب المحب لأوليائه، يحبهم ويحبونه.

 

وما ألطف اقتران اسم "الودود" بـ"الرحيم" وبـ"الغفور"؛ فإن الرجل قد يغفر لمن أساء إليه ولا يحبه، وكذلك قد يرحم من لا يحبه، والرب -رحمه الله- يغفر لعبده إذا تاب إليه ويرحمه ويحبه مع ذلك، فإنه يحب التوابين، وإذا تاب إليه عبده أحبه، ولو كان منه ما كان.

 

لطيفة في التعبير عن الأعمال بالسرِّ، قال -رحمه الله-: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)[الطارق: 9]؛ أي: تختبر السرائر؛ قال مقاتل: تظهر وتبدو.

 

وفي التعبير عن الأعمال بـ" السر" لطيفة وهي: أن الأعمال نتائج السرائر الباطنة؛ فمن كانت سريرته صالحة كان عمله صالحًا؛ فتبدو سريرته على وجهه نورًا وإشراقًا وحسنًا، ومن كانت سريرته فاسدة كان عمله تابعًا لسريرته - لا باعتبار صورته - فتبدو سريرته على وجهه سوادًا وظلمة وشينًا.

 

انتشار الأرواح الشيطانية عند إقبال الليل والأرواح الإنسانية عند إقبال النهار:

شرع عند إقبال الليل وإدبار النهار ذكر الرب بصلاة المغرب؛ كما شرع ذكر الله بصلاة الفجر عند إدبار الليل وإقبال النهار.

 

ولما كان الرب تبارك ورحمه الله يحدث عند كل واحد من طرفي إقبال الليل والنهار وإدبارهما ما يحدثه، ويبث من خلقه ما يشاء فينشر الأرواح الشيطانية عند إقبال الليل، وينشر الأرواح الإنسانية عند إقبال النهار، فيحدث هذا الانتشار في العالم أثره - شرع سبحانه في هذين الوقتين هاتين الصلاتين العظيمتين.

 

جمال الظاهر والباطن، قال -رحمه الله-: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)[القيامة: 1- 2]؛ من أسرار هذه السورة أنه سبحانه جمع فيها لأوليائه بين جمال الظاهر والباطن، فزين وجوههم بالنضرة، وبواطنهم بالنظر إليه، فلا أجمل لبواطنهم ولا أنعم ولا أحلى من النظر إليه، ولا أجمل لظواهرهم من نضرة الوجه وهي إشراقه وتحسينه وبهجته؛ وهذا كما قال في موضع آخر: (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا)[الإنسان: 11].

 

والقلم الثاني عشر: القلم الجامع وهو قلم الرد على المبطلين، ورفع سنة المحقين، وكشف أباطيل المبطلين على اختلاف أنواعها وأجناسها، وبيان تناقضهم وتهافتهم وخروجهم عن الحق، ودخولهم في الباطل.

 

وهذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام، وأصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل المحاربون لأعدائهم، وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال، وأصحاب هذا القلم حرب لكل مبطل عدو لكل مخالف للرسل.

 

وفي الرياح من العبر: هبوبها وسكونها، ولينها وشدتها، واختلاف طبائعها وصفاتها ومهابها، وتصريفها وتنوع منافعها، وشدة الحاجة إليها؛ فللمطر خمس رياح: ريح تنشر سحابه، وريح تؤلف بينه، وريح تلقحه، وريح تسوقه حيث يريد الله، وريح تذرو ماءه وتفرقه.

وللنبات ريح، وللسفن ريح، وللرحمة ريح، وللعذاب ريح إلى غير ذلك من أنواع الرياح، وذلك يقضي بوجود خالق مصرف لها مدبر لها ويصرفها كيف يشاء، ويجعلها رخاءً تارةً، وعاصفةً تارةً، ورحمةً تارةً، وعذابًا تارةً.

 

وهي -مع غاية قوتها- ألطف شيء، وأقبل المخلوقات لكل كيفية، سريعة التأثر والتأثير، لطيفة المسارب، بحر بين السماء والأرض، وتحمل الأصوات إلى الآذان، والرائحة إلى الأنف، والسحاب إلى الأرض الجرز.

وهي من روح الله تأتي بالرحمة، ومن عقوبته تأتي بالعذاب، وهي أقوى خلق الله؛ والمقصود أن الرياح من أعظم آيات الرب الدالة على عظمته وربوبيته وقدرته.

 

ولخطورة اللسان جعل -سبحانه- على اللسان غلقين؛ أحدهما: الأسنان، والثاني: الفم؛ وجعل على العين غطاءً واحدًا، ولم يجعل على الأذن غطاءً؛ وذلك لخطر اللسان وشرفه وخطر حركاته.

 

وفي ذلك من اللطائف؛ فإن آفة الكلام أكثر من آفة النظر، وآفة النظر أكثر من آفة السمع؛ فجعل للأكثر آفات طبقتين، وللمتوسط طبقًا واحدًا، وجعل الأقل آفةً بلا طبق.

 

وقد جرت حكمته في شرعه وأمره حيث حرم الأغذية الخبيثة على عباده؛ لأنهم إذا اغتذوا بها صارت جزءًا منهم؛ فصارت أجزاؤهم مشابهة لأغذيتهم؛ إذ الغاذي شبيه بالمغتذي، بل يستحيل إلى جوهره.

والاغتذاء بالدم ولحوم السباع يورث المغتذي بها قوة شيطانية سبعية عادية على الناس؛ فمن محاسن الشريعة تحريم هذه الأغذية وأشباهها، إلا إذا عارضها مصلحة أرجح منها كحالِ الضرورة؛ ولهذا أكلت النصارى لحوم الخنازير فأورثها نوعًا من الغلظة والقسوة، وكذلك من أكل لحوم السباع والكلاب صار فيهم قوةً منها... ولما كانت القوة الشيطانية عارضة في الإبل أمر بكسرها بالوضوء لمن أكل منها.

 

الغذاء الإيماني: ولما كان الكافر ليس في قلبه شيء من الإيمان والخير يتغذى به، انصرفت قواه ونهمته كلها إلى الغذاء الحيواني البهيمي؛ أما المؤمن فإنه إنما يأكل العلقة؛ ليتقوى بها على ما أمر به؛ فإذا أخذ ما يغذيه ويقيم صلبه، استغنى قلبه ونفسه وروحه بالغذاء الإيماني عن الاستكثار من الغذاء الحيواني؛ فإذا قويت مواد الإيمان ومعرفة الله وأسمائه وصفاته، ومحبته ورجائه والشوق إلى لقائه في القلب -استغنى بها العبد عن كثير من الغذاء، ووجد لها قوة تزيد على قوة الغذاء الحيواني... وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق على صحته: "إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني"، وصدق الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه؛ فإن المقصود من الطعام والشراب التغذية الممسكة؛ فإذا حصل له أعلى الغذاءين وأشرفهما وأنفعهما، فكيف لا يغينه ذلك عن الغذاء المشترك؟ وإذا كنا نشاهد أن الغذاء الحيواني يغلب على الغذاء القلبي الروحي، حتى يصير الحكم له ويضمحل غذاء القلب والروح بالكلية؛ فكيف لا يضمحل غذاء البدن عن استيلاء غذاء القلب والروح ويصير الحكم له؟

 

وجعل -سبحانه- العينين مرآتين للقلب؛ يظهر فيهما ما هو مودع فيه من الحب والبغض، والخير والشر، والبلادة والفطنة، والزيغ والاستقامة؛ فيُستدل بأحوال العين على أحوال القلب، وهو أحد أنواع الفراسة الثلاثة؛ وهي: فراسة العين، وفراسة الأذن، وفراسة القلب؛ فهما - أي: العينان؛ مرآة لما في القلب، ولذلك يستدل بأحوال العين على أحوال القلب؛ من رضاه وغضبه، وحبه وبغضه، ونفرته وقُربِه.

 

صرف القوى الموجودة في الإنسان فيما ينفعه في دينه ودنياه؛ فما ابتلي بصفة من الصفات إلا وجعل له مصرفًا ومحلًّا ينفذها فيه؛ فجعل لقوة الحسد: فيه مصرف المنافسة في فعل الخير، والغبطة عليه، والمسابقة إليه.

ولقوة الكبر: التكبر على أعداء -رحمه الله- وإهانتهم.

 

وجعل لقوة الحرص مصرفًا: وهو الحرص على ما ينفع؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "احرص على ما ينفعك".

 

ولقوة الشهوة مصرفًا: وهو التزوج بأربع والتسري بما شاء.

 

ولقوة حب المال مصرفًا: وهو إنفاقه في مرضاته والتزود منه لمعاده.

 

ولمحبة الجاه مصرفًا: وهو استعماله في تنفيذ أوامره، وإقامة دينه، ونصر المظلوم، وإغاثة الملهوف، وإعانة الضعيف، وقمع أعداء الله، فمحبة الرياسة والجاه على هذا الوجه عبادة.

 

وجعل لقوة اللعب واللهو مصرفًا: وهو لهوه مع امرأته، أو بقوسه وسهمه، أو تأديبه فرسه.

 

وجعل لقوة التحيل والمكر فيه مصرفًا: وهو التحيل على عدوه وعدو الله -رحمه الله- بأنواع الحيل حتى يراغمه، ويرده خاسئًا.

 

وهكذا جميع القوى التي ركبت فيه؛ فإنها لا تزول ولا يطلب إعدامها، وقد ركبها الله فيه لمصالح اقتضتها حكمته، فلا يطلب تعطيلها، وإنما تصرف في مجاريها من محل إلى محل، ومن موضع إلى موضع، ومن تأمل هذا الموضع وتفقه فيه، علم شدة الحاجة إليه وعظم الانتفاع به.

 

حال القلب مع الملك والشيطان؛ فإذا تأملت حال القلب مع الملك والشيطان رأيت أعجب العجائب؛ فهذا يلم به مرةً، وهذا يلم به مرةً، فإذا ألمَّ به الملَكُ حدث من لمته الانفساح والانشراح، والنور والرحمة، والإخلاص والإنابة، ومحبة الله وإيثاره على ما سواه، وقصر الأمل والتجافي عن دار البلاء والامتحان والغرور، فلو دامت له تلك الحالة، لكان في أهنأ عيش وألذه وأطيبه، ولكن تأتيه لَمَّة الشيطان، فتحدث له من الضيق والظلمة، والهم والغم والخوف، والسخط على المقدور، والشك في الحق، والحرص على الدنيا وعاجلها، والغفلة عن الله ما هو من أعظم عذاب القلب.

 

ثم للناس في هذه المحنة مراتب لا يحصيها إلا الله -عز وجل-:

فمنهم من تكون لمة الملك أغلب عليه من لمة الشيطان وأقوى؛ فإذا ألم به الشيطان وجد من الألم والضيق والحصر وسوء الحال بحسب ما عنده من حياة القلب، فيبادر إلى محو تلك اللمة ولا يدعها تستحكم؛ فيصعب تداركها.

 

ومنهم من تكون لمة الشيطان أغلب عليه من لمة الملك وأقوى؛ فيموت القلب فلا يحس بما ناله الشيطان، مع أنه غاية العذاب والألم، والضيق والحصر، ولكن سكر الشهوة والغفلة حجب عنه الإحساس بذلك المؤلم.

 

وجماع الطرق والأبواب التي يصاب منها القلب وجنوده أربعة، فمن ضبطها وعدلها، وأصلح مجاريها، وصرفها في محالها اللائقة بها - ضبطت وحفظت جوارحه ولم يشمت به عدوه؛ وهي: الحرص والشهوة والغضب والحسد؛ فهذه الأربعة هي أصول مجامع طرق الشر والخير، وكما هي طرق إلى العذاب السرمدي فهي طريق إلى النعيم الأبدي.

 

وأول ما يطرق القلب: الخطرة؛ فإن دفعها استراح مما بعدها، وإن لم يدفعها قويت فصارت: وسوسة؛ فكان دفعها أصعب، فإن بادر ودفعها وإلا قويت فصارت: شهوة، فإن عالجها وإلا صارت: إرادة، فإن عالجها وإلا صارت: عزيمة.

 

ومتى وصلت إلى هذه الحال، لم يمكنه دفعها واقترن بها الفعل، ولا بد وما يقدر عليه من مقدماته، وحينئذٍ ينتقل العلاج من مقدماته إلى أقوى الأدوية، وهو: الاستفراغ التام بالتوبة النصوح.

 

ولا ريب أن دفع مبادئ هذا الداء أولًا أسهل بكثير من طلب الدواء، وإذا وازن العبد بين دفع هذا الداء من أوله وبين استفراغ بعد حصوله، وساعد القدرُ وأعان التوفيقُ - رأى أن الدفع أولى به.

وإذا تألمت النفس بمفارقة المحبوب، فليوازن بين فوات هذا المحبوب الأخس، المنقطع النكد، المشوب بالآلام والهموم، وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم، الذي لا نسبة لهذا المحبوب إليه البتة، لا في قدره، ولا في دوامه وبقائه.

 

وليوازن بين لذة الإنابة والإقبال على الله -رحمه الله-، والتنعم بحبه وذكره وطاعته، ولذة الإقبال على الرذائل والقبائح.

وليوازن بين لذة الذنب ولذة العفة، ولذة الذنب ولذة القوة وقهر الهوى، وبين لذة الذنب ولذة إرغام عدوه وردِّه خاسئًا ذليلًا، وبين لذة الذنب ولذة الطاعة التي تحول بينه وبينه، وبين مرارة فوته، ومرارة فوت ثناء الله -رحمه الله- وملائكته عليه، وفوت حسن جزائه وجزيل ثوابه، وبين فرحة إدراكه وفرحة تركه لله -رحمه الله- عاجلًا، وفرحة ما يثيبه عليه في دنياه وآخرته.

 

 وأكثر الخلق لا ينظرون في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدار، ولا يتفكرون في قلة مقامهم في دار الغرور، ولا في رحيلهم وانتقالهم عنها، ولا أين يرحلون وأين يستقرون، قد... شملتهم الغفلة، وغرتهم الأماني التي هي كالسراب، وخدعهم طول الأمل، فكأن المقيم لا يرحل، وكأن أحدهم لا يُبعَث ولا يُسأل، وكأن مع كل مقيم توقيع من الله لفلان بن فلان بالأمان من عذابه، والفوز بجزيل ثوابه.

 

يسعون لما لا يدركون، ويتركون ما هم به مطالبون، ويعمرون ما هم عنه منتقلون، ويخربون ما هم إليه صائرون.

 

والعجب كل العجب من غفلة من تُعد لحظاته، وتُحصى عليه أنفاسه، ومطايا الليل والنهار تسرع به ولا يتفكر إلى أين يُحمل، ولا أي منزل يُنقل.

 

وإذا نزل بأحدهم الموت قلِق لخراب ذاته وذهاب لذاته، لا لما سبق من جناياته، ولا لسوء منقلبه بعد مماته، فإن خطرت على قلب أحدهم خطرة من ذلك، اعتمد على العفو والرحمة، كأنه يتقين أن ذلك نصيبه ولا بد.

 

فلو أن العاقل أحضر ذهنه، واستحضر عقله، وسار بفكره، وأنعم النظر وتأمل الآيات - لفهِم المراد من إيجاده، ولنظرت عين الراحل إلى الطريق، ولأخذ المسافر في التزود، والمريض في التداوي، والحازم يعد لما يجوز أن يأتي، فما الظن بأمر متيقن؟ والنجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون.

 

 وكان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم وجرائمهم؛ فعذب عادًا بالريح الشديدة العاتية التي لا يقوم لها شيء، وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب لم يعذب بها أمة غيرهم، فجمع لهم بين الهلاك، والرجم بالحجارة من السماء، وطمس الأبصار، وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها، والخسف بهم إلى أسفل سافلين.

 

وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم، وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان، وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة؛ فماتوا في الحال، ومن اعتبر أحوال العالم قديمًا وحديثًا، وما يعاقب به مَن سعى في الأرض بالفساد، وسفك الدماء بغير الحق، وأقام الفتن، واستهان بحرمات الله.

 

فوائد متفرقة:

إن المردودين إلى أرذل العمر بالنسبة إلى نوع الإنسان قليل جدًّا، فأكثرهم يموت ولا يرد إلى أرذل العمر.

 

 ومن قل يقينه قل صبره، ومن قل صبره خف واستخف.

 

 ومن لا يقين له ولا صبر خفيف طائش، تلعب به الأهواء والشهوات، كما تلعب الرياح بالشيء الخفيف.

 

والمجد: السعة وكثرة الخير، وكثرة خير القرآن لا يعلمها إلا من تكلم به.

 

ومن عرف الله خافه، ومن لم يعرفه لم يخفه؛ فخشيته -رحمه الله- مقرونة بمعرفته، وعلى قدر المعرفة تكون الخشية.

 

والقلم بريد القلب ورسوله وترجمانه ولسانه الصامت.

 

وقوله -تعالى-: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)[الواقعة: 79]: دلت الآية بإشارتها وإيمائها على أنه لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلب المتلوث بنجاسة البدع والمخالفات أن ينال معانيه، وأن يفهمه كما ينبغي؛ فيستحيل على الحكيم أن يحرم الشيء ويتوعد على فعله بأعظم أنواع العقوبات، ثم يبيح التوصل إليه بنفسه بأنواع التحيلات.

 

والغضب غول العقل، يغتاله كما يغتال الذئب الشاة، وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته.

 

 

المصدر/ الألوكة

 

المشاهدات 483 | التعليقات 0