فوائد من الإسراء و المعراج
الشّيخ محمّد الشاذلي شلبي
الحمد لله الذي منّ على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا و اصطفاه على جميع الأنام..وأسبغ عليه جلابيب الإحسان و ألبسه حلل الأنوار و توجّه بتاج الإكرام..وخصّه بالمسرى والمعراج و أطلعه على عظيم الأسرار وآيات بيّنات عظام.. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم..
أحمده حمدا متواصلا مع الأيام، ساميا إلى عليّ مقام، ذي الجلال و الأنعام، حمد الواله بقدسه المحبّ المستهام..
و أشكره على نعمه التي عمّت العالمين، و شملت المؤمنين والكافرين، لا ينقص من ملكه شيء وهو مالك الدنيا و يوم الدين..
و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة من أخلص لله في السرّ و النجوى، و العافية و البلوى، و لزم التوحيد الخالص في جوهره و صفاءه، و سبّح في مناجاة الخلاّق العليم ببدائع صنعه في أرضه و سمائه.. اللهمّ ربّنا و أنت الحليم المنّان، واسع الفضل و العطاء و الإحسان، أمنن علينا بالثبات على التوحيد، ثباتا يصحبنا في ساعة النزع الشديد و يوم نعرض عليك في جملة العبيد.. اللهمّ نوّر بجمالك وجلالك القلوب والعقول و بلّغنا غاية المأمول..
و نشهد أنّ سيّدنا محمّدا عبدك رسولك، إمام المتّقين، و سيد المرسلين و المشفّع يوم الدّين.. أسريت به محاطا بعنايتك، وسموت به إلى السماوات العلى و أحطته بتكريمك و حفاوة أهل سدرة المنتهى.. اللهمّ فصلّ وسلم و بارك على سيدنا محمد بحر أنوارك ومعدن أسرارك و لسان حجّتك و إمام حضرتك و طراز ملكك و خزائن رحمتك و طريق شريعتك، صلاة تدوم بدوامك وتبقى ببقائك لا منتهى لها دون علمك، صلاة ترضيك وترضيه و ترضى بها عنّا يا رب العالمين..
أمّا بعد، فيا أيّها الذين آمنوا، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله يا أولي الألباب، و احذروه كما حذّركم نفسه في الكتاب، و اذكروه فإنّه يذكر من ذكره و إليه أناب، و راقبوه فإنّه الشهيد الذي لا يحجب عنه حجاب، و اجتنبوا المعاصي فإنّها المفضية إلى أعظم الأسباب، و توبوا إليه فإنّه غافر الذنب و قابل التوب شديد العقاب، و أنيبوا إليه و أسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب، و توبوا إلى الله تفوزوا منه بحسن الثواب، و تحبّبوا إليه فإنّه يحبّ من عباده كلّ محسن تواب، ومهّدوا لأنفسكم بالأعمال الصالحة في بيوت التراب، بيوت مظلمة الأرجاء مقفرة من الأخلاّء و الأحباب، شديدة الوحشية و الوحدة طويلة الإغتراب.. فيا أيها الغافلون تيقظوا فإليكم يوجّه الخطاب، و يا أيها النائمون إنتبهوا قبل أن تناخ للرحيل الركاب، قبل هجوم هاذم اللّذات ومذلّ الرقاب.
عباد الرحمان، إنّ حادثة المسرى و المعراج لمن أهمّ و أعظم و أجلّ الأحداث التي مرّ بها رسول الله صلّى الله عليه و سلم و التي كان لها أثرها الكبير في سير الدعوة إلى الله، و في علاقة البشر بربّ العالمين، ففيها رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم من آيات ربّه الكبرى، و وصل إلى سدرة المنتهى إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما كذب الفؤاد ما رأى، و فيها فرضت الصلاة.. و فرض الصلاة في هذه الحادثة و في ذلك التوقيت كان و لا يزال مغزى كبير، ومعنى عظيم، لأنّ الصلاة كما هو معروف صلة بين العبد و ربّه، و ما دام متّصلا و موصولا بربّه و خالقه، خالق كلّ شيء وموجد الأكوان و العوالم، فإنّه بذلك يسمو و يعلو و يرتفع و يقترب من الملإ الأعلى فتصبح الدنيا بما فيها ومن فيها لا وجود لها في حسّه لأنّه يكون مشغولا بربّ الدنيا عن الدنيا. و الصلاة رباط يربط الإنسان بخالقه كلّ يوم، فيضمن بذلك استقامة حياته، و يلي ذلك استقامة أسرته، فمجتمعه فأمّته، فيسود في الأرض العدل و السلام و المحبّة و الوئام، و إذا تخلّف عن الصلاة وعن صلته بربّه، فليس له إلاّ الشقاء و الظلم و الضياع هو و أسرته و مجتمعه و أمّته.
جاءت حادثة المسرى و المعراج الجليلة بعد أن قطعت الدعوة إلى الله في مكّة المكرّمة شوطا كبيرا و بعد أن فشا الإسلام في قريش و في القبائل كلّها، وكان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة بعام تقريبا، وكان لها صدى عظيم بين أهل مكّة من المسلمين و المشركين، فقد ارتدّ كثير ممن كان قد أسلم و بقي آخرون على الإسلام، و لقّب أبو بكر بالصدّيق بعد هذه الواقعة، لأنّهم عندما جاءوه بالخبر، متوقّعين أن يكون للحادثة وقع سيء على أبي بكر رضي الله عنه، كان ردّه عليهم مفحما مخيّبا لآمالهم، فقد قال لهم : " إن كان قال ذلك فقد صدق " و قد كانت ثقته في الله و في رسوله لا حدود لها، كيف لا و الله تعالى أرسل نبيّه محمّدا ليبلّغ للناس رسالته و بعثه إلى الإنسانية الضّالة فأخذ بيدها من الضياع و انتشلها من الهلاك و أنقذها من الضلال و من المصير المشؤوم. إن كان قد قال ذلك فقد صدق، ثمّ أقبل الصدّيق حتّى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا نبيّ الله أحدّثت هؤلاء القوم أنّك جئت بيت المقدس هذه الليلة ؟ قال عليه الصلاة و السلام: " نعم "، قال: يا نبيّ الله فصفه لي فإنّي قد جئته.. فقال صلّى الله عليه و سلّم: " فرفع لي حتّى نظرت إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يصفه لأبي بكر، و يقول أبو بكر: صدقت، أشهد أنّك رسول الله.. حتّى إذا انتهى قال رسول الله لأبي بكر: " و أنت يا أبا بكر الصدّيق ( فيومئذ سمّاه الصدّيق ).. و في حديث للبخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه و سلم يقول: " لمّا كذّبتني قريش قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته و أنا أنظر إليه " .. و معنى جلى الله لي بيت المقدس: أي كشف الحجب بيني و بينه حتى رأيته.. و قيل أنّ جبريل عليه السلام أحضر بيت المقدس و وضعه أمام الرسول صلى الله عليه و سلم، فصار يصفه بابا، بابا وموضعا، موضعا، فقالوا: أمّا النعت فقد أصاب، فأخبرنا عن عيرنا، وكانت لهم عير قادمة من الشام، فأخبرهم بعدد جمالها و أحوالها و قال صلّى الله عليه وسلم: "تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس"، فخرجوا ذلك اليوم فقال قائل منهم: هذه و الله الشمس قد أشرقت، فقال آخر: و هذه العير قد أقبلت كما قال محمد، ثم لم يزدهم ذلك إلاّ كبرا و عنادا حتى قالوا: هذا سحر مبين..
و عن أنس قال: كان أبو ذرّ يحدّث أنّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم قال:" فرج عن سقف بيتي و أنا بمكّة، فنزل جبريل، ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثمّ أُتيتُ بدابة دون البغل و فوق الحمار، أبيض وهو – البراق – يضع خطوه عند أقصى طََرفهُ فحُملت عليه، حتى انتهى إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم الخليل وموسى و عيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له صلى الله عليه و عليهم أجمعين و سلم، فأمّهم ركعتين، ثم أُوتي بثلاث أواني – إناء فيه لبن، و إناء فيه خمر، و إناء فيه ماء.. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" سمعت قائلا يقول حين عرضت عليّ: إن أخذ الماء غرق و غرقت أمّته، و إن أخذ الخمر غوى و غوت أمّته، و إن أخذ اللبن هُدي و هُديت أمّته، قال: فأخذت إناء اللبن فشربت منه، فقال لي جبريل عليه السلام: هُديت و هُديت أمّتك يا محمّد، الحمد لله الذي هداك للفطرة، وحُرّمت الخمر على أمّة سيّد الخلق ".. ثمّ قال عليه الصلاة والسلام: " ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلمّا جئت إليها قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: من هذا ؟ قال: هذا جبريل. قال:هل معك أحد ؟ قال:نعم،معي محمّد صلى الله عليه و سلم. فقال: أ أرسل إليه ؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد، على يمينه أُسوَدَةٌ و على يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى، فقال: مرحبا بالنبيّ الصالح و الابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا ؟ قال: هذا آدم، و هذه الأسودة عن يمينه و شماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنّة، و الأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. ثمّ عرج بي إلى السماء الثانية، فقال له خازنها مثل ما قال الأوّل، ففتح، فلمّا خلصت إذا بيحيى و عيسى و هما ابنا خالة، قال: هذا يحيى و عيسى فسلّم عليهما. فسلّمت، فردّا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح و النبيّ الصالح. ثمّ صعد إلى السماء الثالثة فقال لخازنها افتح، فقال له خازنها مثل ما قال الثاني، ففتح، فلمّا خلصت إذا يوسف، قال هذا يوسف فسلّم عليه، فسلّمت عليه فردّ ثمّ قال: مرحبا بالأخ الصالح و النبيّ الصالح. ثمّ مررت بموسى و هارون و إدريس و إبراهيم الخليل عليهم السلام.. و قالوا كلّهم مثلما قيل في الأول غير أنّ إبراهيم قال: مرحبا بالابن الصالح و النبيّ الصالح. ثم قال صلى الله عليه و سلم من حديث ابن عباس و أبا حبّة الأنصاري: " ثم عرج بي حتّى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام "..
أثناء عروجه أمر الله تبارك وتعالى جبريل عليه السلام أن يكشف للرسول صلى الله عليه و سلم صورة من صور العذاب الذي يلقاه من لم يجتنب المعاصي و آثر الحياة الدنيا على نعيم الآخرة. يقول عليه الصلاة والسلام: " رأيت رجالا لهم مشافر كمشارف الإبل ( شفّة البعير )، في أيديهم قطع من نار كالأفهار ( الفهر: حجر في مقدار كفّ اليد ) يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم . فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء أكلة مال اليتامى ظلما . ثمّ رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون ( و آل فرعون لهم في الآخرة أشدّ العذاب ) يمرّون عليهم كالإبل المهبومة ( المهبومة: العطاش ) حين يعرضون على النار يطئونهم لا يقدرون على أن يتحوّلوا من مكانهم ذلك. قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء أكلة الربا. و في رواية رأيت أناس من أمّتي يسبحون في أنهار الدمّ، قلت: من هؤلاء ؟ قال: أكلة الربا ومال اليتيم و عرق الجبين.. ثمّ رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيّب، إلى جنبه لحم ضعيف هزيل نتن، يأكلون النتن و يتركون الطيّب. قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحلَّ الله لهم من النساء و يذهبون إلى ما حرّم الله عليهم منهنّ.. ثمّ رأيت نساء معلّقات من ثديهنّ. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاّتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم. و في رواية أولئك هنّ الزانيات.. ثمّ رأيت رجالا تكسّر رؤوسهم بالحجارة فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟قال: هؤلاء الذين يتأخّرون عن أداء فريضة الصلاة..
يا أحباب محمّد، لم يكن مرور حبيبكم صلى الله عليه وسلم على مثل هؤلاء القوام وهو يعرج إلى السماء السابعة و إلى سدرة المنتهى ليحظى و يسعد و يشرّف بالوقوف بين يدي الله في الحضرة الإلهية أمرا جزافا، بل كان أمرا ذا دلالة على وجوب تطهّر المسلمين من أدران الدنيا لمن يستشرف منهم بالوقوف بين يدي الله، يصلّي لخالقه ومولاه خمس مرّات في اليوم و الليلة، محافظا على صلته بخالقه مرتبطا برحمته ساعيا إلى فضله وكرمه، وحتى يكون العبد وثيق الصلة بربّه، فلا بدّله لكي تقبل صلاته أن يمتثل قول الحقّ تبارك وتعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
" قل تعالوْا أتلُ ما حرّم ربّكُمْ عليكم ألاّ تُشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا و لا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم و إياهُم و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق ذلكم وصّاكم به لعلّكم تعقلون* و لا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه و أوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلّف نفسا إلاّ وسعها و إذا قلتم فاعدلوا و لو كان ذا قربى و بعهد الله أوفوا ذلكم وصّاكم به لعلّكم تذكّرون* و أنّ هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه و لا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلّكم تتّقون* الأنعام 151/153 .
هذه هي الفوائد التي يمكن لنا أن نجنيها من قراءتنا لحادث الإسراء و العروج العظيم الذي ساقه الله تعالى في ذلك الوقت العصيب في نهاية الفترة المكيّة، و قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه و سلم إلى المدينة المنوّرة بعام، و ليُثبّت الذين آمنوا، و ليكون نبراسا للمسلمين بعد ذلك و على مرّ العصور، يستلهمونه العظة والعبرة والدرس، لا أن يقيموا الاحتفالات بذكره كلّ عام و إلقاء الخطب و الأشعار و إتّباع العادات و التقاليد التي ما أنزل الله بها من سلطان، متغافلين عن تدبر أمر ذلك الحدث العظيم، معرضين عمّا ينطوي عليه من معان سامية وعظات بليغة.
نسأل الله تبارك و تعالى لنا وللمسلمين صلاح الحال والهداية إلى الصراط المستقيم، و أن يرشدهم إلى ما فيه من عبر وما ينطوي عليه من أمور ترسّخ الإيمان في النفوس، وتعصم المسلمين من الوقوع في براثن الشيطان، و أن يُقبلوا على ربّهم تائبين إليه، عازمين على الالتزام باتّخاذ الرسول صلى الله عليه و سلم قدوة حسنة تصديقا لقول الحقّ تعالى: " لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ". الأحزاب 21 .
صدقت ربّنا و بلّغ رسولك الكريم و نحن على ذلك من الشاهدين.
أقول ما تسمعون فإن كان حسن فمن الله وحدهن و إن كان غير ذلك فمن نفسي و من الشيطان و أستغفر الله العلي العظيم لي و لكم و لوالدي و لوالديكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم و لا حول و لا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
الثّــــــــانية: حاجة النبيّ إلى حماية داخل البيت و أخرى خارجه..
الحمد لله رفيع الجناب، الذي بعث فينا سيّد الأحباب، و أوحى إليه بأعظم كتاب، و أحاطه بصفوة الأصحاب.. أحمد الله و أسأله الهدى و الرّشاد.. و أشكره أن يريني الحقّ حقّا و يرزقني إتباعه و يحببني فيه، و يريني الباطل باطلا و يرزقني اجتنابه و يكرهني فيه، و منه العون و السدّاد..
و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة نقيّة صفيّة زكيّة طاهرة، أدّخرها لي و لكم ليوم العرض على الواحد الأحد الفرد الصّمد، لم يتّخذ صاحبة و لا ولدا، سبحانه لا معبود بحقّ سواه..
و أشهد أنّ سيّدنا محمّدا صلى الله عليه و سلم رسوله المصطفى، و خليله المجتبى، أصدق من وعد من خلقه و وفى، و أشكر له أن جعلني من أتباعه و كفى.. اللهمّ فصلّ و سلّم و بارك عليه و على آله و صحبه و كلّ من خاف ربّه و اهتدى..
أمّا بعد، فأيّها الذّين آمنوا، يا أحباب محمّد، فالحقّ سبحانه و تعالى حينما أمر محمّدا صلى الله عليه و سلّم أن يجهر بدعوته، عاداه القوم عداء بلا هوادة، إلاّ أنّ هذا العداء لم يمنع تسرُّب هدى الإيمان إلى نفوس كثير من الناس من عشيرته الأقربين، و من قومه الذين يعلمون صدقه فيما جاء به، و أنّه لم يكذب عليهم حتّى في أُمورٍ بينهم.. فكيف يكذب على الله تبارك و تعالى؟..
و كان النبيء محمّد صلى الله عليه و سلم في حاجة مادية إلى أن يُحْمى حمايتين:
* الأولى من الكفّار في الخارج..
* و الثانية في ساعة راحته و سكونه و هدوئه في البيت..
و كان عمّه أبو طالب يحميه في الخارج من أذى كفّار قريش، و أذى المشركين من سكّان جزيرة العرب، و كان كفر أبي طالب سببا من الأسباب التي جعلت الكفّار يجاملونه بعض المجاملة..
و كانت السيّدة خديجة رضي الله عنها في البيت هي السكن الذي يلجأ إليه الرسول صلى الله عليه و سلم، فتمسح بيدي الحنان، و بيدي العطف، و بيدي الرّعاية، و بيدي العناية على متاعبه من حركة الحياة التي يحياها عليه الصلاة و السلام..
فكأنّ الحقّ سبحانه قد هيّأ لحمايته صلى الله عليه و سلّم، و لنصرته، و لمؤازرته مصدرا إيمانيا في البيت كان من خديجة، و مصدرا كفريّا في الخارج كان من عمّه أبي طالب.. و لكنّ الله تبارك و تعالى شاء أن تتوفّى زوجته خديجة بنت خويلد في نفس العام الذي توفّي فيه عمّه أبو طالب.. و لكنّه صلى الله عليه و سلم كان يعلم تماما أنّ الله تعالى لا يُسلِمه، إلاّ أنّه مع ذلك أخذ يُعمِل فكره، و يُعمل بصيرته، و يُخطّط لينطلق بالدّعوة بالأسباب البشريّة التي يقدر عليها.. و ما كان منه في هذا الجوّ الخانق في مكّة إلاّ أن يلتمس منطلقا للدّعوة، لعلّه يجد نصيرا خارجيّا، فقام برحلته إلى الطّائف، و فيها وجد خلاف ما اعتقد، و حدث أن آذوه بالفعل، و اضطهدوه و سلّطوا عليه سُفهاءَهم حتّى أدموا عقبيه، فوقف موقف الضّارع إلى الله تبارك و تعالى بعد أن فقد أسباب البشر..
هنا نقف وقفة عند الدّرس الأوّل من هذا الحدث العظيم: فالإنسان الذي يمدّه الله سبحانه بالأسباب، عليه أن يستعمل هذه الأسباب، و أن يجتهد وسعه في أن يستخدمها في الوصول إلى أغراضه، و حين يلجأ إلى الله تعالى و معه الأسباب، يردّ الله عزّ و جلّ رجاءَه، لأنّه لا تزال معه الأسباب.. و لكن إذا ما أصبح صلى الله عليه و سلم مضطرّا، و قد أعيته الأسباب في الأرض، فوقف موقفه الضّارع إلى الله تبارك و تعالى و دعا دعاءه المشهور، فقال:
" اللهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي، و قلّة حيلتي، و هواني على الناس، يا أرحم الرّاحمين.. أنت ربِّ المستضعفين و أنت ربّي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهّمني، أم إلى عدوٍّ ملّكته أمري.. إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أُبالي، و لكن عافيتك هي أوسع لي.. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظّلمات، و صَلُحَ2 عليه أمر الدّنيا و الآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو تحلّ عليَّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، و لا حول و لا قوّة إلاّ بالله ".
دعاءٌ فيه كلّ مقوّمات الإيمان و اليقين توجّه عليه الصلاة و السلام به إلى ربِّه تعالى، رضى بما ناله في الله، و استرضاء لله، لأنّه يعلم صلى الله عليه و سلم أنّ الله لن يخذله، و دعاؤه معناه أنّه قد استنفذ كلّ الأسباب، و لم يجد إلاّ عداءً و بُعْدا، فلا بدّ إذن من عناية الله و حمايته سبحانه و تعالى مباشرة و بلا أسباب.. و كانت مشيئته تعالى أن يبيّن له جفاء أهل الأرض، و لكن لا يعني ذلك أنّه سبحانه قد تركه، فالله سبحانه سيعوّضه عن جفاء الناس في الأرض، بحفاوة الملأ الأعلى، و سيريه من آياته الكبرى ما يثبّت به فؤاده و يعينه على أداء رسالته.. و لكن الله تركه للأسباب أوّلا، ليجتهد فيها حتّى يكون أسوة لأمّته في ألاّ تدع الأسباب.. و كانت ليلة عظيمة الشأن..
و كان حدث الإسراء.. و حدث المعراج.. فالله تعالى شاء أن يجعل لرسوله صلى الله عليه و سلم هذه الرحلة العلوية، حتى يعلمه بعلوّ منزلته عند ربِّه، كما يعلمه أنّ في عناية الله سبحانه عوضا عن كلّ مفقود، و أنّ الملكوت الأعلى سيحتفي به حفاوة تُذْهِبُ عنه عناء كلّ هذه المتاعب، و سيعطيه ذلك الاحتفاء و تلك الحفاوة دفعة قويّة، لتكون أداته في منطلقه الجديد بإذن ربِّه تبارك و تعالى..
فيا مؤمن بالله و اليوم الآخر، و يا صاحب النفس الزكية، تأهب للرحيل، و استعدّ للسفر الطويل، بصالح الأعمال و خلوص النيّة.. فتوبوا إلى الله أيها المؤمنون و صلوا و سلموا على نبيّكم الأمين المأمون، الذي أمرتم بالصلاة و السلام عليه قديما بقول الحق تبارك و تعالى: " إنّ الله و ملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما ". اللهمّ فصلّ و سلّم و زد و بارك على سيّدنا محمّد المخصوص بألم نشرح لك صدرك.. و ارض عن أبي بكر الذي نال من أهل الردّة مناه و أدرك.. و عن عمر الذي كان إسلامه على المؤمنين أيمن و أبرك.. و عن عثمان الذي جمع القرآن و لم يلحق التلاوة و لم يدرك.. و عن عليّ الذي ما سجد لصنمٍ قطّ و لا أشرك.. خصوصا عن سيّدي شباب أهل الجنّة أبي محمّد الحسن و أبي عبد الله الحسين.. و عن أمّهما سيّدة النساء فاطمة الزهراء رضي الله عنهم أجمعين.. و عن عمّيه المكرّمين بين الناس أبي عمارة حمزة و أبي الفضل العبّاس.. و عن الستّة الباقين و عن باقي الصحابة أجمعين و عنّا و معهم و فيهم برحمتك يا أرحم الراحمين..