(فليستعذ بالله ولينته) .. عن الوسوسة
سامي بن محمد العمر
(فليستعذ بالله ولينته)
أما بعد:
داء سفاك، ومرض فتاك..
تنطع وشقاء، عذاب وبكاء، خجل وحياء، وغفلة من الآباء والأولياء.
داء لا يفرق بين كبير وصغير، وذكر وأنثى، وعالم وجاهل، شريف ووضيع..
أناس قادرون على ترك الخطأ الذي يعرفون أنه خطأ ثم لا يتركونه، ويجرون أنفسهم إليه جرا ولا ينكرونه، مع أنه ليس من اللذات، ولا من شهوات النفس المحببات، ولا فيه معنى سوى تعذيب النفس والغلو في الدين ومخالفة السنة، وطاعة إبليس وقبول غشه([1]).
لا يكاد عجبك ينقضي من شدة تلاعب الشيطان بهم، واستسلامهم له، وطاعتهم لوحيه، فتحمد الله على العافية، وتسأل لهم الشفاء.
الوسوسة: أصل كل بلاء ومعصية، ومقاومتها والاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه([2]).
فهي شر في الحال والمآل.. فكم دمرت من بيوت، وكم أهلكت من مواهب، وكم طمست من شموس، وكم أردت من نفوس..
الوسوسة: خواطر رديئة تتكرر على المرء وتدفعه لفعل ما لا خير فيه، أو ما فيه ضرر محقق.
والوسوسة: تنشأ من الجهل بالشرع، والخبل في العقل، والضعف في العزيمة والإرادة، وقلة اللجأ إلى الله،، وهذه في المرء من أعظم النقائص والعيوب.
نطقٌ بالنوايا، وتكرار للوضوء، وإسراف في المياه، وإعادة للتكبير، وتشديد في مخارج الحروف، وتنطع في النجاسات، وشكوك في التصرفات، وإيقاع الطلاق بظنون متوهمات.. وانعدامٌ للسعادة، وفقد للطمأنينة والراحة، وتعطل عن المهمات، وتخبط في الأولويات..
في مشاهد يرى أصحابها أنهم يتبعون شريعة سمحة لكنهم يعسرونها .. وأوامر إلهية ميسرة، ولكنهم يشددونها .
(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ..
عباد الله:
لا شك أن للشيطان أثرا كبيرا في نشأة هذا الداء وبقائه، لكنه لا يدخل قلبا إلا إذا أذن له صاحبه بالدخول ..
إذنًا يظهر من أفعال المرء وإن لم يصرح به..
فأهل الغلو والتكلف والتشدد والتنطع ، وضعاف الصلة بالله والقرب منه، والمهملون لسلاح الأدعية والأذكار، ومحبو العزلة والانفراد عن الناس، ومن به خور في العزيمة والإرادة، وخلل في العقل، والناشئون على الخجل والانطواء ... كل هؤلاء فرائس سهلة لأنياب الشيطان وجنده .. لا يألوا جهدا أن يدمر عليهم حياتهم، ويذيقهم كأس الشقاء، وصنوف العذاب والبلاء ..
في مراحل متتابعة لا تقف عند حد الوسوسة في نية وطهارة ونجاسة .. حتى تصل بصاحبها إلى الوسوسة في أمور العقيدة فيخرج المرء بذلك إلى ما لا تحمد عقباه.
ومن لا يعرف مداخل الشيطان .. فليعلم أنه قد كان سببا في إخراج أبوينا من الجنة بوسوسته حيث يقول الله تعالى (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ..
فمن ذا يطيع الشيطان وقد حلف لأبويه بالنصيحة فنكل؟، وحلف على أبنائه بالعداوة وفعل
(قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)).
الشيطان: اسم لعداوة لا بد أن تؤصل في القلوب ..
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)).
وتلك - أيها الأولياء والنصحاء - أولى مراحل علاج الموسوسين:
فأقنعوهم أن الله أرحم بهم من كل شيء، وأن شريعته أسمح من كل شيء، وأنه بعث رسله للناس ليؤمنوا ويسعدوا، لا ليشقوا ويبأسوا..
وأن من ظن في الله سوى ذلك .. فقد أسلم قياده لشيطانه الذي لن يهدأ حتى يكون قرينه في النار ، وبئس القرار.
وما هو بأهلٍ للفتوى إذ يقول لك في العبادة أعد، ولا هو بأهلٍ للنصيحة حين يقول مني استفد، وإنما هو أهل للقمع بسياط الاستعاذة، والدفع بعزيمة التوقف والانتهاء.
قال بعض السلف لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا؟ قال: أجاهده .
قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده .
قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده .
قال : هذا يطول، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنعك من العبور ما تصنع ؟ قال: أكابده وأرده جهدي .
قال: هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكُفُّه عنك.
وفي الحديث يقول رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم-: «يأتي الشيطانُ أَحدَكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول فمن خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله، ولينتَهِ».
وتلك - أيها الأولياء والنصحاء - ثانية مراحل العلاج النبوي:
ألا يَسمح الموسوس أو لا يُسمح له بأن يكرر فعلا أكثر من مرة، مهما غالبته الخواطر الرديئة واستحكمت عليه، فإنها سرعان ما تنفك عنه إذا اصطدمت بقوة الإرادة، وصلابة العزم.
وثالث مراحل العلاج: أن اليقين لا يزول بالشك، فلا يجوز لموسوس أن يخرج من صلاته لشك في انتقاض الطهارة، حتى يكون ذاك عن يقين، وكثير من الموسوسين من شدة غلبة الوسواس عليهم يحكم العلماء بزوال الإحساس منهم، وعدم الحكم به، ويلزمونهم بالاستمرار في العبادة.. وهكذا حتى يشفوا من هذا الداء.
ومن أوجه العلاج: أن يبادر المبتلى بإخبار من يرى قدرته على عونه في تجاوز بلائه، وأن يفعل ذلك من يلاحظ في أخيه نزعة إلى الوسوسة، فإن البلاء في بدايته تسهل معالجته ودفعه، وعند استحكامه يثقل نقله، يصعب رفعه.
وأما إذا وصل الأمر إلى درجات متقدمة من الانهيار أمام الوسواس فإن الأخذ بالأسباب الطبية أمر مشروع في هذا الدين الحنيف (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما )
وفي الحديث: ( وما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء)
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيقول ابن قدامة رحمه الله في كتابه (ذم الموسوسين):
"ثم ليُعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيهم موسوس.
ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته، وهم خير الخلق وأفضلهم، ولو أدرك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الموسوسين لمقتهم، ولو أدركهم الصحابة لأدبوهم" ا.ه
العاقل يا عباد الله من يعلم أن مظاهر الوسوسة لا تعد ولا تحصى كمثل أوراق الشجرة، وعلاجه بقلع الشجرة من أصلها لا بمعالجة كل ورقة لوحدها...
فأعينوا إخوانكم بتقوية العزيمة ، وتجديد الإيمان، وبيان حقيقة الشيطان، وإيضاح عواقب طاعته الوخيمة، وأرشدوهم للاستعانة بالأطباء، ولا تكون عونا للشيطان عليهم .. بنظراتكم المحرقة، وأقوالكم الجارحة، وتصرفاتكم القاتلة.
اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا مريضا إلا شفيته ولا مبتلى إلا عافيته ...
([1]) ينظر: ذم الموسوسين لابن قدامة (ص: 41)
([2]) التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم (ص: 673)
المرفقات
بالله-ولينته
بالله-ولينته