فلا تسودوا وجهي
سامي بن محمد العمر
الكل يعلم أن الأمة المسلمة إنما تنبني على تلك الأسرِ الصغيرة؛ المرتبطة بالزواج ليحفظ على الشاب والشابّة دينهما وعرضهما ويضبط عليهما عواطفهما فلا تمتدّ العين إلى محرم، ولا تهفو النفس إلى محظور، ولا يجاوزان بالفطرة حدود الله([1]).
وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوجْ، فإنه أَغَضُّ للبصر، وأحصن للفرج، .... الحديثَ) متفق عليه.
والزواج وتكوين الأسرة المسلمة يُبنى على التوافق في التفكير والسلوك والوضع الاجتماعي والحالة المالية.
فليس الزواج علاقةَ يومٍ أو يومين؛ وإنما هو سكن أبدان، ورباط مودة وحنان {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
فالمودة: حبٌّ مع تعقل، وغرام مع تبصر، وعاطفة مع النظر في العواقب والنتائج، وهذه لوحدها لا تكفي لبناء أسرة سعيدة وعلاقة وطيدة؛ حتى تحاط من كل جوانبها بالرحمة في الأخذ والمنع، والرضا والغضب، والفرح والترح، والصفو الكدر!
والأزواج الحقيقيون هم الذين أقاموا بيوتهم على أساس الحب والتفاهم والتعاون، وأحاطوه بسياج الرحمة والعطف واللين؛ فصارت بيوتهم كالجنان ولو كان فيها مشاكل، وحلّ فيها الأمان ولو وجدت بها منغصات.
وفي بيوت الأزواج الحقيقين: تحل الطمأنينة، وتعشعش السكينة، ويغلب الخير، ويتضعضع الشر، ويظهر اللين، ويزول العنف، ويتفوق الأبناء، ويبرز النوابغ.
أما تلك الأسر الهشة التي لا تعي أن الزواج ميثاق غليظ فما أسرع أن تدب فيها الخلافات، وتزداد الصراعات التي يجهل كثيرون منهم عواقبها ويغفلون عن نتائجها بهوى مطاع، وجهلٍ يقلب الأوضاع؛ فيكون الطلاق المتسرع بلا قيود الفطرة الحكيمة، ولا آداب الشرع القويمة؛ فتنحل العقدة، وينقطع الحبل، ويتمزق الشمل.
روى مسلم عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ". (مسلم. 5032) .
إن اختلاف الأزواج أمر طبعي؛ لاختلاف العقول والاهتمامات والمشاعر، والحياة تكامل وانسجام، وصبر وتحمل؛ فمن أبدى لك اليوم أمرًا مسيئاً فلقد أبدى لك بالأمس أمرًا جميلاً؛ وصلى الله وسلم على نبينا محمد بأبي هو وأمي إذ يقول: (لا يَفْرَكْ - أي: يبغض - مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقاً رضي منها خلقًا آخر)([2]).
وعلى أرباب الأسر أن يتجاوزوا تلك الخلافات النكِدة إلى تحمُّلِ المسؤولية العظيمة التي كلفهم الله بها من تربيةِ الأولاد وصنعِ أسرة فاعلة في خدمة دينها ووطنها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
ولن تحصل السعادة للأسرة والوقاية من الشرور في الدنيا والآخرة حتى يتمثل الوالدان صنيع أبيهم إبراهيم عليه السلام؛ فقد كان واضح الهدف في كل أعماله، صريح الخطاب في كل أقواله؛ فليس عنده مرمىً يُصوِّب عليه، ولا هدفٌ يرمي الوصول إليه: أعز ولا أكبر ولا أعظم من توحيد الناس لرب العالمين..
وأولى من يحرص عليهم في ذلك أهلُه وأولاده: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}
فلا خير في تربية تُعظم غير الله، ولا خير في أبناء لا يعرفون الله، ولا خير في أسرة تستهين بأوامر الله، والابن بلا توحيد مشروع فاشل؛ سرعان ما ينهار على نفسه وأهله وأمته.
ثم لا بد من التعظيم الدائم لله تعالى في قلوب الناشئة حتى يستشعروا في كل أقوالهم وأفعالهم أنهم يرون الله أمامهم، وأنه يراهم في كل أحوالهم، وبذلك ترتدع القلوب والجوارح عن كل خطيئة تغضب الرب، وينال الابن من الله المحبةَ والقرب والرضا.
{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}
وعلامة الصلاح وأمارة التوفيق والفلاح تكمن في محافظة الأولاد على الصلاة وتعظيمهم لها - ولو وجد فيها قليل من التقصير - فالله أكرم وأرحم بهم منا.
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}
ثم لا بد أيضًأ من حرص الآباء على أمن البلاد، فهو بيئة التربية الصحيحة، ومزرعة الغراس المثمر، وبلد بلا أمن واستقرار قلَّ أن يسلم أبناؤه من الانحراف وتردي الأخلاق والأفكار. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}
بارك الله لي ولكم في القرآن ....
الخطبة الثانية
أما بعد:
فأنصتوا أيها الأزواج لرغبة حبيبكم صلى الله عليه وسلم التي صرّح بها في حجة الوداع حين خطب الناس يوم النحر فكان مما قال: ((ألا وإني فرطكم على الحوض أنظركم، وإني مكاثر بكم الأمم، فلا تسوِّدُوا وجهي))([3]).
أي: لا تُدخلوا عليّ الكدر والضيق عند الناس بقبيح فعالكم، ولا تعملوا عملاً يحزنني ويُسيئني.
ألا إن في كثرة الطلاق والخلع الذي انتشر في زماننا هذا معارضةً لرغبة النبي صلى الله عليه وسلم في المكاثرة بأمته يوم القيامة وهذا أمرٌ - بلا شك - يسؤوه ويحزنه.
فاتقوا الله أيها الأزواج؛ وسيروا على مراد الله منكم قبل أن يستأسِدَ الحَمَلُ، ويستنوِقَ الجملُ، وتنهدمَ البيوت على أصحابها؛ وتتقطعَ الأواصر، وتتبدلَ الفطر؛ وتنتكسَ الموازين؛ وتنحرف الأمور إلى ما لا تحمد عقباه.
اللهم اهدنا لما تحب وترضى...
([1]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 295)
([2]) أخرجه مسلم (1469).
([3]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (23497)؛ وقال المحققون: إسناده صحيح.
المرفقات
1727358655_فلا تسوِّدوا وجهي.docx
1727358744_فلا تسوِّدوا وجهي.pdf