فقه العيد ووداع الشهر الكريم..1440/9/26هـ

عبد الله بن علي الطريف
1440/09/24 - 2019/05/29 18:47PM
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ المنعمِ علينَا بمواسِمِ الخيراتِ، والـمُتَفَضِلِ علينَا بعظيمِ الهباتِ، نحمدُه تعالى ونشكُرُهُ، ونتوبُ إليه ونستَغفرُه، وأشهدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً أما بعد..
أيها الإخوة: اتقوا اللهَ حقَ التقوى واستَمسِكُوا من الإسلامِ بالعروةِ الوثقى، واحذَرُوا أسبَابَ سخطِ الجبَارِ فَإِنَّ أجسَادَكُم علَى النَّارِ لا تَقْوى..
أيها الأحبة: هذا شهر رمضان قد قارب تمامه، وتصرمت لياليه وأيامه؛ فمن كان منا محسناً فيه فعليه الإكمال والإتمام، ومن كان مقصراً فليختمه بالتوبة والاستدراك فالعمل بالختام... واستثمروا ما بقي من أوقاته بما يقربكم إلى ربكم.
واعلموا وفقني اللهُ وإياكم أن اللهَ قد شرعَ لنا بعد ختامِ الشهرِ عباداتٍ جليلةً نزدادُ بها إيمانًا، وتكمُلُ بها عبادتُنا؛ شرعَ لنا زكاةَ الفطرِ، والتكبيرَ، وصلاةَ العيدِ.
أما زكاةُ الفطرِ فقد فرضَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على المسلمين، وما فرضَهُ رسولُ اللهِ فلهُ حكمُ ما فرضهُ اللهُ سبحانَه أو أمرَ به، قالَ الله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر:7].
وقَالَ عَبدُ الله بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ". متفق عليه.
والواجبُ في الفطرةِ أن تخرجَ من طعامِ الآدميين من تمرٍ أو برٍ أو أرزٍ. ومقدارُها صاعٌ، ومقدارُ الصاعِ النبويِّ كيلوان وأربعون غرامًا، ويجبُ على المسلمِ أن يخرجَها عن نفسِه وعن كلِّ من تلزمُه نفقتُه من زوجةٍ أو قريبٍ، إذا لم يستطيعوا إخراجَها عن أنفسِهم؛ فإن استطاعوا كأنْ يكونَ لهم راتبٌ أو مالٌ؛ فالأولى أن يخرجوها عن أنفسِهم؛ لأنهم المخاطبون بها أصلاً، ومن أخرجها عن خَدَمِهِ فعليه أن يستأذنَهم في ذلك.
وتجبُ بغروبِ الشمسِ ليلةَ العيدِ، ويجوزُ إخراجُها قبلَ العيدِ بيومٍ أو يومين، ومن أخرجَها بعدَ صلاةِ العيدِ بلا عذرٍ فهي صدقةٌ منَ الصدقاتِ، لا تبرأُ بها ذمتُهُ إلا أن يكونَ معذورًا؛ لأنه خِلافُ أمرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: ادفعوها إلى فقراءِ المكانِ الذي أنتم فيه وقتَ الإخراجِ، سواءً أكانَ محلُّ الإقامةِ أم غيرُه من بلادِ المسلمين، لاسيما إِنْ كانَ مكانًا فَاضِلاً كمكةَ أو المدينةِ، أو كانَ فقراؤُه أشدَّ حاجةٍ.
والأفضلُ أن يدفعَها الإنسانُ بنفسِه، فإِنْ لم يستطعْ أو لم يعرفْ الفقراءَ فجمعيةُ البرِّ الخيريةِ بعنيزةَ تستقبلُها في مواقِعَ مُتعددةٍ منْ البلدِ وتقومُ بدفعِها للفقراءِ، وللجمعيةِ تأخيرُ إخراجِها عن يومِ العيدِ لأنها وكيلٌ عنْ الفقراءِ في قَبضِها من المتصدقينَ كما افتى بذلِكَ شيخُنا محمدُ العثيمين رحمه الله. وحسِّنوها وكملوها، ولتكنْ مِنْ أطيبِ أموالِكم التي تجدون، فـ(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92]، (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [البقرة:267].
أيها الأحبة: ومما يشرعُ لكم بعدَ إكمالِ العدةِ التكبيرُ، ووقتُه من غروبِ الشمسِ ليلةَ عيدِ الفطرِ إلى صلاةِ العيدِ، قال الله تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185] أي: ولتذكروا اللهَ عندَ انقضاءِ عبادتِكم، وهذه الآيةُ دليلٌ على مشروعيةِ التكبيرِ في عيدِ الفطرِ من دخولِ شوالَ إلى الفراغِ من خطبةِ العيدِ.
وصيغةُ التكبيرِ: اللهُ أكبر اللهُ أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وإن قال: الله أكبر- ثلاثًا فلا بأس، ويسنُ الجهرُ بهِ للرجالِ في المساجدَ والأسواقِ والبيوتِ، إعلانًا لتعظيمِ اللهِ، وإظهارًا لعبادتِه وشكرِه. ويُسِرُّ به النِّسَاءُ؛ لأنهن مأموراتٌ بالتسترِ والإسرارِ بالصوتِ، إلا إن كنَّ في مكانٍ لا يسمعُه الرجالُ غيرَ المحارمِ.
الله أكبر! يا عبادَ اللهِ: ما أجملَ حالَ الناسِ وهم يكبِّرون اللهَ تعظيمًا وإجلالاً في كلِّ مكانٍ عندَ انتهاءِ صومِهم! فتمتلئُ الآفاقُ تكبيرًا وتحميدًا وتهليلاً رجاءَ رحمةِ اللهِ، وخوفَ عذابِه، وإحياءً لسنةِ نبيهِم.
أيها الإخوة: أما صلاةُ العيدِ فَهيَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، ومن أعلامِ الدينِ الظاهرةِ وَالنَّاسُ يَجْتَمِعُونَ لَهَا أَعْظَمَ مِنْ الْجُمُعَةِ.. قَالَ شيخُنا محمدُ العثيمين رحمه الله عن حكمها: أنها فرضُ عينٍ على كلِ أحدٍ، وأنَّه يجبُ على جميعِ المسلمين أن يصلوا صلاةَ العيدِ، ومن تخلّفَ فهو آثمٌ، والقولُ بالوجوبِ قولُ الشيخِ عبد الرحمنِ السعدي رحمهُ اللهُ، وإلى هذا ذهبَ أبو حنيفة واختارَه شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية رحمهما الله.
أيها الإخوة: وتتميزُ صلاةُ العيدِ عن غيرِها من الصلواتِ بأن كلَ ركعةِ تبدأُ بعددِ من التكبيراتِ ففي الركعةِ الأولى يكبرُ تكبيرةَ الإحرامِ، ثم يقرأُ دعاءَ الاستفتاحِ، ثم يكبرُ ستَ تكبيراتٍ، وفي الثانيةِ يكبرُ خمساً بعد تكبيرةِ الانتقالِ، والسنةُ أن يكبرَ الْمَأْمُومُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، والسنةُ للمأمومِ عدمُ رفعِ الصوتِ في التكبيرِ.. وإذا دخلَ المأمومُ مع الإمامِ وقد فاته بعضُ التكبيراتِ الزوائدِ فإنهُ يكبرُ تكبيرةَ الإحرامِ، ثم يكبرُ مع الإمامِ ما بقيَ منها، ويسقطُ عنهُ ما فاته من التكبيراتِ.. ومن أدركَ جزءاً منها مع الإمامِ أتمها على صفتِها أما من فاتته كلَها فقال شيخُنا محمدُ العثيمين رحمه الله: من فاتته صلاةُ العيدِ، فلا يسنُّ له أن يقضيَها؛ لأن ذلك لم يردْ عن النبيِ صلّى الله عليه وسلّم؛ ولأنها صلاةٌ ذاتُ اجتماعٍ معينٍ، فلا تشرعُ إلا على هذا الوجهِ.. وبه قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ.
اخرجوا إلى صلاةِ العيدِ متنظفين متطيبين، والبسوا أحسنَ الثيابِ، وأخرجوا لها نساءَكم وأطفالَكم ومَن تحتَ أيديكم، فقد أمرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بذلك، قالت أمُ عطية: أمرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجَهن في الفطرِ والأضحى، أي العواتقِ والحُيَّضَ وذواتِ الخدورِ، أما الحُيضَ فيعتزلن المصلى، ويشهدن الخيرَ ودعوةَ المسلمين.
اخرجوا أيها الإخوة امتثالاً لأمرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وابتغاءَ الخيرِ، ودعوةَ المسلمين، فكم في ذلك المصلى من خيراتٍ تُنزل، وجوائزَ من الربِّ الكريمِ تحصلُ، ودعواتٍ طيباتٍ تقبلُ..
والسنةُ أن يأكلَ قبلَ الخروجِ إلى المصلى تمراتٍ وتْرًا، ثلاثًا أو خمسًا أو أكثرَ إن أحبَّ ويقطعَهن على وترٍ؛ لفعلِ النبي صلى الله عليه وسلم.
واخرجوا إلى هذه الصلاةِ مشيًا إلا من عذرٍ كعجزٍ أو بُعدٍ؛ لقولِ عليٍ رضي الله عنه: منَ السنةِ أن يخرجَ إلى العيدِ ماشيًا.
وستقامُ الصلاةُ إن شاءَ اللهُ الساعة 5:30 وأدوا هذه الشعيرة بخشوعٍ وحضورِ قلبٍ.. بلَّغَنا اللهُ يومَ العيدِ من عمرٍ مديدٍ بطاعةِ اللهِ، ومنَّ علينا بالقبولِ، إنه جوادٌ كريمٌ.. بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أيها الإخوة: لقد دار الدهر دورته... ومضت الأيام تلو الأيام... وإذا بشهرنا قد قارب أفول نجمه بعد أن سطع... وقارب إظلام ليله بعد أن لمع... وسيخيم السكون على الكون بعدما كان الوجود كل الوجود يتأهب للقاء هذا الضيف الكريم... نعم سينقضي رمضان... فيا ولهي عليه... ذهبت معظم أيامه ولياليه... ذهبت... لتعود على من يكتب الله له منا الحياة... وليودع من كان أجله قد حان... نعم... ذهبت يا رمضان فجرت منا المدامع.
يا راحلاً وجمـــــــــــــيلُ الصبرِ يتبـــــــــعهُ ...... هل من سـبيلٍ إلى لُقْيَاكَ يَتْفِقُ  
ما أنصفَتْك دُمُوعِي وهيَ دَامِيةٌ ...... ولا وفىَّ لك قَلْبِي وهو يحـــــــترقُ
أيها الأحبة: طوبى لمنْ حلَ فيه بروضةِ الأبرارِ؛ وختمَ شَهْرَهُ بالتوبةِ والاستغفارِ، لعلَ اللهَ يمحو ما جرى من التقصيرِ والأوزارِ.
يا غافلاً وليالي الصومِ قد ذَهبتْ .... زادتْ خطايَاك قفْ بالبابِ وابْكِيها
   وتبْ لعللَكَ تحظى بالقبولِ عــــــــــــــــــسـى أن تبلغَ النفسُ بالتقوى أمانيها
   وقــلْ إلهي أنا العبدُ الذليلُ وقد .... أَتيتُ أرجو أجوراً فازَ راجيها
  فلا تَكِلني إلى نفسيِ ولا عملـيِ .....  واغفرْ ذُنُوبي فإني غَـارِقٌ فيها
أحبتي: لنختم شهرنا بالتوبة النصوح، ولنسكب على فراقه غزير الدموع؛ فأي شهر قد تولى يا عباد الله عنا؛ حق أن نبكي عليه بدم لو تدبرنا؛ فمن كان منا أحسن فيما مضى فعليه بالتمام، ومن فرط فليختم بالحسنى فالعمل بالختام.. وودعوا شهركم بأزكى تحية وسلام.
      سلامٌ على شهرِ الصيامِ فإنَّهُ ......... أمانٌ منْ الرحمنِ كــــــلَّ أمـــــــــان
      لئن فنيتْ أيامُكَ الغرُ بَغْتةً .......... فما الحزنُ من قلبي عليك بفان
عباد الله صلوا
 
المشاهدات 1166 | التعليقات 0