فقه السيرة في حادثة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

عايد القزلان التميمي
1435/12/15 - 2014/10/09 13:56PM
من فقه السيرة النبوية بعد حجة الوداع
الحمد لله مقدّر الموت على عباده ، [ فجعله ] للمسلمين وسيلة إلى لقائه ، ومدخلا [ لهم ] في دار إحسانه وحسن جزائه .وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله الذي خيّره سبحانه بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ما عند الله , وارتضاه ، فنقله إلى الرفيق الأعلى ، وجعل أعلى الفردوس مثواه .صلى الله عليه ، وعلى آله وصحبه الثقات الهداة ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى .
عِنْدَمَا عَادَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم من حَجَّةِ الودَاع بَعدَ أن نَزَل عليه قولَ الله تعالى ((إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)))
والتي تضمنت نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأت تَظهَرُ على لِسانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبارات التَّوديع وتَبْرُزُ من خِلال أَفْعَالِه , فقد قال للناس في حجة الوداع ((لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ)) اخرجه مسلم, وفي المدينة خَرَجَ إلى البقيعِ واسْتَغَفَر لأهلِه, وخرج وصلى على شهداء أحد وخطب في الناس كالمودِّع للأموات والأحياء .
وفي نهاية شهر صفر من العام الحادي عشر للهجرة بدأ يشكو من الصُّداع وأخذ يَثْقُلُ به المرض ويزداد مع الأيام وكان خلال مرضِه يوصي بوصايا منها : أوصى بإخراجِ المشركين من جزيرة العرب وأوصى بالاعتصام بالكتاب , وأوصى بتنفيذ جيش أُسامةَ رضي الله عنه , وأوصى بالأنصار خيراً , وأوصى بالصلاة وما ملكت أيمانكم , ولَعَنَ اليهود لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد ونهى عَن اتِّخَاذِ قَبْرَهُ وثناً يُعْبَد .
وخَطَب في الناس كالمودِّع لهم مُحَذِّراً من التنافس على الدنيا لِئَلاَّ تُهلَكَهُم كما أهلكَت الأُمَم قَبْلَهم .
واستأذن زوجاته في أن يُمَرَّضَ في بيت عائشة رضي الله عنها فأَذِنَّ له .
وفي يوم الاثنين من شهر ربيع الأول للعام الحادي عشر من الهجرة , وعند الضحى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول عائشة رضي الله عنها (فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى )) البخاري .
وَتَسَرَّبَ هَذَا النَّبَأُ الْفَادِحُ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسُرْعَةٍ مُذْهِلَةٍ، وَوَقَفَ الصَّحَابَةُ فِي مَوْقِفٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَفِي دَهْشَةٍ عَظِيمَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَقَفُوا فِي دَهْشَةٍ وَحَيْرَةٍ وَهُمْ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ.
وقَام عُمر رضي الله عنه على المِنْبَر، وهَدَّدَ وتوعد، وحذَّرَ الناس بأنَّ تلك دَعْوَى أَطْلَقَها المنافقون، فَأصْبَح الناسُ في أمر مَريج، ثُمَّ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه إِلَى النَّاسِ وَعُمَرُ قَائِمٌ يُهَدِّدُ وَيَتَوَعَّدُ، فَقَالَ: اجْلِسْ يَا عُمَرُ، فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ.
فَتَكَلَّمَ الصِّدِّيقُ، فَقَالَ:
أَمَّا بَعْدُ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، قَالَ تَعَالَى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ).قال راوي الحديث : وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ ، فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ إِلَّا يَتْلُوهَا.ن اأأ

فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى مَا حَمَلَتْهُ رِجْلُهُ، وَتَيَقَّنَ النَّاسُ الْخَبَرَ فَضَجُّوا بِالْبُكَاءِ وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ.
عباد الله : نستخرج من قصة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم الكثير من الفوائد وسأذكر بعضاً منها :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مرض موته يحرص أن يبيت عند كل زوجة في ليلتها حتى ثَقُلَ . فَأسْتَأْذَنَهُنَّ في أن يُمَرَّضّ في بيتِ عائشةَ رضي الله عنها فَأَذِنَّ لَه , وهذا درسٌ عظيمُ في العدلِ بَينَ النِّساء في المبِيت , والرسول صلى الله عليه وسلم في مرض الموت لا يَنْسَى العدل , فهل من مُتَأَسٍ مُقْتَدٍ بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم .
عباد الله: أوصى صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وهو يغرغر في اللحظات الأخيرة أوصى بالصلاة وما ملكت أيمانكم , أليس لنا في هذا دروس وعِبَر بالاهتمام بالدين في حياتنا اليومية وأن نُعطي هذا الدين ما يستحق من العناية والاهتمام .
عباد الله: لعن الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر حياته اليهود والنصارى لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد نستفيد من التحذير من الشرك ووسائله والتأكيد على التوحيد قال سبحانه ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ))
عباد الله : عندما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى في آخر حياته تذكير لكل مسلم بهؤلاء الأعداء للمسلمين في كل زمان قال سبحانه ((مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ))
عباد الله في مصيبة موت الرسول صلى الله عليه وسلم التي واجهها صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم درسٌ لنا في كيفيةِ التعاملٍ مع المَصَائب , مع عِظم ما نزل بهم حتى لم يستطيعوا القيام ولا الكلام إلا أن ذلك لم يجعلهم يَخْمِشُونَ وجهاً أو يَشُقُّونَ جيباً أو يلْطِمُون خَداً أو اعْتِرَاضٍ أو تَسَخُّط , بل أدبٍ إسلامي وصبرٍ واحتمالٍ واحتسابٍ للأجر عند الله سبحانه وتعالى .
عباد الله : في وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم خير الخلق وأكرمهم على الله تبرز حقيقة مهمة تصبغ الحياة كلها بصبغة العبودية والذل لله الواحد القهار, وأن الله هو الباقي سبحانه إنها حقيقة أعلنها القرآن الكريم ((كل نفس ذائقة الموت ))
عباد الله أعظم مصيبة حلت على الأمة الإسلامية ألا وهي فقد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس قال: قال رسول الله : ((إذا أصاب أحدَكم مُصيبةٌ ، فلْيذْكرْ مُصيبتَه بي ، فإنها من أعظمِ المصائبِ)) صححه الألباني. قال القرطبي: "وصدق رسول الله لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك،
أيها المؤمنون : إن في مصيبة موت الرسول صلى الله عليه وسلم عزاء من كل مصيبة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّمَا أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ، أَوْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ ، فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي)) أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني .
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا عَزّى رَجُلاً كان مما يقول له : ((اذْكُرُوا فَقْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْغُرُ مُصِيبَتُكُمْ ، وَأَعْظَمَ اللَّهُ أُجُورَكُمْ))
ويقول ابن كثير رحمه الله ((فيالها من مُصِيبَة! مَا أصبْنَا بعْدهَا بمصيبة إِلَّا هَانَتْ إِذا ذكرنَا مُصِيبَتنَا بِهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية : الحمد لله الحيّ الذي لا يموت وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله ، هو الأخشى لربه والأتقى ، أصدق العباد شكراً ، وأعظمهم لربه ذكراً ، وأكثرهم له استغفارا .صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد فيا عباد الله : لَقَد خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا كما جَاءَ إليها لم يَتْرك مالاً ولا ديناراً ولا درهماً , لم يَتْرُك بنين ولا بنات إلاّ فاطمة الزهراء رضي الله عنها التي أَسَرَّ لها أنَّها أولَ بيتهِ لحوقاً به .
وهو صلى الله عليه وسلم قدوتنا وأُسوتنا فلم يُعْط للدنيا أَدْنَى عناية في الجمع والبقاء بعده وإنما خَلّفَ العلم النافع والنهج السَّديد في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى , وقال صلى الله عليه وسلم ((وإِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)) ابن ماجه وصححه الألباني .
عباد الله : إنَّ محبّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان، والشوقَ إلى لقائه من دلائلِ الإيمان، ومن أحبَّ لقاءه فليتبَع سنّتَه حتى يلاقيه على الحوض، قال سبحانه ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ((
وأخيرًا، فبالرّغم مِن عِظَم المصيبة بموتِ النبيِ صلى الله عليه وسلم إلا أنها لم توهِن الإسلام، ولم تُضعِفِ المسلمين، بل انطلق الدين الحقّ يتخطّى الحدود والسدود، لأن الله سبحانه وعد على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار ووعده حق حيث قال صلى الله عليه وسلم ((لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الدِّينُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ ، عِزٌّ يُعِزُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الإِسْلامَ ، أَوْ ذُلٌّ يُذِلُّ بِهِ الْكُفْرَ))أخرجه الإمام أحمد .
المرفقات

من فقه السيرة النبوية بعد حجة الوداع.docx

من فقه السيرة النبوية بعد حجة الوداع.docx

المشاهدات 1168 | التعليقات 0