فِقْهُ الخُصُوْمَاتِ

عبدالمحسن بن محمد العامر
1446/03/02 - 2024/09/05 08:12AM

الحمدُ للهِ أمرَ بكلِّ خيرٍ ورشادٍ، ونهى عن كلِّ شرٍّ وفسادٍ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ربُّ العبادِ، وَحَكَمُ يومِ المعادِ، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسولُه القدوةُ لِمَنِ انقادَ، والأسوةُ لمن اسْتَنّ واستزادَ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأسْيادِ، وعلى الصحابةِ العُبَّادِ، وعلى التابعين ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ التنادِ..

أمّا بعدُ فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ تعالى، فتقوى اللهِ تضبطُ الأفعالَ، وتَزِنُ الأقوالَ، وتحمي مِن الجَورِ والظُّلمِ؛ "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ"

معاشرَ المؤمنينَ: المخاصمةُ بينَ المسلمينَ سلوكٌ مشينٌ، والاتصافُ بها طبعٌ ذميمٌ، ومُلازِمُها بَغيْضٌ عند ربِّ العالمين؛ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّم: "إنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إلى اللَّهِ الألَدُّ الخَصِمُ" رواه البخاريُّ ومسلمٌ.

والألدُّ الخَصِمُ هو المُولَعُ بِالخُصومِة - وهي النِّزَاعُ والمُجادَلةُ- المَاهرُ فيها، والدَّائمُ فيها كذلِك، والألدُّ في الخصومةِ أيضاً؛ الأعوجُ فيها، وقد ذَكَرَ اللهُ تِلْكَ الصِّفةَ في المنافقِ الأخرسِ بنِ شريقٍ؛ إذْ أنْزَلَ اللهُ فيه قولَه تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ"  وهكذا المنافقُ في حالِ خصومَتِه ، يَكْذِبُ ، ويَزُوْرُ عنِ الحقِّ ولا يَسْتقيمُ معه، بلْ يَفتري ويَفْجُرُ، كما ثبتَ في الصحيحِ عنْ رَسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلمَ أنَّه قالَ: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ" رواه البخاريُّ ومسلمٌ.

ومِنْ عقوبةِ المتخاصمينِ العاجِلَةِ؛ أنّهما لا يغفرُ لهما عندما تُفتَحُ أبوابُ الجنّةِ يوميِ الإثنينِ والخميسِ مِنْ كلِّ أسبوعٍ؛ قالَ صلى اللهُ عليه وسلّم: "تُفْتَحُ أبْوابُ الجَنَّةِ يَومَ الاثْنَيْنِ، ويَومَ الخَمِيسِ، فيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ باللَّهِ شيئًا، إلَّا رَجُلًا كانَتْ بيْنَهُ وبيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ، فيُقالُ: أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا. [وفي رواية]: إلَّا المُهْتَجِرَيْنِ." رواه مسلمٌ.

معاشرَ المؤمنينَ: لا يخلو المرءُ المسلمُ مِنْ خصومةٍ يُبتلى بها، وقد تكونُ الخصومةُ في بعْضِ الأحيانِ خياراً لا بدّ منه لأخذِ الحقِّ، أوْ رَدّ التّعدّي، أوْ رَفْعِ الظُّلْمِ، أو لإصلاحِ الخطأِ ونحوِ ذلك مِنْ أَسبَابِ الخُصُومَةِ المشروعةِ، إلاّ أنَّ كلَّ خصومَةٍ لا بدّ أنْ تُضْبَطَ بِضَوابِطِ الشّرعِ، وأنْ يتحلّى أصحابُها بِفِقْهِ الخُصومةِ وآدابِها الشرعيةِ، وممّا يُؤسَفُ له أنَّ فِقْهَ الخُصُومَةِ، وآدابَها؛ ممّا عمّ جَهلُه، وغَابَ فَهْمُه، ونَدَرَ العَمَلُ به.

فَمِنْ فِقْهِ الخصومةِ وأَدَبِها: ألّا يَتَرتّبَ عليها هُجرانٌ وقطيعَةٌ، فهذا حرامٌ وتجاوزٌ للحدِّ، وقد يكونُ فجوراً في الخصومةِ؛ قال عليه الصلاة والسلامُ: "
 لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ، يَلْتَقِيانِ؛ فَيَصُدُّ هذا، ويَصُدُّ هذا، وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ" رواه البخاريّ ومسلم.

ومِن فِقْهِ الخصومةِ وأَدَبِها: ألّا يَحْمِلَ المُسْلِمُ في قَلْبِه على خَصْمِهِ عَداوةً وَلا بَغْضَاءَ مُدّةَ المُخَاصَمَةِ، فالمُخَاصَمَةُ لا تَعني العداوةَ، ولا تَقتَضي البَغْضَاءَ، وَليسَ مِنْ لَوازِمِها التَّدَابُرُ والتَّقَاطُعُ؛ قالَ عليه الصلاة والسلام: "لا تَباغَضُوا، ولا تَحاسَدُوا، ولا تَدابَرُوا، وكُونُوا عِبادَ اللَّهِ إخْوانًا، ولا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثَةِ أيَّامٍ" رواه البخاريّ ومسلمٌ

وَمِنْ فِقْهِ الخُصُوْمَةِ وأَدَبِها: ألّا تُؤدِّي الخصومَةُ إلى قَطْعِ الخَيْرِ عن الخَصْمِ، ولا عن غَيْرِه ممَّنْ يَتَعلَّقُ بالخصومةَ، خاصّةً إنْ كانتْ هُناكَ معونَةٌ أو أعطياتٌ ونحوُها قَبْلَ الخُصومِة؛ قالَ اللهُ تعالى عنْ أبي بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ لمّا قَطَعَ المَعُونَةَ عن ابنِ خالَتِه مِسْطَحِ ابنِ أُثَاثَةٍ؛ بسببِ تَكَلُّمِه بحديثِ الإفكِ: "وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"

ومِنْ فِقْهِ الخُصومَةِ وأَدَبِها: الحِرْصُ الشَّدِيدُ، والعزمُ الأكيدُ على أنْ يكونَ كلُّ واحدٍ مِنَ المُتَخَاصِمَينِ هو المبادِرُ والبَادِئُ بإنْهَاءِ الخُصُومَةِ وحَلّها، ونَزْعِ فَتِيْلِها، وَفَضِّ نِزَاعِها، قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "من خاصَمَ في باطِلٍ وهو يَعلَمُ لم يَزَلْ في سَخَطِ اللهِ حتى يَنزِعَ. وفي لفظٍ: مَنْ أَعَانَ على خُصومةٍ بظُلمٍ فقدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ" رواه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ.

ومِنْ فِقْهِ الخصومةِ وأَدَبِها: السُّرْعَةُ بالسَّعيِ بالصُّلْحِ بَيْنَ المُتَخْاصِمَيْنِ، وهذا ممّا أَمَرَ اللهُ بِه المؤمنينَ وأرَادَه مِنْهم، قالَ تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ"

ومِنْ فِقْهِ الخصومةِ وأَدَبِها؛ وهذا مِنْ آكدِها: الحَذرُ الشَّديدُ عن الدَّعوى الباطِلةِ التي يُرادُ مِنْها أكلُ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ؛ لِمَا تؤدِّي إليه مِنَ النَّارِ، وبئسَ القِرارُ، عن أمّ سلمةَ رضيَ اللهُ عنها قالتْ: " سَمِعَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَلَبَةَ خِصَامٍ عِنْدَ بَابِهِ، فَخَرَجَ عليهم فَقالَ: إنَّما أنَا بَشَرٌ، وإنَّه يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضًا أنْ يَكونَ أبْلَغَ مِن بَعْضٍ، أقْضِي له بذلكَ وأَحْسِبُ أنَّه صَادِقٌ، فمَن قَضَيْتُ له بحَقِّ مُسْلِمٍ فإنَّما هي قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أوْ لِيَدَعْهَا" رواه البخاري.

ومِنْ فِقْهِ الخصومةِ وأَدَبِها: عدمُ مُجاوزةِ مَوْضِعِ الخُصُومَةِ؛ لا بِكلامٍ ولا سبٍّ، أوْ طَعْنٍ، أو انتقامٍ، أو سعيٍ في إضرارٍ ونحوِ ذلك، فهذا مِنَ الفُجُورِ في الخُصُومَةِ الذي هو مِنْ صِفَاتِ المنافقينَ المذكورةِ في قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: " أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ" رواه البخاري ومسلم.

بارك الله لي ولكم ..

أقول قولي هذا

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على إحْسَانِه العظيمِ، والشكرُ له على فضْلِه العميمِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلّا اللهُ وحده لا شريكَ له الرّبُّ الرحيمُ، وأشهدُ انّ محمّداً عبدُه ورسولُه المؤيّدُ بالقرآنِ العظيمِ، صلى اللهُ وسلّمَ عليه وعلى آله وأصحابِه والتابعينَ، ومَنْ تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّينِ  ....

أمَّا بَعدُ فيا عبادَ اللهِ اتقوا اللهَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ"

معاشرَ المؤمنينَ: وَمِنْ فِقْهِ الخصومةِ وأَدبِها: الحذرُ مِنْ الخصومةِ بِيْنَ الجيرانِ؛ فقدْ جاءَ في الحديثِ أنّ النبيّ صلى اللهُ عليه وسلمَ قالَ: "أوَّلُ خَصْمينِ يومَ القيامَةِ جَارانِ" رواهُ الإمامُ أحمدُ وغيرُهُ وحسّنَهُ الألبانيُّ.

ومِنْ فِقْهِ الخصومةِ وأَدَبِها: وهذا خاصٌّ بالزوجينِ؛ ألّا تَخْرُجَ المَرأَةُ مِنْ بَيْتِها حالَ خُصُومَتِها مَعْ زَوْجِها، بلْ في حَالِ طَلاقِها، فالأصْلُ أنْ تَبْقَى في بَيْتِها حتّى تَنْقَضِي عِدَّتُها أوْ يُرَاجِعُهَا زَوْجُها، قالَ تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا" وَقَدْ قالَ العلماءُ؛ أنّ خَروجَها في حالِ العِدَّةِ حرامٌ، ولا يَخْفَى ما في بَقَائِها في بَيْتِها مِنَ الخيرِ لَها ولِحَيَاتِها الزوجيةِ، فالخصامُ وإنْ وَصَلَ إلى حَدِّ الطَّلاقِ لا يَعني الفِرَاقَ، ولا يَعْني انعدامَ الحَلِّ، ولا يَعني انتهاءَ العِلاقَةِ بينَ الزّوجين، وبِسببِ تركِ النّاسِ لهذا الأمرِ الرّبّانيِّ، تَفَاقَمَتْ المشاكلُ الزّوجيَّةُ، وعسُرَ حلُّها، وكثُرَتْ أطرافُها.

هذا وصلوا وسلموا على رسولِ اللهِ ....

المشاهدات 805 | التعليقات 0