فقه الآثار المعنوية للحج - أ.شريف عبد العزيز - عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1440/12/17 - 2019/08/18 10:45AM

الإسلام دين لا يؤمن بالوساطة بالعبد وربه، ولا مشهد محسوس يركز عليه الإنسان تفكيره، ويصرف إليه همته، ليتخيل به الإله الذي لا تدركه الأبصار، ويرتبط به خياله، ويتمسك بأذياله، فلا وسائط ولا مظاهر، ولا صور ولا أصنام، ولا كهان ولا سدنة، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186]، وقال: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)[الزمر: 2- 3].

 

فالإسلام يتطلب تجردا في الخيال، وسموا في التفكير، ونقاءً في الإرادة والنية، وإخلاصا في العمل والتطبيق، ومستوى في العقيدة، لم تبلغ الإنسانية ولا الأديان الفلسفات الوضعية والعقلية مثله أو قريب منه. وإن صلة الإنسان بربه ليست صلة قانونية أو عقلية فقط، إنما هي صلة حب وشوق، بذل وتضحية، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)[البقرة: 165]؛ لذلك فإن الله -عز وجل- أطال في القرآن الكريم في ذكر صفاته وأفعاله، وهي من أقوى ما يثير عاطفة الحب والشوق لله -سبحانه-.

 

لكن الفطرة البشرية تحتاج إلى شيء تراه بعينها، فيوجه المرء إليه أشواقه، ويقضي بها حنينه، ويشبع رغبته الملحة في التعظيم والمشاهدة. لذلك فإن الله -جل في علاه- قد اختار أمورا ظاهرة ومحسوسة، اختصت به، ونسبت إليه، وتجلت عليها رحمته وعظمته، أمورا إذا رآها الناس ذكروا الله، وذكروا آلاءه ونعمه وأيامه، ودينه وتوحيده وأنبيائه، هذه الأمور سماها الله -عز وجل- "الشعائر"، وهي التي يجعل الله -عز وجل- من تعظيمها تعظيما له، ومن التفريط فيها إساءة وتفريطا في جنبه. وأذن الله لعباده أن يقضوا حنينهم الكامن في نفوسهم ورغبتهم الفطرية في الدنو والمشاهدة في هذه الأمور أو الشعائر، قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32].

 

ومناسك الحج وشعائره من أعظم الأمور التي تثير الشوق والمحبة لله -عز وجل-. قال الغزالي: "فالشوق إلى لقاء الله -عز وجل- يشوقه إلى اسباب اللقاء لا محالة، وهذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ما له إلى محبوبه إضافة، والبيت مضاف إلى الله -عز وجل-، فالأحرى أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة، فضلا عن الطلب لنيل ما وُعد عليه من الثواب الجزيل. وصدق الغزالي، فربما يشتاق الإنسان إلى ربه أشد الشوق، فيحتاج إلى شيء يقضي به شوقه فلا يجده إلا في الحج.

 

فالحج المبرور هو أسهل جسر يعبر بصاحبه إلى جنات النعيم، ولكي تؤتي هذه الشعيرة ثمارها و أهدافها المرجوة، يجب على كل مسلم أن يستعد لها مبكرا ويهيئ نفسه لها كل التهيئة، ولا نعني في هذا المقام التهيئة العلمية بمعرفة فقه الحج والمناسك ومعرفة الشروط والأركان والواجبات والسنن إلى آخر ذلك، ولكن نعني ذلكم الباب العظيم من أبواب العلوم والمعارف، وهو باب إدراك مقاصد الحج، وما وراء الشعائر من دروس وعبر وفوائد قصدها الشارع ابتداءً من التكليف، وليتدرب المسلم مريد الشعيرة على إتقان فقه الآثار المعنوية للحج.

 

وإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في الحديث: "إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها ‏"‏ وإذا كان بن عباس قال: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها. فإن هاتين القاعدتين يمكن إن تنسحبا على عبادات أخرى منها مناسك الحج والعمرة. وبالتالي فعلى الحاج أو المعتمر أن يعلم أنه ليس له من عبادته إلا ما عقل منها ووعى، وكان قلبه حاضرا مستشعرا المعنى والمغزى والدروس والمقصود من كل منسك أو شعيرة في تلكم الرحلة بدءا من مجرد التفكير فيها حتى ما بعد العودة منها.

 

الدرس الأول: تجويد البدايات

في بداية رحلة الحج، وعند الإحرام من الميقات يستحضر العبد أن لحظة الإحرام من أهم الأوقات في تلك الرحلة لأنها البداية، ولأنها البداية يجب أن تكون بداية ناجحة مجودة، ومفتاح تجويد البدايات في الإخلاص، فلينَقِّ قلبه من أي مراد سوى الله، وليستحضر وهو يحرم من الميقات أن الله -عز وجل- قد حد حدودًا وشرع شرائع وأمر الناس بالتزامها، ووقوفه في الميقات للإحرام مظهر من مظاهر بيعته ومعاهدته لأحكم الحاكمين. فليحرص على أن يخضع لشرعه وأوامره ويلتزم حدوده ويحترم جناب ما أمر فيأتيه، وما نهى عنه فيجتنبه من بداية الرحلة لنهايتها، وبعد الرحلة وفيما بقى له من حياة. ومن معينات التجويد أيضا، نسيان بهرجة الدنيا عند لبسه لملابس الاحرام، وزينتها وزخارفها ومباهجها ومناصبها، نسيان الحسب والنسب والجاه والسلطان والوظيفة، نسيان المكانة والنزلة في دنيا الناس.

 

وعلى طريق السفر إلي أداء المناسك، يستحضر العبد طريق الآخرة والجنة، وسبيل النجاة يوم الدين، يستحضر مع كل خطوة يخطوها في أداء الحج والعمرة ما هي إلا رمزا لخطوات حياته صوب الطريق إلى الآخرة. لذلك يجب اغتنام كل خطوة يخطوها في رحلة الحج من أجل مضاعفة الأجر، وليكن ذلك بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها و على الذكر الدائم، والورد القرآني و الوتر والضحى و الوضوء، والحرص على مصاحبة الصالحين ورؤية أفعالهم والتأسي بهم، الحرص على غَضِّ البصر عن كل محرم وعن كل زينة من مباهج الدنيا حتى ما كان منها مباحا. والمعنى: أن تتخلى عن كل فضول، من بصر أو طعام أو مخالطة أو نوم أو كلام.

 

الدرس الثاني: رحلة القلوب

رحلة الحج ليست رحلة بالبدن فقط من مكان إقامتك إلي مكة وما بعدها، ولكنها في المقام الأول رحلة قلوب، قلوب ذهبت إلى هناك لتتزود وتمتلئ بالفيوضات والبركات والإيمانيات، إنها رحلة ربانية، رحلة نورانية، رحلة قلوب وأرواح تسعى إلى خالقها، فتتصل بأصلها وتستمد القوة والحياة والسعادة وتتزود بالتقوى خير زاد، والعبد؛ مريد الحج يحرص على كل فعل وقول يسمو به قلبه وتزكو به روحه، فلا ينشغل قلبه وروحه إلا بالله، وعندما ينشغل القلب بالله ويتزود من فضله وإحسانه ورحماته يتحقق الحج المبرور و الزاد الموفور والذنب المغفور، ويعود طاهراً نقياً كيوم ولدته أمه.

 

الدرس الثالث: بصيرة التمييز

بصيرة التمييز يدرك بها العبد حكمة التشريع، وغاية التكليف، ويفرق بها بين الوسائل والأهداف، والأدوات والغايات، فغاية التشريع من فريضة الحج هي تحقيق تقوى الله -تعالى- التي تتجسد في الأقوال والأفعال، والحركات والسكنات، والنوايا والخواطر. فالإحرام والميقات، والنية والتلبية، والطواف، والسعي، والتقصير، والوقوف بعرفات وأداء المناسك في منى ثم المبيت فيها، ثم الطواف إلخ. كل هذه وسائل، والهدف الأساس منها هو تحقيق التقوى. وكلمة التقوى يقصد بها تحقيق الهدى والمغفرة، وبتعبير آخر؛ العفو والرضوان. ومن دون معرفة هاتين الشعبتين الشاملتين تبقى الحكمة من فريضة الحج غامضة لدى مؤديها. فالمرء إن لم يكن عارفاً بالهدف مما يفعله فإنه نادرا من يفشل في تحقيقه، وإن هو حققه فإنما يحقق نسبةً ضئيلة منه، فيما ستبقى أعماله غير منضبطة ومتوازنة مع خط الهدف الذي يرغب في تحقيقه. وبصيرة التمييز تمكنه من إدراك الهدف.

 

الدرس الرابع: تذكر الآخرة

رحلة الحج أشبه برحلة الموت إلي الدار الآخرة فما أشبه الحاج الذي يخرج من بيته وقد اغتسل ولبس ملابس الإحرام وخرج من مشاغل الدنيا ليخلص بقلبه لله وترك الأهل و المال و الولد خلفه، ما أشبهه بمن يخرج من الدنيا عند لقاء الله، فالاغتسال يقابله التغسيل، وملابس الإحرام تقابل ملابس التكفين، والخروج من مشاغل الدنيا يقابله الخروج الجسدي من الدنيا، وتوديع الأهل وترك المال و الولد أمر مشترك في الحالين، فما أجمل أن يتذكر الحاج هذا المعنى ويأخذ العبرة و العظة، ويستعد للقاء الله على طهر ونقاء، فيرد المظالم ويقضى الديون ويطلب الصفح ممن أساء إليه ويتوب إلى الله فربما لقى الله في سفره هذا، وبهذا يبدأ رحلته بدءاً طيباً كريما.

 

الدرس الخامس: طواف البشر وطواف الملائكة

الطواف حول البيت صلاة، صلاة في صورة خطوات ودورات ودعوات يجب أن يُؤدى – مثل الصلاة - في خشوع وحضور قلب وأدب ورفق، مع استشعار اطلاع الله علي الطائفين جسوماً ورسوماً، قلوباً وأرواحاً، فخل قلبك من كل شيء إلا الله وحب الله، الإخلاص لله حينئذ تسمو الروح وكأنها هي التي تطوف حول البيت وليست الأقدام، وعندها يرتقي العبد لطواف الملائكة حول البيت المعمور في السماء السابعة في نفس النقطة، وبنفس الحركة التي تتحرك بها وبنفس الاتجاه، وفي مثل خشوعهم وذلهم لله -عز وجل-.

 

الدرس السادس: استلام الحجر والمعاهدة مع الله

والحاج يستلم الحجر الأسود يستحضر معنى المعاهدة مع رب العالمين، المعاهدة على التوبة والرجوع إلى الله، ولسان حاله ومقاله: "يا رب تبت وندمت ولن أعود إلى الذنوب مرة أخرى"، والحرص على إن يصدق الله ليصدقه. وعند مقام إبراهيم يصلى ركعتين إن تيسر، لتحيا الصلة الروحية الممتدة عبر الأجيال بيننا وبين سيدنا إبراهيم عليه السلام، واستجابة الله لدعواته بأن بعث في الأمة محمداً -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين.

 

الدرس السابع: جبل الصفا وجهاد الدعوة

الوقوف على جبل الصفا مشهد يثير في القلب ذكريات الجهر بالدعوة، عندما وقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- على جبل الصفا يعلن دعوة التوحيد، يعمم ويخصص، ينذر ويبشر، يرهب ويرغب، عندها يستحضر العبد ما لاقاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام في سبيل توصيل الدعوة إلينا نقية خالصة. ويتذكر التباب والهلاك والسخرية والزراية والمصير المشئوم الذي جعله الله جزاء لكل الكائدين لدعوة الله في الدنيا وفي الآخرة. عندما يتذكر المسلم هذه المعاني يعاهد ربه من فوق جبل الصفا أن تكون عند عودته إلى بلده خادما لدينه، ناصحا لأهله وقومه، باذلا الغالي والنفيس من أجل إعلاء راية التوحيد.

 

الدرس الثامن: عرفات وأرض المحشر

أكثر يوم يعتق الله -عز وجل- فيه الناس من النار يوم عرفه، وأنه ليدنو -عز وجل- ثم يباهى بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء ؟ فيا من أكرمك الله بزيارة بلده، ووفادة بيته، والوقوف بمشاعره، استغل كل دقيقة من دقائق وقوفك بعرفات في الدعاء والذكر والاستغفار والتقرب إلى الله واحذر من تضيع الوقت في اللهو واللغو والقيل والقال. واستحضر أن الله يباهي بك الملائكة في ذلك اليوم فأري الله من نفسك ما يجعلك أهلا لهذه للمباهاة.

 

وأنت على عرفات تذكر الموقف الأكبر يوم القيامة، يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيقفون يوماً كان مقدراه خمسين ألف سنة، وهم في العرق على قدر أعمالهم كما ثبت في الصحيح نعم !! إنه موقف مؤثر والله، ويزداد تأثيره في النفس حينما يرى الإنسان انصراف الناس من موقف عرفة، ويتذكر بذلك انصراف الناس من الموقف الأكبر: فريق في الجنة، وفريق في السعير ! ويتذكر حينما ينصرف الناس من حجهم إلى بلدانهم: أناس مقبولون قد غفرت ذنوبهم، وآخرون يعودون إلى أوطانهم وليس لهم من حجهم إلا التعب والنصب ـ !! فيا لها من حسرة عظيمة إن لم يقبل من العبد عمله.

 

الدرس التاسع: رمي الجمرات وعبودية الامتثال

أيها الحاج، وأنت ترمي الجمرات تذكر أنه رمز يهدف إلي تحقيق معنى الانقياد للأمر وتحقيق العبودية بالامتثال، وإن لم يكن للعقل حظ في هذا الفعل. أيضا تذكر تعرض إبليس لسيدنا إبراهيم -عليه السلام- لثنيه عن طاعة أمر الله وعدم استجابة الخليل لهذه الوسوسة، فاستحضر وأنت ترمي كل جمرة خطورة نزغات الشيطان ووسوسته وضرورة مقاومته. استحضر وأنت ترمي الجمرات أن هذا الرمي هو بمثابة بيعة وإعلان ومعاهدة منك أمام الله وأما الخلائق المحتشدة حول الجمرات على العمل الدائم والدؤوب على دحر هذا الشيطان الرجيم وحزبه اليوم وغدا وفي كل حين، وفي كل مكان.

 

الدرس العاشر: الحلق والتقصير وإعلان الخضوع والتسليم

وعند الحلق أو التقصير يستحضر الحاج الذلة والانكسار بين يدي الله، يستحضر إن بكل شعرة تخرج لا بد أن تعقد لله عهدا وولاء بالعبودية والانقياد، وأنه طأطأ الرأس لحلق شعره معلنا أنه راض بفعل كل شيء يرضي الله -عز وجل-، وأنه أسلم الناصية لمن بيده أمرها، مذعن وخاضع لكل أمر إلهي، ومستعد لتنفيذ كل ما يرضي الله -عز وجل- وهو راض قانع سعيد مستبشر حتى ولو كان في هذا الأمر مشقة على نفسه، أو لم يدركه عقله وفهمه.

 

الدرس الحادي عشر: طواف الوداع وفراق المحبوب

قالها أمين الوحي رسالة من رب السماء إلى خير الأنبياء: "أحب من شئت فإنك مفارقه"؛ فالفراق أمر حتمي كتبه الله -تعالى- على الخلق، ومن أشد أنواع الفراق ألما فراق موت الأحبة، فيحزن منه المؤمن والكافر على حد سواء، والحزن في هذه اللحظة طبيعة إنسانية، والبكاء فيه فطرة بشرية، فقد حزن النبي -صلى الله عليه وسلم- على وفاة زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها، وبكى عن موت ابنه إبراهيم.

 

وطواف الوداع يثير في القلب شجون فراق الأحبة، ووجع البعاد على غيابهم، فالعبد بعد أن يتعلق قلبه بالكعبة والمشاعر، ويعيش أجواء الجنة والسعادة الحقيقية، يجد نفسه أمام موعد الفراق، ومشهد الوداع، وعلى الرغم من هذه الآلام التي تتفاوت حجما وشدة إلا أن لها ايجابيات، من أهمها أنها تقطع على الإنسان توقع أن تدوم أية رابطة في الدنيا، وتجعله في وعي كامل بأن هذه الرابطة وهذا الحب ربما يفتر بعد فترة، فروابط الدنيا كلها إلى زوال، وليجعل قلبه متعلقا دوما بالرابطة التي لم ولن تنقطع وستبقى أبدا، وهي علاقة العبد بربه، فبها فرحه ويستمد سعادته.

 

المشاهدات 453 | التعليقات 0