فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسـولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أما بعد:
وأنتَ تقرأُ سورةَ الذَّارياتِ، تُرتِّلُ آياتِها، وتتدَبَّرُ معانيها، في نَسَقٍ مُتَسلسلٍ بديعٍ، وانتقالٍ بينَ المَشَاهدِ سريعٍ، أسلوبٌ عجيبٌ، وترغيبٌ وترهيبٌ، عجبٌ من القولِ عُجابٌ، يكادُ يذهبُ بالألبابِ.
فتبدأُ بقَسَمٍ ببعضِ مخلوقاتِ اللهِ تعالى العظيمةِ، على صِدقٍ يومٍ لا ينفعُ فيه إلا القلوبُ السَّليمةُ، ثُمَّ آياتٌ معدوداتٌ توضِّحُ قُربَ المسافةِ بينَ منظرِ الكافرينَ وهم يُكذِّبونَ ويستهزئونَ، وبينَ أن يُقالَ لهم: (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)، ثُمَّ آياتٌ تصفُ باختصارٍ نعيمَ المُتَّقينَ، بسببِ ما كانوا عليه من العملِ واليقينِ، ثُمَّ قِصَّةُ الضِّيفانِ مع نبيِّ اللهِ إبراهيمَ، وبُشارتُهم له بولدٍ عليمٍ من زوجٍ عقيمٍ، وهلاكِ قومِ لوطٍ بسببِ الفعلِ الأثيمِ، ثُمَّ تَسردُ الآياتُ مناظرَ من هلاكِ الأمَّمِ الكاذبةِ، وما حدثَ لهم بسببِ الكُفرِ من سوءِ العاقبةِ، ثُمَّ في ثلاثِ آياتٍ مُعجِزاتٍ، خلقُ السَّماواتِ والأرضِ والكائناتِ.
ثُمَّ تأتي الآيةُ الخمسونَ وفيها قولُه تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) .. فعندها ينعقدُ اللِّسانُ عن القِراءةِ والتَّرتيلِ، ويحتارُ الجَنانُ في رَوعةِ بلاغةِ التَّنزيلِ، ويأتي السُّؤالُ الذي فيه العقولُ تَحتارُ، لماذا سُميَّ الرُّجوعُ إلى اللهِ تعالى فِرارٌ؟.
أيُّها الأحبَّةُ ..
إذا عَرفَ الإنسانُ المهالكَ والمخاوِفَ والمكارِهَ فيما سِوى اللهِ، وذاقَ الهَلعَ والجَزعَ والقَلقَ بعيداً عن اللهِ، سيعلمُ حينَها يقيناً أنَّه لا نجاةَ ولا أمانَ، ولا سعادةَ ولا اطمئنانَ، إلا بالرُّجوعِ إلى العزيزِ الرَّحمنِ، فيأتي سؤالٌ ليُجيبَ عن السُّؤالٍ: ماذا يُسمَّى الرُّجوعُ إلى اللهِ تعالى من هذه المهالكِ والمَخاوفِ؟، وماذا يُسمَّى الرُّجوعُ من الهلاكِ المُحقَّقِ إلى بَرِّ الأمانِ؟، أليسَ هذا الرُّجوعُ يُسمَّى فِراراً؟ .. بلى واللهِ.
وكذلكَ لا فِرارَ من اللهِ تعالى إلا إليه، كما جاءَ في الدُّعاءِ قبلَ النّومِ: (للهم أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ؛ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ).
فيا أيُّها الخائفُ من الرِّزقِ والحاجةِ والفَقرِ، ويخشى الغلاءَ وقِلَّةَ الدَّخلِ وتقلُّباتِ الدَّهرِ، انظرْ إلى السَّماءِ، واسمعْ لهذا النِّداءِ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)، فالفقرُ وإن جاءَ فلا خوفَ على هذه الأمَّةِ منه، كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (وَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ)، بل الخوفُ من الغِنى وكثرةِ الأموالِ وانفتاحِ الدُّنيا، كما قالَ تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ).
وَإِنْ ضَاقَ رِزْقُ اليَوْمِ فَاصْبِرْ إِلَى غَدٍ * عَسَى نَكَبَاتُ الدَّهْرِ عَنْكَ تَزُولُ
فإذا خِفتَ من رزقِكَ وأردتَ النَّجاةَ، فتذكَّرْ قولَه تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ).
وإذا هاجَمَك شَبحُ الأحزانِ والهمومِ، وتكالبَ عليكَ رُعبُ الحَسراتِ والغمومِ، فتذكَّرْ أنَّ لكَ ربَّاً هو الحيُّ القيومُ، ناداهُ عبدٌ ضعيفٌ فقيرٌ من بطنِ حوتٍ في المُحيطِ، ومن يظنُّ أن ينجوَ هذا والموتُ بهِ مُحيطٌ، (فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، فما هي النَّتيجةُ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ)، وهل هي خاصةٌ به؟، لا واللهِ، بل قالَ سُبحانَه بعدَها: (وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ).
يا نفسُ لا تَجْزَعي من شدةٍ عَظُمَتْ *** وأيقنِي من إلهِ الخَلْقِ بالفَرَجِ
فإذا أقلقتكَ همومُكَ وأردتَ السَّعادةَ في الحياةِ، فتذكَّرْ قولَه تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ).
وإذا حاصرتكَ يوماً الأمراضُ والأوجاعُ، وأصبحتَ أنتَ والموتُ في صِراعٍ، فتذكَّرْ ذلكَ العبدَ المريضَ الضَّعيفَ المسكينَ، الذي قضى مع الآلامِ السَّاعاتِ واللياليَ والسِّنينَ، فرَفضَه النَّاسُ القريبُ والبعيدُ، إلا امرأتَه ورَجلينِ من أصحابِه، فلما طالَ به البلاءُ، رفعَ رأسَه إلى السَّماءِ، وأحسنَ إلى خالقِه النِّداءَ: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، فأتاهُ الجوابُ الفوريُّ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا)، وهل هذه الرَّحمةُ خاصةً به؟، بل قالَ سُبحانَه بعدَها: (وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ).
فيا أيُّها العُبَّادَ قد جاءتكم ذِكرى من ربِّكم .. أنَّ البلاءَ للعبدِ والاختبارَ، هو نتيجةُ محبةِ العزيزِ الغفَّارِ، قالَ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ)، فهل الدُّنيا إلا دارَ ابتلاءٍ وعُسرٍ، وليسَ لها إلا الاحتسابَ والصَّبرَ، وصدقَ القائلُ:
فإذا زادَ عليكَ البلاءَ وأردتَ الهَناءَ، فتذكَّرْ قولَه تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ).
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أنَّ رسولَه المبعوثَ رحمةً للعالمينَ، مُحمدٌ صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه أَجمعينَ .. أما بعد:
أيُّها المُسلمُ المُحافظُ ..
إذا أحسستَ بخوفٍ على الإسلامِ والدِّينِ، وخَشيتَ على إخوانِك من المُسلمينَ، فتذكَّرْ قولَه تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)، واعلم أنَّ اللهَ تعالى ما أنزلَ هذا الدِّينَ إلا ليبقى، وما أنزلَ هذا الكتابَ إلا ليرقى، رضيَ من رضي، وسخطَ من سَخط، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ).
فلا تغترَّ بما تراهُ أحياناً من ظُهورِ الباطلِ، ما دامَ أنَّ قلوبَ أهلِ الإيمانِ على الحقِّ، (كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)، ولا يضيقُ صدرُكَ بمكرِ الأعداءِ لهذا الدِّينِ وأهلِه، فقد حاولَ الأولونَ فذهبوا وبقيَ الإسلامُ، وصدقَ اللهُ تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
أتُطفِـئُ نـورَ اللهِ نفخـةُ كـافـرٍ *** تعالى الذي في الكبريـاءِ تفـردَّا
إذا جَلجَلتْ اللهُ أكبرُ في الـوَغــى *** تَخاذلتِ الأصواتُ عن ذاكِ النِّدا
ومن خَاصمَ الرَّحمـنَ خَابتْ جُهـودُه *** وضَاعتْ مساعيهُ وأَتعابُه سُــدى
فإذا خِفتَ على نفسِك من الفتنِ، وأردتَ الثَّباتَ، فتذكَّرْ قولَه تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ).
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَّ الشركَ والمشركين، واحمِ حوزةَ الدينِ، وانصر عبادَك المؤمنين، اللهم وآمنا في أوطانِنا، وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، اللهم أيد بالتوفيقِ والتسديدِ إمامَنا ووليَ أمرِنا، اللهم احفظه بحفظِك، وأعزه بدينِك، وأعلِ به كلمتَك، وارزقه البطانةَ الصالحةَ، وأيده بالحقِ، وأيد الحقَ به، واجعله نصرةً للإسلامِ والمسلمينَ، واجمع به كلمتَهم على الحقِ والهدى يا ربَّ العالمينَ، اللهم انصر المجاهدينَ الذين يجاهدونَ في سبيلِك لإعلاءِ كلمتِك، وإعزازِ دينِك، اللهم انصرهم في كلِّ مكانٍ يا ربَّ العالمينَ، اللهم ارفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازلَ والمحنَ، وسوءَ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ، عن بلادِنا وعن سائرِ بلادِ المسلمينَ يا ربَّ العالمينَ، ربنا ظلمنا أنفسَنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرينَ.
المرفقات
إِلَى-اللَّهِ
إِلَى-اللَّهِ
إِلَى-اللَّهِ-2
إِلَى-اللَّهِ-2