فضل شهر شعبان وبعض التنبيهات والأحكام

عبدالرحمن سليمان المصري
1445/08/04 - 2024/02/14 16:47PM

فضل شهر شعبان وبعض التنبيهات والأحكام

الخطبة الأولى

الحمد لله ﴿ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ الفرقان : 62 ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ،    أما بعد :

أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فهي وصية الله للأولين والآخرين ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.

 

عباد الله: إن الأيامَ والشهُورَ إنما تتفاضَلُ بما فِيها من الأعمالِ الصالحةِ ، وتتمايَزُ بما تنطَوِي عليهِ من التجاراتِ الرابحةِ ، والسعيدُ من اغتنمَ الأيامَ والساعاتِ ، وعمرَ أوقاتَهُ بالقُربِ والطاعاتِ، وقد جاءكُم وافِدٌ بين يَدَيْ ضيفٍ كريمٍ وقادِمٍ عظيمٍ ، إنهُ شَهرُ شعبانَ طليعَةُ شَهرِ الصيامِ والقيامِ ، شَهرٌ تَشعَّبتْ فيه الخيراتُ ، وتنوعتْ فيهِ الأعمالُ الصالحاتُ ، وكان السلفُ يُسَمُّونَ هذا الشهر شهر القُرَّاءِ؛ لاجتهادهمْ مع الصيامِ بقراءةِ القرآنِ ، وذلك لتَرْوِيضِ النفسِ وتعويدِهَا على الطاعةِ في رَمَضَانَ.

وكانوا يقولون: رجب شهرٌ يُضَاعِفُ اللهُ فيه الحسنات، وشعبان شهرٌ تُكفَّرُ فيه السيئات، ورمضان شهرٌ تُنتظرُ فيه الكَرَامَات .

عباد الله : ولما كان شعبانٌ كالمقدِّمة لرمضان ، شُرِع فيه ما يُشرَعُ في رمضانِ مِن الصِّيام والقيامِ وقراءةِ القرآنِ ، وسَائرِ أَنوَاعِ الإِحسَان ؛ ليحصلَ التأهُّبُ لِتَلقِّي رَمضَان ، وتَرتَاضَ النفوسُ بذلك على طَاعةِ الرحمنِ ، فيُشرعُ في شَهْرِ شَعْبَانِ كثرةُ صِيامِ النَّافِلَةِ ، وَيَجِبُ التَّنبه عَلى أنَّ مَنْ بَقِيَ عَليهِ شَيءٌ مِن رَمَضَانَ المَاضِي ؛ فيجبُ عليهِ صيامُهُ قبلَ أن يدخلَ رمضانُ القادمُ ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومُ أغلبَ شعبان .

فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم  ‌يَصُومُ ‌حَتَّى ‌نَقُولَ ‌لَا ‌يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ " رواه البخاري

قال العلامة الطِّيبِيُّ: كان صلى الله عليه وسلم  يصومُ شعبانَ تارةً كلَهُ ، وتارةً معظمَهُ لِئَلا يُتَوَهَّم أَنَّهُ وَاجِب كَرَمَضَانَ أ.هـ.

 

وقال الإمام ابن رجب: صيامُ شعبانٍ أفضلُ من صيامِ الأشهرِ الحرمِ، وأفضلُ التطوعِ ما كان قريبا من رمضانَ قبلَهُ وبعدَهُ ، وتكونُ منزلتُهُ من الصيامِ بمنزلةِ السننِ الرواتبِ معَ الفرائضِ قبلها وبعدها  .أ.هـ.

 

عباد الله: وقد جاءتِ النصوصُ الشرعيةُ ، بأن الأعمالَ تُرفعُ إلى اللهِ عزَّ وجل وتُعرَضُ عليهِ ، وهو سبحانَهُ أعلَم ُبعبادِهِ ولا يَخفى عليهِ شَيءٌ ، قال تعالى: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ فاطر: 10.

وقد ثبتَ في السنةِ النبويةِ ؛ أن الأعمالَ تُعرضُ على اللهِ تَعالى ، في كلِ يومٍ مرتينِ ، وفي كلِ أُسبوعٍ مرتينِ ، ومرةً واحدةً في السنةِ .

أما العرضُ اليومِي : فتُعرضُ على اللهِ عزَّ وجَل ، في اليومِ مَرتينِ ، مرةً بالليلِ ومرةً بالنهارِ ، قال صلى الله عليه وسلم : " ‌إِنَّ ‌اللهَ ‌عَزَّ ‌وَجَلَّ ‌لَا ‌يَنَامُ ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِي رِوَايَةِ: النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " رواه مسلم .

 

وأما العرضُ الأسبوعيُ : فَتُعرَضُ أعمالُ العبادِ على اللهِ جلّ في عُلاه ، يوميّْ الاثنينِ والخميسِ ، قال صلى الله عليه وسلم : " تُعْرَضُ ‌الأَعْمَالُ ‌في كلِّ اثْنَيْنِ ‌وَخَمْيسٍ ، فَيَغْفِرُ اللهُ لِكُلِّ امْرِئٍ لا يُشْرِكُ باللهِ شَيْئًا ، إِلَاّ امْرَءًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيقُولُ: اتْرُكُوا هذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا " رواه مسلم.

عباد الله : وقد شاعَ عندَ البعضِ: أن المتشاحنَ أو المتخاصمَ مَعَ أخيهِ المسلم بغيرِ وجهِ حقٍ ، لا يُقبلُ منهُ عملٌ صالحٌ ، أو توبةٌ من ذَنبٍ ، وهذا الفهمُ مُخالفٌ لمنهجِ أهلِ السنةِ ، وأما معنى الحديث: أن المتُشاحنَ أو المتخاصمَ مَعَ أخيهِ بغيرِ وجهِ حقٍ : لا يُغفرُ لهُ ذنبُ التخاصمِ حتى يصطلحَ مَعَهُ ؛ لأنهُ من حقوقِ العبادِ التي لا تُغفر إلا بالتسامحِ بينهم .

وأما ذنوبهُ الأُخرى : فالتوبةُ الصادقةُ تغفرُهَا،  ولو كان مُتَخَاصِما مَعَ أخِيهِ، فَرَحمَةُ اللهِ واسعةٌ ، وهو الذي يقبلُ التوبةَ عن عبادهِ ، ويُجازي بالحسنةِ الحسنةِ وإن كانت مثقالَ ذرةٍ ، ولا يُضيعُ أجرَ من أحسنَ عملا ، ما دامَ أنها دونَ الشركِ ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ النساء : 48.

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.        

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا  : أما بعد :

عباد الله وأما العرضُ السنويُ : فَتُرفَعُ الأعمالُ جُملةً واحدةً في شهرِ شعبانِ ، فعن أُسَامَة بْن زَيْدٍ رضي الله عنهم ا قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ ؟ قَالَ : " ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ " رواه النسائي وحسنه الألباني .

 

عباد الله: وأما ليلةَ النصفِ من شعبانِ ، فكلُّ ما وردَ في فضلها فهو إما حديثٌ ضعيفٌ أو موضوعٌ ، وأما حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إِنَّ ‌اللَّهَ ‌تَعَالَى ‌لَيَطَّلِعُ ‌فِي لَيْلَةِ ‌النِّصْفِ ‌مِنْ ‌شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ "  رواه ابن ماجة .

فقد ذهبَ جمهورُ العلماءِ إلى تضعيفِ هذا الحديثِ ، وعلى فرضِ صحتهِ عندَ من حسَّنهُ من العلماءِ ، فليسَ فِيهِ ما يُفيدُ تَخصيصَ هذهِ الليلةِ ولا يَومَهَا بِشيءٍ من العباداتِ ، فلا يُشرع صيامُ نَهَارِهَا أو قِيَامُ لَيلِها ، ولا أن يُزادَ فِيها بالعملِ على غَيرِ مَا اعتادهُ المسلمُ ، لكن ينبغي للمسلمِ أن يحرصَ على سلامةِ صدرهِ على إخوانِهِ المسلمين ، حتى إذا صحَّ هذا الحديثُ أخذنَا الفضلَ المذكورَ فيهِ .

عباد الله: إن من أهمِّ ما يُستعانُ بهِ على استقبالِ الطاعاتِ ومواسمِ الخيراتِ ،  التوبةُ إلى اللهِ تعالى ، والتخلصُ منَ الحقوقِ والتبعاتِ ، والابتعاِد عن الشُّبهِ والشَّهواتِ ، والاستغفارِ من الذنوبِ والخطيئاتِ ، فالمعاصِي تَصدُّ العبدَ عن التوفِيقِ للخير .

وليعلمِ المؤمنُ أن طاعةَ اللهِ عز وجل  ؛ خيرُ مغنَمٍ ومكسَبٍ ، ورِضَاهُ سبحانه خيرُ رِبحٍ ومَطلَبٍ ، والجنةُ

حُفَّتْ بالمكارِهِ ، وحُفَّتِ النارُ بالشهواتِ ، قال تعالى: ﴿  كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ آل عمران: 185 .

 

اللهم بارك لنا في شعبان وبلغنا رمضان ، ونحن في صحة وعافية ، وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك

 

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين .

اللهم احفظ شبابنا وفتياتنا وردهم إليك ردا جميلا .

اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده لما تحبه وترضاه ، اللهم هيئ لهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وتذكرهم به يا ذا الجلال والإكرام .

اللهم احفظ بلادنا وأمننا ، واجمع شملنا على الخير مع قادتنا وعلمائنا وعامتنا ، ووفق رجال أمننا .

اللهم فرج هم المهمومين ، ونفس كرب المكروبين ، واقض الدين عن المدينيين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين ، وارحم اللهم موتانا وموتى المسلمين يا ذا الجلال والإكرام .

اَللَّهُمَّ كن لإِخْوَانَنَا فِي فِلَسْطِينَ ، اللهم عجل لهم بالفرج يا أرحم الراحمين ، اللهم احقن دماءهم ، واشف جرحاهم ، واقبل موتاهم في الشهداء يا ذا الجلال والإكرام ،

اللهم وأنزل رجزك وسخطك وعقابك على اليهود الظالمين ، يا قوي يا عزيز .                                  

  نستغفر الله ، نستغفر الله ، نستغفر الله

اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا ، فأرسل السماء علينا مدرارا

اللهم أغثنا ،   اللهم أغثنا ،   اللهم أغثنا ، ...

اللهم سقيا رحمة لا سقيا    عذاب ،  ولا بلاء ،  ولا هدم ،  ولا غرق

اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين

 

عباد الله: اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.    

المشاهدات 817 | التعليقات 0