فضل سقي الماء

فهد الجمعة
1438/07/14 - 2017/04/11 11:25AM
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل من الماء كل شيء حي، أحمده وأشكره وأثني عليه الخير كله ولا أكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أمر بسقي الماء، وحث عليه، وَرَغَّبَ فيه، وسابق إليه، فصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما).
عباد الله: إن الحديث عن أعمال البر حديث يبدأ ولا ينتهي، ومن بين هذه الأعمال عمل يسير، وهو في الميزان جليل، هذا العمل سببٌ من أسباب النجاة، وبابٌ من أبواب البر والفلاح، وقد رغَّب فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ورتب عليه أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً من الله جل وعلا، هذا العمل هو سقي الماء، فتبريد الأكباد، وإطفاء حرارة الظمآن من أعظم الأبواب التي تقود إلى الجنان، ومن أسباب تكفير الآثام، وهو باب عظيم لإذهاب الأسقام، وبه تكون الصدقة جارية عن النفس والْوَالِدَيْنِ والْوِلْدَان.
هذا فضل سقي الماء، وتبريد الأكباد، بل إن أعظم ما ذكره الله في وصف الجنة إجراءُ الأنهار التي منها السِّقَاء والتلذذ، والشرب والإطعام، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى}
بل إن الله عز وجل عذَّب أهل النار بحرمانهم من الماء، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}، قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره: (وفي هذه الآية دليل على أن سقي الماء من أفضل الأعمال)، وقد قال بعض التابعين: من كثرة ذنوبه فعليه بسقي الماء .
روى أبو داوود أن سعدا بن عبادة رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الصدقة أعجب إليك؟ قال “الماء" وفي رواية فحفر بئراً فقال : “هذه لأم سعد" . وعن أنس رضي الله عنه قال: قال سعد: "يا رسول الله، إن أم سعد كانت تحب الصدقة، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم، وعليك بالماء، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن عبادة أن يسقي عنها الماء". فدل على أن سقي الماء من أعظم القربات عند الله تعالى .
وقد سئل ابن عباس: أي الصدقة أفضل؟ قال : الماء ، ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة " أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله“؟. ففي مشهد تعلوه الرحمة، وتكسوه الشفقة، ويُجلله البر بجلبابه الفضفاض، ويختمره الإحسان بدثاره الرقراق، في مشهد لرجل يجرُّ الخُطى في الصحراء قد اشتد به عطشه، وتقرَّحت منه كبده، وبلغ به الظمأُ مبلغه، وهو يسير يتلمظ الماء، ويبحث عن السِقَاء، فإذا هو ببئرٍ في الصحراء فابتدرها ابتدار السَّبُع، فنزل فيها وشرب حتى ارتوى، فذاق العُذُوْبَة، وتلذذ بالماء، وعندما أذهب الله ظمأه، وأشفى غليله خرج من البئر وهو يتذوق طعم الحياة، وكأنه لن يموت، فخرج وهو ينظر للحياة بنظرة أخرى قبل نزوله للبئر، وعندما كان يُقلب طرفه في الفضاء إذ بكلبٍ يَلْهَثُ الثَّرَى مِنَ شدة الْعَطَشِ، فبلغ به العطش أن أخذ يأكل التراب بحثًا عن الماء، فَتَأمَّل هذا الرجل في هذا المشهد، وقال: "لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي"- مع أن الكلب دابة نجسة الريق، لكنها خلق من خلق الله عز وجل ذات كبد رطبة - فرجع إلى البئر، ولكنه لم يجد ما يجعل الماء فيه، فهداه الله لِخُفِّه فملأه، وجاء إلى الكلب ثُمَّ سَقَاه، فشرب الكلب وهو يسابق نفسه.
وفي هذا المشهد الذي تجللت فيه معاني الرحمة في أسمى صورها - فيكون الجزاء من جنس العمل- هنا تجلت رحمة الرحيم الرحمن، اللطيف الجليل، الذي يرى كل شيء، ويسمع كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، فشكر سبحانه صنيع هذا الرجل، فرضي عنه، فغفر له ورحمه؛ يقول - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (أخرجه البخاري ومسلم).
بل الأعجب من هذا ما جاء في الصحيحين من أن امرأةً زانية سقت كلبًا فغفر الله لها، يقول صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ –أي: يدور حول بئر- قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ؛ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا –أي: خُفّها- فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ» (أخرجه البخاري ومسلم).
عباد الله .. إن عمل البر تزداد مرتبته وأجره إذا زادت الحاجة إليه، ولا شك أن سقيا الماء في الحر من أعظم أعمال البر، قال القرطبي في تفسيره: قال بعض التابعين: "من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء".
ألا وإن من فضائل سقي الماء على الظمأ أن يكون جزاؤه أن يسقيه الله من الرحيق المختوم في الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: « أَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَأ سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ » أخرجه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي.
فيا أيها الراغب في البر والأجر، وبذل المعروف والخير سابق إلى الصدقات الجارية، عن الآباء والأمهات، والبنين والبنات، والأنفس والذوات، واعلم أن من أعظم الصدقات: سقي الماء وإجراؤه، وإن من فوائد سقي الماء، أَنَّه سببٌ لعلاج الأمراض، وشفاء الأسقام -بإذنه سبحانه- يقول ابن شقيق: "سمعت ابن المبارك وسأله رجل: عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سَبْعِ سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع بما أعطوه، فقال له ابن المبارك: اذهب فاحفر بئرًا في مكان يحتاج الناس فيه إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ بإذن الله" أخرجها البيهقي في الشعب، فقد كان سقي الماء من هذا الرجل سببًا لشفائه بعد إذن الله سبحانه وتعالى.
وعلى المسلم أن يحذر أشد الحذر من البخل بسقي الماء، أو منعه عمن يحتاجه، أو حبس فضل الماء عن زرع غيره، فإن فعل فإنه إذن من الآثمين، الموعود بغضب رب العالمين، والمطرود من رحمته التي وسعت كل شيء، يقول- صلى الله عليه وسلم -:«ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - وذكر منهم - وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ» (رواه البخاري)، فلنستغل مثل هالفرص الخيرة في يوم الجمعة وغيره من الأيام والناس بالمسجد بوضع كرتون ماء مبرد وقت نزول المصلين في شدة الحر أو وقت صلاة الظهر والعصر أو عند محطات البنزين وللعمال بالشوارع فهناك عمال النظافة فهم ضعفاء مساكين.
واعلموا رحمني الله وإياكم أن سقي الماء له طرق متعددة، سنتطرق لها في الخطبة الثانية بمشيئة الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الأخرى:
الحمد لله على إحسانه، ..............
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله.
أيها المسلمون: وبعد بيان فضائل السقي والتحذير من منعه، فإليكم وسائل لسقي الماء، فهي كثيرة منها:
أولاً: السعي في حفر الآبار في الأماكن التي يحتاج إليها الناس، وهذا أمر ميسور، فَيُطِيْقُ الإنسان أن يحفر له بئرًا بثمن بخس في بلد فقير تجري عليه بركته وبره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلاَ إِنْسٍ وَلاَ طَائِرٍ إِلاَّ آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني).
ثانياً: توفير المضخات لتنقية المياه لتكون صالحة للشرب بدلاً من شرب المياه الآسنة كما في بعض الدول الفقيرة.
ثالثاً: وضع الماء في المساجد؛ أو الأسواق أو الطرق وتعاهده، بل وعند البيوت، ولها أثر في حفظ البيت من السرقة لبركة الصدقة، ولكثرة الشاربين؛ جاء في "الترغيب والترهيب": أن الإمام الحاكم أصابته قرحة في وجهه قريبًا من السنة، فتصدق على المسلمين بوضع سقاية على باب داره، فشرب منها النَّاس، فما مر عليه أُسبوع إلا وظهر الشفاء، وعاد وجهه أحسن ما كان، وبرئ بإذن الله.
رابعاً: حمل الماء في السيارة وتوزيعه على من يحتاجه.
خامساً: وضع البرادات في الأماكن العامة وتعاهدها بالماء الصالح.
سادساً: انتهاز فرصة تجمعات الناس سواء في الحج أو العمرة، أو في اللقاءات التي يحتاجون فيها إلى الماء فيسابق للسقاية.
سابعاً: وضع ماء في إناء للهوام والدواب، وللطير والكلاب، «ففِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ».
أخيرًا، فإن أعمال الخير، وأبواب البر ميسورة، وليس على العبد إلا أن يُبادرَ للإحسان، ويسابق لبذل المعروف، وفعل الخيرات، ونحن في شهر حرام، تعظم فيه الحسنات والسيئات، قال تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين)، وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان).
فعلينا جميعاً أن نحرص أشد الحرص على استثمار أوقاتنا فيما يقربنا إلى ربنا جل جلاله، ولنتذكر قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا اولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتن إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن ؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون).
المشاهدات 5049 | التعليقات 0