فضل المداومة على العمل الصالح والمعينات عليها

عبد الله بن علي الطريف
1444/10/06 - 2023/04/26 20:52PM

فضل المداومة على العمل الصالح والمعينات عليها 1444/10/8هـ

الحَمْدُ للهِ الذِي جَعَلَ الحَيَاةَ مَواسِمَ لِلطَاعَةِ، وَجَعَلَها مُيَسرَةً للعَبدِ عَلَى مَدَارِ السَاعَةِ، فالْمُوفقُ يَخْرُجُ مِنْ طَاعَةٍ وَيَلِجُ بِطَاعَةٍ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً.. أَمَا بَعْدُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]

أيها الأحبة: لقد خلق الله الخلق وأسكنهم هذه الأرض ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فقال: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:2]، ودعاهم سبحانه للإيمان والعمل الصالح فقال: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر]. وأفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ». قَالَ الروي: "وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا عَمِلَتْ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ" متفق عليه.    

وتظهر أهمية المداومة على الأعمال الصالحة من وجوه: أولها: أن فرائض الله عز وجل إنما فرضت على الدوام، وهي أحب الأعمال إليه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ». رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ومنها: أن المداومة على الأعمال الصالحة هو هدي رسولِنا ﷺ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ..». (أثبته) أي جعله ثابتاً غير متروك. وقالت: «وَكَانَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا». وَقَالَتْ: «كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ دِيمَةً». أي: يدوم عليه ولا يقطعه، وشُبه عملُه بالديمة في دوامه مع الاقتصاد. رواها مسلم.

ومن شدة اهتمامه ﷺ بالمداومة على الأعمال الصالحة أنه كان يقضي بعض النوافل؛ فكان قضاؤها مستحباً.. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «..وَكَانَ ﷺ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً» رواه مسلم.

ومنها: أن المداومة على الأعمال الصالحة أحبَّ الأعمال إلى الله فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ». متفق عليه. (أحب الأعمال): أكثرها قبولاً (أدومها): ما استمرَ عليه فاعلُه وواظب عليه.

أحبتي: وللمداومة على الأعمال الصالحة آثارٌ عظيمة على النفس:

منها: أنها تكون سبباً لتعاهد النفس عن الغفلة، وقد نهى الله عن الاتِّصاف بها؛ فقال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف:205] وجعل رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المداومةَ سبباً للسلامة من الغفلة فَقَالَ: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ المُقَنْطِرِينَ» رواه أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وصححه الألباني. وهي سببٌ لترويض النفسِ على لزومِ الخيرات حتى تسهل عليها، حتى تصبحَ ديدناً لها لا تكاد تنفك عنها رغبةً فيها، وكما قيل نفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية..

ومن هنا ندرك ما يوفق له بعض المداومين على الطاعة من صبرٍ على الجلوس لتلاوة كتاب الله، والمحافظةِ على صيام النوافل في الصيف الشديد الحر، والتبكيرِ للمساجد، وهجرِ لذيذ المنام في ليالي الشتاء شديدة البرد. (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة: 4].

ومن آثار المداومة على الأعمال الصالحة: أنها سببٌ لمحبة الله تعالى للعبد وولاية العبد لله. قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:222] التَّوَّابِينَ أي: من ذنوبهم على الدوام.

ومن آثار المداومة على الأعمال الصالحة: أنها سببٌ للنجاة في الشدائد: قال تعالى عن يونس عليه السلام: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) [الصافات:143- 145]، أي: في وقته السابق بكثرة عبادته لربه، وتسبيحه وتحميده في بطن الحوت حيث قال: لا إله إلا انت سبحانك إني كنت من الظالمين.. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «يَا غُلامُ، أَوْ يَا غُلَيِّمُ: أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ؟» فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ». رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني. والمداومة على العمل الصالح من التعرف على الله في الرخاء.

 ومن آثار المداومة على الأعمال الصالحة: أنها تنهى صاحبها عن الفواحش قال الله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت:45] قال الشيخ السعدي رحمه الله: "ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أن العبد المقيمُ لها، المتممُ لأركانها وشروطها وخشوعها، يستنيرُ قلبُه، ويتطهرُ فؤادُه، ويزدادُ إيمانُه، وتقوى رغبتُه في الخير، وتقلُ أو تُعدمُ رغبتُه في الشر، فبالضرورة مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه، تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها"..

وَجَاءَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ. فَقَالَ: «إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا تَقُولُ». رواه أحمد وابن حبان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وهو صحيح.

ومن آثار المداومة: أنها سببٌ لمحو الخطايا والذنوب، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّتٍ، هَلْ يَبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيءٌ.؟ قالُوا: لاَ يَبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ.. قَالَ: فَذلِكَ مِثْلُ الصَّلَواتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا». رواه البخاري ومسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ.

ومن آثار المداومة على الأعمال الصالحة: أنها سببٌ في تثبيت المؤمنين الذين قاموا بما عليهم من إيمان القلب التام، الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها في الحياة الدنيا، وذلك عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين. وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومراداتها، وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي والخاتمة الحسنة، وفي القبر عند سؤال الملكين، للجواب الصحيح قال الله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:27].

ومن أعظم آثار المداومة على الأعمال الصالحة: أنها سبب لدخول الجنة، فقد ذكر الله صفات المؤمنين في سورة المعارج وبدأها بقوله: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج:23]، ثم ذكر أوصفاً أخرى لهم وختم الصفات بقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) [المعارج:34،35] وقال في ختام صفات المؤمنين في سورة المؤمنون: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ. أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون:9،11].

أيها الأحبة: وهُنا بشارة نبوية للمداومين على الطاعة قَالَ ﷺ: «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا». رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه. قال ابن حجر رحمه الله: "هذا في حق من كان يعمل طاعة فمنع منها، وكانت نيته لولا المانع أن يداوم عليها". وَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِنَ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ؛ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ». رواه النسائي وصححه الألباني عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. اللهم أعنا على شكرك ونكرك وحسن عبادتك.. بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

أيها الأحبة: اتقوا الله حق التقوى واعلموا أن المداومة على العمل الصالح تحتاج منا إلى عزيمة صادقة على لزوم العمل، ومن فوائد رمضان أنه يدرب الإنسان على الأعمالِ الصالحةِ، وحقٌ على كلِ مؤمنٍ تنعمَ بالطاعةِ فيه، أن يستمرَ فرمضان ليس شهراً، بل أسلوبَ حياة، وبدايةً لتغيير نمط حياتنا، فلا تودعوه، بل افسحوا له المجال ليحيا معكم وتحيوا به طوال العام، فالصوم لا ينتهي، والقرآن لا يهجر، والمسجد لا يترك بعد رمضان.. وعلينا الاستمرار على شيءٍ من الطاعة، ومن أهمها الوترُ فلا نتركه، كذلك قراءةُ شيء من كتاب الله يومياً، وصيامُ بعض الأيام خلال العام.. ومن أفضل المداومة إتباعُ رمضانَ بستٍ من شوال، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ». رواه مسلم عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

واعلموا أيها الأحبة: أن البركة بالمداومة؛ فمن حافظ على قراءة جزء من كتاب الله ختمه في شهر وهكذا بقية الأعمال الصالحة.

أيها المداومون على قيام رمضان: قوموا في غيره ولو ركعات قليلة لا تأخذ من وقتكم دقائق، فإنه لا يحسن بنا وقد داومنا على ذلك في رمضان أن نتركه في غيره، فعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا عَبْدَ اللَّهِ: لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ». متفق عليه.

ولقد وعت أُمْنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أهمية المداومة حق الوعي، فعن رُمَيْثَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ أنها أَصْبَحْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَصَلَّتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَيَّها فَضَرَبَتْ فَخِذِها، وَقَالَتْ: "يَا رُمَيْثَةُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُصَلِّيَهَا وَلَوْ نُشِرَ لِي أَبَوَايَ عَلَى تَرْكِهَا مَا تَرَكْتُهَا". أي لو بعثا لي رواه النسائي بالكبرى.

أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا.                     

المشاهدات 3994 | التعليقات 0