فضل العشر الأواخر وخطورة التفريط فيها

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

 

أيها المسلمون: قبل أيام قليلة كنا ننتظر هلال شهر رمضان حتى وصل إلينا نوره وتجلى لنا بدره، ودخل على أهل الإيمان وقلوبهم مسرورة بمقدمه لما يعلمون ما يحوي هذا الشهر من الفضائل والأعمال التي يسمو بها العبد من المنازل؛ لكن المتأمل في أيام رمضان المباركة يراها متسارعة لا تنتظر النائم حتى يستيقظ من نومه ولا الغافل حتى يتنبه ويفر من غفلته، ولا البخيل حتى يترك بخله وينفق من مال الله وعطائه؛ فيا خسارة من قضى ما فات من أيام رمضان نائما ولياله لاهيا؛ فكم حرم نفسه من الأجور، وكم حبس نفسه عن الزرع الأخروي والبذور؛ يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "كم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل، وهذه الأيام مثل المزرعة فكأنه قيل للإنسان: كلما بذرت حبَّة أخرجت لك كُرًّا (وهو المكيال الضخم)؛ فهل يجوز للعاقل أن يتوقف عن البذر ويتوانى".

 

فيا عبدالله: هل ندمت على ما فات من أيام هذا الشهر المبارك؟ أما والله لا زالت الفرصة مواتية والعشر المباركة من رمضان آتية؛ ففيها العوض لما فاتك والخير لمعادك؛ فاغتنمها تسعد واجتهد فيها تحمد.

 

جرت السنين وقد مضى العمر *** والقلب لا شكر ولا ذكرُ

ها قد حباك الله مغفـــرة *** طرقت رحابك هذه العشرُ

 

وحسب العشر فضلا ومنزلة أن فيها ليلة خير من ألف شهر؛ (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[القدر: 3]، وسميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرف منزلتها؛ وهي ليلة مباركة تتنزل فيها الملائكة إلى الأرض عدد الحصاة؛ (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[سورة القدر: 4-5].

وليلة القدر فيها المغفرة لمن قام إيمانا واحتسابا؛ كما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-أن النبي الأكرم -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه"(رواه البخاري ومسلم).

 

 والموفق -أيها المؤمنون- من يحرص على قيام ليلة القدر ويتهيأ لها ليدرك بركتها ويجني ثمارها وينعم بآثارها، وهذه الليلة المباركة تأتي في ليالي الوتر من العشر المباركة من رمضان؛ يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "غير أنّ القولَ بتنقُّلها بين ليالي أوتارِ العشر هو الأظهر جمعًا بين الأخبار"؛ والحكمة من إخفائها وتنقلها بينها أهل العلم فقالوا: "وإنما أخفَى الله -عزّ وجلّ- موعدَ هذه الليلة ليجتهدَ العبادُ في العبادة، وكي لا يتّكلوا على فضلها ويقصّروا في غيرها، فأراد منهم الجدَّ في العمل أبدًا"؛ فنبغي للعبد أن يجتهد في العشر الأواخر من رمضان وفي الليالي الوترية أشد وفي ليلة سبع وعشرين آكد.

وليلة القدرِ فقل: أرجاها *** ليلةُ سبعٍ وعشرين فقمْ تلقَاها

 

وإذا ما أراد العبد إدراك ليلة القدر؛ فليجتهد في العشر كاملة؛ كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه- "مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ"؛ وليكثر المسلم في هذه الليلة من الدعاء الذي علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة-رضيَ اللهُ عنها-؛ كما في الحديث أنها قالت: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ قَالَ: "تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي"(صححه الألباني).

 

ومما يعين على الاجتهاد في هذه العشر وإحيائها التأمل في حال نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- لما تدخل عليه هذه العشر وكيف كان يقضيها؛ روت عنه عائشة -رضي الله عنها- في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ "كانَ إذا دخلتِ العشرُ أحيا رسولُ اللهِ اللَّيلَ، وأيقظَ أَهلَهُ، وشدَّ المئزر".

 

وهكذا كان حال الصحابة الكرام والسلف الأعلام يجتهدون في العشر الأواخر من رمضان بإقامة الواجبات والتزود من النوافل والمندوبات وتلاوة الآيات، والحث على فعل الخيرات والإنفاق وبذل الصدقات، وقيام الليل بالصلوات ومناجاة رب البريات؛ حالهم في هذه العشر، كما قال الشاعر:

يَا رِجَالَ اللَّيْلِ جِدُّوا *** رُبَّ صَوْتٍ لا يُرَدُّ

لا يَقُومُ اللَّيْلَ إِلاَّ *** مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ

 

عباد الله: ولسائل أن يسأل ماذا أعمل في هذه العشر المباركة غير تحري ليلة القدر؟

 

والجواب على هذا التسائل -معشر الأفاضل- أن يبدأ المسلم بفعل ما أوجبه الله عليه نحو خالقه؛ فيقوم بالواجبات والفرائض، كما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: يقول الله في الحديث القدسي: "وما تقرب إليّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افترضته عليه"، ويأتي في مقدمة فرائض الله على عباده؛ عبادتهم له وتوحيده وعدم الإشراك به -سبحانه وتعالى-، وإقامة الصلاة الواجبة التي هي عماد الدين (الخمس الصلوات) وإيتاء زكاة المال الذي بلغ النصاب وحال عليه الحول، وعبودية الصيام في سائر أيام رمضان، والموفق كذلك من يقوم بواجباته نحو عباد الله من أداء الحقوق والديون والأمانات؛ فبذلك يتحقق للمسلم المرام ويلج دار السلام.

 

ومن الأعمال التي يستحب التزود منها في هذه العشر المباركة: التزود من نوافل العبادات؛ سواء نوافل الصلوات أو الصدقات والاكثار من الذكر والاستغفار؛ لأن الله -تعالى- يقول: "ولا يزالُ عبدي يتقربُ إليّ بالنوافلِ حتى أحبَّه؛ فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به وبصرَه الذي يُبصِرُ به ويدَه التي يَبطشُ بها ورجلَه التي يمشي بها، فبي يسمعُ وبي يُبصرُ وبي يَبطشُ وبي يمشي، ولئن سألني لأُعطينه ولئن استعاذني لأُعيذنه، وما ترددت في شيءٍ أنا فاعلُه ترددي في قبضِ نفسِ عبدي المؤمنِ يكرهُ الموتَ وأكرهُ مساءتَه ولابدَّ له منه".

 

ومن الأعمال الفاضلة في العشر المباركة: لزوم المسجد بنية الاعتكاف، ولا يكون إلا في المساجد قال -تعالى-: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)[البقرة: 187]، والاعتكاف سنة النبي الكريم -عليه أفضل الصلاة وأطيب التسليم-؛ حيث كان: "يعتكف في كل رمضان عشرة أيام؛ فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما"(رواه البخاري).

وللاعتكاف مقاصد وغايات؛ أبرزها الانقطاع إلى الله والخلوة به حتى يصبح اتصال العبد بربه أنيسه من كل وحشة؛ فيستعد ليوم لا أنيس له سوى ربه ومولاه؛ ورحم الله العلامة ابن القيم حيث بين الحكمة من الاعتكاف؛ فقال: "إن عكوف ‌القلب على الله تعالى وجمعيته عليه، والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده".

 

ومن الأعمال الفاضلة في العشر المباركة: الإكثار من الدعاء والإلحاح على الكريم الفتاح -جل في عليائه-؛ وخير الدعاء ما اشتمل على حاجات الدنيا والآخرة؛ ومن الأدعية الجامعة لذلك؛ (ربنا آتنا في ‌الدنيا ‌حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)[البقرة: 201].

 

فتهيأوا -أيها المؤمنون- لخير أيام شهركم واجتهدوا فيها بطاعة ربكم؛ يستقيم لكم أمر حياتكم وتسعدون في آخرتكم.

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: 

 

عباد الله: ومن الأعمال الفاضلة في العشر المباركة أداء شعيرة العمرة؛ فالعمرة في شهر رمضان تفوق العمرة في غيره من الأزمان؛ كما في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أداء شعيرة العمرة عُمْرَةً في رَمَضانَ تَقْضِي حَجَّةً -أوْ حَجَّةً مَعِي"(رواه البخاري ومسلم)؛ فليحرص المؤمن على أداء العمرة في هذه العشر المباركة، وعلينا جميعا أن نستبشر بمقدم هذه العشر المباركة؛ فلعل الله أن يكتب لنا فيها خيرا كثيرا.

 

عُذرًا أيا العشْرُ الأواخِر هكذا *** وحَلَ الطريقُ وغاصتِ الأقدامُ

أقبلتِ حيَّ هلا لعلّ قلوبَنا *** تصفُو ويصحُو حين جئتِ نيامُ

ولعلّ مليارًا يزيلُ غثاءَه *** ليصوغَ أمنَ العالم الإسلامُ

 

 

وختاما -أيها الكرام- الله الله بالاجتهاد في هذه العشر، والحذر من التفريط فيها؛ وهل يقبل عاقل أن يخرج عليه رمضان بلا مغفرة لذنوبه؟

جاء في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ "صعد على المنبر فقال آمين؛ فلمَّا نزل سُئل عن ذلك، فقال: أتاني جبريلُ، فقال: رغِم أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغفرْ له، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين"(حسنه الألباني)

 

واعلموا أن أيام شهر رمضان كادت أن تنقضي شاهدة على ما قدمتم من خير وتشمير أو شر وتقصير ليوم المرجع والمصير؛ وصدق العليم الخبير حين قال: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ)[آل عمران:30].

 

وصلوا وسلموا على البشير النذير حيث أمر الله بالصلاة والسلام عليه؛ فقال في كتابه الحكيم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

اللهم وفقنا للصالحات في هذه العشر وبلغنا ليلة القدر واكتب لنا فيها أعظم الأجر.

 

اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك والعتيق من نيرانك والفوز بجنانك.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين واخذل أعداءك أعداء الدين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة.

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا ووالدينا عذاب القبر والنار.

المشاهدات 747 | التعليقات 0