فضل العشر الأواخر من رمضان وليلة القدر

عبدالرحمن سليمان المصري
1445/09/18 - 2024/03/28 11:32AM

فضل العشر الأواخر من رمضان وليلة القدر

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ المتفضِّلِ على عِبادهِ بمواسمِ الخيراتِ ، والمَانِّ عليهم بعظيمِ الهباتِ ،  وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أن محمدا عبدهُ ورسولهُ ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلَّم تسليماً كثيراً ، أما بعد :

أوصيكمْ ونفسي بتقوى اللهِ تعالىَ فهيَ وَصيةُ اللهِ للأولينَ والآخِرينَ ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.

عباد الله : ها هي أيامُ رمضانَ تَتَسارعُ مؤذنةً بالرَّحيلِ والانصرامِ ، كأنها أضغاثُ أحلامٍ ، فقد مضى أولُ الشهرِ وأوسَطُهُ، وَهَا نَحنُ عَلى أبوابِ العشرِ الأواخرِ منهُ ، وهي أفضلُ أيامِ الشهرِ ، ولياليهِ أفضلُ ليالي العام ، وهي سوقٌ عظيمةٌ للتنافسِ ، وامتحانٌ تُبتلى فيه الهممُ ، ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ ، فما هيَ إلا أيامٌ معدوداتٌ ، ولئنْ كانتِ الطاعةُ في هذا الشهرِ المباركِ أُجورهُ عظيمةٌ ، فهيَ في العشرِ الأواخرِ منهُ أعظمُ أجراً وأرفعُ قدراً .

عباد الله : في هذِه العشرِ المباركةِ ؛ ليلةُ القَدْرِ الَّتِي شرَّفها اللهُ على غيرها، وأنزلَ سورةً من القرآنِ في شأنها ، ومَنَّ على هذهِ الأمةِ بجزيلِ إِنعامِهَا ، ليلةٌ مباركةٌ لكَثْرةِ خيرِها وفضْلِها ، أنزلَ اللهُ فيها القرآنَ العظيمِ ، ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾القدر:1 ، وفِيهَا يُقضىَ ويُفصلُ من اللوحِ المحفوظِ إلى الملائكةِ الكَتَبَةِ ، كلُّ أمرٍ مُحكمٍ ؛ من الآجالِ والأرزاقِ في تلك السنةِ ، ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ الدخان:4 .

 

ليلةٌ كَثُرَتْ خَيراتُها، وعَمَّت بَرَكَاتُها، تَتَنزَّلُ الملائكةُ فيها بالخيراتِ والرحماتِ ، ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم من كُلِّ أَمْرٍ﴾ القدر: 4 ، والملائكةُ في ‌تلكَ ‌الليلةِ ‌أكثرُ من ‌عددِ ‌الحصَى على الأرضِ . 

إنها ليلةُ سلامٍ لأهلِ الإيمانِ ، يَسلمونَ فِيها من كلِّ مخوفٍ ؛ لكثرةِ من يُعتَقُ فيها من النَّارِ ، ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ القدر:6.

عباد الله : ليلةُ القدرِ؛ ليلةٌ لا يساويها شيءٌ من لياليْ الدهرِ ، هي خيرٌ منْ ألفِ شهرٍ خَلتْ منها ، فالعبادةُ فيها أفضلُ وأعظمُ من عبادةِ ثلاثٍ وثمانينَ سنةٍ ، وقد أخفىَ اللهُ سبحانهُ عِلْمَهَا عنْ العبادِ رحمةً بهم ؛ ليكثُرَ عملُهُمْ في طَلبِها ، فيزدَادُوا قربةً من اللهِ وثواباً، واختباراً لهم ليتبيَّنَ بذلكَ من كانَ جاداً في طلبِهَا حريصاً عليها ، قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ محمد: 31 .

ليلةٌ مَن عَمَرَهَا بالطاعاتِ والقرباتِ، من صلاةٍ وتلاوةٍ وذكرٍ ودعاءٍ ، وكان ذلكَ إيماناً بفرضِهَا منَ اللهِ، واحتساباً لأَجرهَا ؛ كفَّرَ اللهُ عنهُ خَطَايَاهُ ، قال صلى الله عليه وسلم :" من قَامَ ليلةَ القدرِ إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه" .

وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْلِطُ العِشْرين الأولى من رمضانَ  بصلاةٍ ونومٍ ، فإذا كان العشرُ الأواخرُ شمَّر وشدَّ المِئزرَ ، فكان يُحْيي ليلَه ويجتهدُ بالعبادة ، وكان صلى الله عليه وسلم  يعْتَكِفُ العشر الأواخر من رمضانَ في المسجدِ ؛ لِيَتَفَرَّغَ لطاعةِ الله طلباً لفضْلِهِ وثوابِهِ وإدراكِ ليلةَ القَدْرِ، ومن عجزَ عن الاعتكافِ فينبغي لهُ عندَ دخولِ المسجدِ أن ينوي الاعتكافَ فترةَ بقائِهِ في المسجدِ للصلاةِ المفروضةِ.

 

عباد الله : وليلةُ القدرِ اختلفَ العلماءُ في تعيينها ، والراجحُ أنها تنتقلُ ولا تَخْتَصُّ بليلةٍ معينةٍ في جميعِ الأعوامِ ، قال النووي : وهذا هو الظاهرُ المختارُ لتعارضِ الأحاديثِ الصحيحةِ في ذلك ، ولا طريقَ إلى الجمعِ بينها إلا بانتقالها .أ.هـ.

وكلُّ لياليْ العشرِ قد تكونُ محلّاً لها ، ومن اجتهدَ في جميعِ لياليْ العشرِ بالقيامِ والخشوعِ بينَ يديْ اللهَ تعالىَ ؛ فقدْ أدركَ ليلةَ القدرِ ، لأنَّها لا تَخرجُ عن هذِهِ العشرِ المباركةِ ، وفي كلِّ ليلةٍ للهِ عتقاءُ منَ النَّارِ .

عباد الله : وليحذرِ المؤمنُ من العُجْبِ والغُرورِ من أَعمالهِ وقُرباتهِ ، فإنَّ ذلكَ يُحبطُ العملَ ، وهو أنْ يستكثرَ عملهُ ، أو يرى أنهُ أفضلُ من غيرهِ ،  أو أن عملهُ هو باجتهادهِ وقوتهِ ، أو أن يمنَّ بعملهِ على اللهِ  ؛ وهو أعظمها .

وليعلمِ المؤمنُ أنَّ كلَّ عملٍ من أعمالِ الخيرِ إنما هو بتوفيقٍ من اللهِ عزَّ وجل ، قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾النور :21.

وليجمعِ المؤمنُ في عملهِ بين الخوفِ والرجاءِ ، فالخوفُ يدعوهُ للاستزادةِ منَ الأعمالِ الصالحةِ ، والرجاءُ يدعوهُ إلى حُسنِ الظنِ باللهِ ، وأنهُ لا يُضيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً ، ولا يَظلمُ مِثقالَ ذرةٍ ، بلْ يُجازي بالإحسانِ إحساناً ، وبالإساءةِ عَفواً وصَفحاً وغُفراناً لمن يشاءُ عزَّ وجل ، قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ الأنبياء :90 .

 

  بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.           

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا .        أما بعد :

 

عباد الله : تَبيَّنُوا شرفَ زمانكمْ، واعلموا أن الدعاءَ عبادةٌ عظيمةٌ يُحبها اللهُ ، وقُربةٌ من أجلِّ القرباتِ، فالدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ ، ومنْ لا يدعوا ربَّهُ يَغضبْ عليهِ ، وما استُجلبتِ النعمُ بمثلهِ ولا استُدفعتِ النقمُ بمثله ، ذلكَ أنهُ يتضمنُ توحيدَ الله ، وإفرادَهُ بالعبادةِ دونَ من سِواهُ ،  ولَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الدُّعَاءِ ، ولا يردُّ القدرَ إلا الدعاءُ ، وهو ينفعُ مما نزلَ ومما لم ينزلَ ، وقد سألتْ أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ رضي الله عنها ، النبيَ صلى الله عليه وسلم : أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا ، قَالَ: " قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ ‌عُفُوٌّ ‌تُحِبُّ ‌الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي "رواه الترمذي بسند صحيح .

وقد ختمَ اللهُ آياتِ الصيامِ بالحثِّ على الدعاءِ، ليبينَّ لعباده مكانة الدعاء وعلوا شأنهِ خاصةً في رمضان ، فيجتهدَ العبدُ بالدعاءِ في هذا الشهرِ ، ومن يُكثرْ قرعَ البابِ يُوشكُ أنْ يُفتحَ لهُ ، ومنْ يُكثرْ الدُّعاءَ يُوشكُ أنْ يُستجابَ لهُ ، ومن سرَّهُ  أنْ يستجيبَ اللهُ لهُ حالَ الشِّدةِ ؛ فليُكثرْ من الدعاءِ حالَ الرخاءِ .

ومنْ أسبابِ الإجابةِ التحلي بآدابِ الدعاءِ ، قال ابنُ القيِّمِ: وَإِذَا جَمَعَ مَعَ الدُّعَاءِ حُضُورَ الْقَلْبِ ، وَصَادَفَ وَقْتًا مِنْ أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ ، وَصَادَفَ ‌خُشُوعًا وَانْكِسَارًا ، وَذُلًّا وَتَضَرُّعًا وَرِقَّةً بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ جلَّ جَلالُهُ ، وَاسْتَقْبَلَ الدَّاعِي الْقِبْلَةَ ، وَكَانَ عَلَى طَهَارَةٍ ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ ، وَبَدَأَ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، ثُمَّ ثَنَّى بِالصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ حَاجَتِهِ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى اللَّهِ ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَتَمَلَّقَهُ وَدَعَاهُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً ، وَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوْحِيدِهِ ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ دُعَائِهِ صَدَقَةً، فَإِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ لَا يَكَادُ يُرَدُّ أَبَدًا. أ.هـ .

قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾البقرة:186 .

اللهم اجعلنا ممن صام رمضان وقامه إيمانا واحتسابا ، واجعلنا ممن يقوم ليلة القدر إيمانا واحتسابا، واجعلنا من عتقائك من النار بمنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين .

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الأحزاب :156.

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .

   

المشاهدات 8289 | التعليقات 0