فضل الدعاء، والحث على اغتنام ليالي رمضان الباقيات-مجمعة-الملتقى-بتصرف

محمد بن سامر
1437/09/18 - 2016/06/23 10:37AM
[align=justify]
أما بعدُ: فإِنَّ مِنْ خَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُسْلِمُ فِي حَيَاتِهِ الدُّعَاءَ، إِنَّهُ الْعِبَادَةُ الْعَظِيمَةُ التِي يُحِبُّهَا اللهُ-تَعَالَى-وَيَرْضَاهَا مِنْ عِبَادِهِ وَرَغَّبَ فِيهَا, قَالَ اللهُ-تَعَالَى-: [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]، وَقَالَ: [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ], وقالَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الدُّعَاء"، ولعظمةِ الدعاءِ جعلَه هو العبادةُ فقالَ: "إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ".
كَمْ نَحْنُ فِي حَاجَةٍ وَفَقْرٍ إِلَى رَبِّنَا-تَبَارَكَ وَتَعَالَى-فَنَدْعُوَهُ, فَكَمْ مِنْ مَرِيضٍ يَحْتَاجُ لِلشِّفَاءِ, وَكَمْ مِنْ مُبْتَلَى يَحْتَاجُ لِلْعَافِيَةِ, وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ يَحْتَاجُ لِلْهِدَايَةِ, وَكَمْ مِنْ مَظْلُومٍ يَرْغَبُ فِيمَنْ يَنْصُرُهُ, وَكَمْ مِنْ غَائِبٍ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ, وَكَمْ مِنْ فَقِيرٍ تَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ الدُّيُونُ وَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَتَنَكَّدَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ!
فَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ اللهِ الْغَنِيِّ الْكَرِيمِ الْبَرِّ الرَّحِيمِ؟
إنَّ اللهَ-عَزَّ وَجَلَّ-حيِيٌ كريم، يَسْتَحْيِي مِنْكَ أَنْ تُنَادِيَهُ فَلَا يُجِيبَكَ, وَتَدْعُوَهُ فَيَتْرُكَكَ, وَتَرْفَعَ يَدَيْكَ إِلَيْهِ فَيَرُّدَكَ خَائِبًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ, يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفَرًا".
يَا مُسْلِمُ ادْعُ رَبَّكَ وَأَبْشِرْ, الْجَأْ إِلَى مَوْلَاكَ وَلا تَحْزَنْ, تَعَلَّقْ بِخَالِقِكَ وَلا تَخَفْ, وَاعْلَمْ أَنَّ رَبَّكَ يَسْمَعُ دَعَوَاتِكَ, وَلا تَخْفَى عَلَيْهِ حَاجَاتُكَ، وَلا تَغِيبُ عَنْ سَمْعِهِ هَمَسَاتُكَ, لَكِنَّهُ قَدْ يُؤَخِّرُ عَنْكَ الْإِجَابَةَ لِتُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ وتَزْدَادَ قُرْبًا وَتُكْثِرَ مِنَ التَّضَرُّعِ وَالرَّجَاءِ.
أَبْشِرْ فَإِنَّكَ لَنْ تَدَعُوَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا أُجِيبَتْ إِمَّا عَاجِلًا أَوْ آجِلًا, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا قَالُوا: إِذَنْ نُكْثِرُ ، قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ"، وَالمَعْنَى: اللهُ أَكْثَرُ إِحْسَانًا وَإِجَابَةً مِمَّا تَسْأَلُونَ.
وَاحْذَرْ مِنَ اسْتِعْجَالِ الْإِجَابَةِ بتركِ الدُّعَاءَ أَوْ الظنِ أَنَّ اللهَ لن يجيبَكَ, بَلْ اسِتَمِرَّ وَأَبْشِرْ بِالْخَيْرِ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-: "ما يزَالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَم يدعُ بإِثمٍ أَوْ قَطِيعةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتعْجِلْ قِيلَ : يَا رسُولَ اللَّهِ مَا الاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَم أَرَ يَسْتَجِيبُ لي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْد ذَلِكَ، ويَدَعُ الدُّعَاءَ".
وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَنْفَعِ مَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الدُّعَاءِ هُوَ السُّجُودَ وَقَبْلَ السَّلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ".
وَإِنَّ الصَّائِمَ دُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ وَخَاصَّةً عِنْدَ فِطْرِهِ, فَأَكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ خَاصَّةً قُبَيْلَ الْإِفْطَارِ فَهُوَ وَقْتٌ حَرِيٌّ بِالْإِجَابَةِ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ".
وما أحسنَ أَنْ تَبْدَأَ بِحَمْدِ اللهِ-سبحانه-ثُمَّ تُصَلِّيَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-، فقد سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ, لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-فَقَالَ: "عَجِلَ هَذَا"، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: "إِذَا صَلَّى-دعا-أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ, ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ".
إخواني: لقد تَمَيَّزَ رمضانُ وفُضِّلَ على غيرِهِ مِن شُهُورِ العامِ، ثُمَّ تَمَيَّزتْ عَشْرُهُ الأخيرةُ وفُضِّلت على سائرِ الليالي، وَهَا نحنُ نستقبلُ هذهِ الفُرصَةَ الثمينةَ، وَالمَغْنَمَ العَظِيم، عشرُ ليالٍ مُبَاركة، وفيها ليلةٌ مُباركة، أخبرَ اللهُ تعالى أنَّها: [خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ].
تَبْدأ العشرُ ليلةَ إِحدَى وَعِشرين؛ وَكانَ مِنْ هَديِ النبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-إحياءُ ليالي العشرِ؛ تقولُ أمُنا عائشةُ الصِّدِّيقةُ-رضيَ اللهُ عنها-: "كَانَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ"، وتقولُ-رضيَ اللهُ عنها-: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا".
ونحنُ نستقبلُ هذهِ العشرَ المُبَارَكة؛ فَلْنَعْلَمْ أنَّ مِنْ أهمِّ ما تُعْمَرُ بِهِ: إحياءَ لياليها؛ بالصلاةِ، وقِرَاءةِ القرآنِ وتَدَبُّرهِ، وَكثرةِ الذِّكْرِ، والدُّعاءِ، والاستغفارِ، وغيرِ ذلكَ مِن العبادات.
وَمِمَّا ينبغي الحِرْصُ عَليهِ والجِدُّ في طَلَبِهِ في هذهِ العشر: ليلةُ القدرِ، ليلةٌ أنزِلَ فيها القرآن؛ وَتَتَنَزَّلُ فيها ملائكةُ الرحمن، ليلةٌ وُصِفَتْ بأنَّها مُباركةُ وأنَّها سَلام، قالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-: "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ..."، وحثَّ على قيامِها فقالَ: "مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وهيَ في الليالي الفرديةِ أقربُ منها في الزوجيةِ.
أخفيتْ هذهِ الليلةُ عنِ العبادِ لحكمةٍ بالغةٍ، والله عليم حكيم.
وَمِنْ أعمالِ هذهِ العشرِ: الاعتكافُ، وهو سنةٌ ثابتةٌ بالكتابِ والسُّنة؛ وقد كانَ-عليهِ وآلهِ الصَّلاةُ والسلامُ-: "يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْـدِهِ"، والاعتكافُ: هو البقاءُ في المسجدِ لطاعةِ اللهِ-تعالى-، وَمَنْ أرَادَ اعتكافَ العشرِ الأواخرِ فليبدأِ اعتكافَهُ مِن غُروبِ شمسِ اليومِ العشرين، ويخرُجُ منهُ بِغُرُوبِ شمسِ ليلةِ العيدِ، وَلا يَخرُجُ إلا لِمَا لا بُدَّ مِنه، ويَشتَغِلُ بالطاعات، ويترُكُ مَا لا يعنيه، ويجوز الاعتكافُ يومٌ وليلة؛ يدخُلُ المسجدَ قبلَ غروبِ الشمسِ ولا يخرجُ إلا بعدَ غروبها مِنَ اليومِ الذي بعدَه.
الخطبةُ الثانية
أما بعدُ: فمَنْ أحسَنَ في أولِ شهرِهِ فَليَسْتَمِر وَلْيَزْدَدَ مِنَ الإحَسانِ، وَمَنْ فَرَّطَ فِيْمَا مَضَى فَلا يُتْبِعْهُ مَا بَقِي.
حَاسِبْ نَفْسَكَ وقدْ مضى أكْثَرُ رمضانَ: كَمْ مِنَ الطاعاتِ كَسَبْتَ، وكم منها خَسِرت؟!، كم مِنَ المَعَاصِي اقترَفت، وكم منها تُبْتَ منها وأنَبْتَ؟!، كم منَ الأوقاتِ الفاضِلةِ غَنِمْتَ، وكم منها ضيعتْ؟!
حاسبْ نفسَكَ ماذا قدَّمتَ لها، في يومٍ تنظُرُ فيهِ ما قَدَّمَتْ يَدَاكَ، وَتُنَبَّأُ فيهِ بما قَدَّمْتَ وَمَا أخَّرْتَ، وَتَرَى فيهِ مِثقَالَ الذَّرَّةِ مِنَ الخيرِ والشَّرِ، وتُوضَعُ فيهِ الموازينُ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، [ونضعُ الموازينَ القسطَ ليومِ القيامةِ فلا تُظلمُ نفْسٌ شيئًا وإنْ كانَ مثقالَ حبةٍ من خَردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبينَ]، تُحْضَرُ للعبدِ أعمالُه خَيرُها وشرُّها؛ فإمَّا أنْ يفرَحَ بها ويُسَرَّ، وإمَّا أنْ يَحزَنَ ويَفْزَعَ، ويودُّ أنْ يَتَبَرَّأ منها، [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ].
يقولُ الشيخُ ابن سَّعدَيٍّ-رحمهُ الله-: "فلْيَحْذَرِ العبدُ مِنْ أعمالِ السُّوءِ التي لا بُدَّ أنْ يَحْزَنَ عليها أشَدَّ الحُزنِ-في الآخرةِ-، وليترُكْهَا وَقتَ الإمكانِ-في الدنيا-قبلَ أنْ يقولَ: [يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ]، فَوَ اللهِ لَتَرْكُ كُلِّ شهوةٍ ولذةٍ-وإنْ عَسُرَ تركُها على النَّفسِ في هذهِ الدارِ-أيْسَرُ مِنْ مُعَانَاةِ تِلكَ الشدائدِ واحتمالِ تلكَ الفضائِح-في يومِ القيامةِ-، ولكنَّ العبدَ مِنْ ظُلمِهِ وجَهْلِهِ لا ينظرُ إلاَّ الأمرَ الحَاضِرَ، فليسَ لهُ عقلٌ كاملٌ يلحَظُ بِهِ عواقبَ الأمورِ فيُقدِمُ على ما ينفَعُهُ عاجِلًا وآجلًا ويُحْجِمُ عن ما يضرُّهُ عاجلًا وآجلًا".

[/align]
المشاهدات 1209 | التعليقات 0