فضل الحج
محمد بن إبراهيم النعيم
الخطبة الأولى
يقول الحق تبارك وتعالى: }وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلاْنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَائِسَ ٱلْفَقِيرَ{ [الحج:27، 28].
سيدخل علينا بعد أيام موسم من مواسم الطاعات وأيام عشر مباركات هي أيام عشر ذي الحجة يتشوق الناس فيها إلى ركن من أركان الإسلام هو الحج، وفي مثل هذه الأيام يحلو ويطيب الكلام عن الحج وفضله وآدابه ليكون المسلم الذي يريد الحج على بينة من أمره وأن يكون مطلعا على أحاديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأقوال أهل العلم كي لا يذهب إلى الحج يقلد الناس دون أن يفقهَ شيئا.
وإن معرفة بعض ثواب الحج يجعل المرءَ يستقبل مشقة الحج بصدر رحب، فالحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام.
قد فرض في السنة السادسة من هجرة المصطفى –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وما حج النبي –صلى الله عليه وسلم- إلا بعد فتح مكة بسنتين علما بأنه أمر أبا بكر الصديق –رضي الله عنه- أن يحج بالناس في السنة التاسعة، ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله تعالى هل الحج على الفور أم التراخي؟ وإن تركنا مجال الخلاف يبقى ترغيب النبي –صلى الله عليه وسلم- في التعجيل في أداء فريضة الحج قبل الوفاة أو المرض فقال –صلى الله عليه وسلم- (من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريضُ وتضل الضالة وتعرضُ الحاجة) رواه أبو داود وابن ماجه.
وأجمع العلماء على أن الحجَ يجبُ في العمر مرة واحدة، وما زاد فهو تطوع. ولقد رغب الرسولُ –صلى الله عليه وسلم- في الحج في أحاديث كثيرة والتي منها أن الحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد حيث روى أبو هريرة –رضي الله عنه- قال: سُئل النبي –صلى الله عليه وسلم- أي العمل أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله)، قيل ثم ماذا؟ قال: (جهاد في سبيل الله)، قيل ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور)، وقال أيضا –صلى الله عليه وسلم- (أفضل الأعمال الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة مبرورة تفضلُ الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها) رواه الإمام أحمد.
وبين النبيُ –صلى الله عليه وسلم- بأن أفضل الجهاد؛ أداء الحج حيث روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهادَ أفضلَ، أفلا نجاهد؟ قال: (لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور) رواه البخاري، وقال أيضا –صلى الله عليه وسلم-: (الحج جهاد كلِ ضعيف) رواه ابن ماجه.
وجاء رجلٌ إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال إني جبان وإني ضعيف، فقال: (هلم إلى جهاد لا شوكة فيه: الحج) رواه الطبراني.
ومن خصائص الحجاج أنهم في ضمان الله لقوله –صلى الله عليه وسلم- (ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، ورجل خرج غازيا في سبيل الله تعالى، ورجل خرج حاجا)، وروى أبو هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (من خرج حاجا فمات كَتبَ اللهُ له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرا فمات كتب الله له أجر المعتمر إلى يوم القيامة) رواه أبو يعلى.
ومن مزايا الحجاج إجابة دعائهم وتفريج كربهم، فقد قال –صلى الله عليه وسلم-: (الحجاج والعمار وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم) رواه البزار.
ويكفي الحجُ فضلا أنه يهدم ما قبله من الذنوب، حيث روى ابْنُ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ فَبَكَى طَوِيلاً... وقال: فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلامَ فِي قَلْبِي، أَتَيْتُ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: (مَا لَكَ يَا عَمْرُو)؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: (تَشْتَرِطُ بِمَاذَا)، قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ...الحديث) رواه مسلم.
فبادروا بالحج يا عباد الله قبل دنو الأجل والوقوع في الضعف والوهن والمرض، فإننا نسمع عن أناس قد مد الله في أعمارهم، وشاب شعرهم، وهم بكامل قواهم العقلية والصحية والمالية ولم يحجوا حتى الآن، ولم يعزموا على أداء فرضهم، فماذا ينتظرون؟ ألا يخشون سوء الخاتمة؟ ألا يخشون أن يموتوا ولم يتموا ركنا من أركان الإسلام الخمسة؟ وقد وردت بعض الأحاديث النبوية لكن في إسنادها ضعف تحذر كل من توانى عن أداء فريضة الحج أن يموت يهوديا أو نصرانيا والعياذ بالله، ألم تسمعوا قول ربنا عز وجل حين قال: }إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(.
وإذا أردتم مزايا تفصيلية عن ثواب الحاج منذ خروجه من بيته حتى رجوعه إليه، فاسمعوا ما ذكره عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حيث قال: كنت جالسا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- في مسجد منى، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف فسلما، ثم قالا: يا رسول الله جئنا نسألك، فقال: (إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت)، فقالا: أخبرنا يا رسول الله، فقال الثقفي للأنصاري: سل، فقال: أخبرني يا رسول الله، فقال: (جئتني تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام وما لك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما، وعن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة وما لك فيه، وعن رميك الجمار وما لك فيه، وعن نحرك وما لك فيه مع الإفاضة)، فقال: والذي بعثك بالحق، لَعنْ هذا جئت أسألك، قال: (فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لا تضع ناقتك خفا ولا ترفعه، إلا كتب الله لك به حسنة، ومحا عنك خطيئة، وأما ركعتاك بعد الطواف؛ كعتق رقبة من بني إسماعيل عليه السلام، وأما طوافك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة؛ فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة يقول: عبادي جاءوني شعثا من كل فج عميق يرجون جنتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر؛ لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفورا لكم ولمن شفعتم له، وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمذخور لك عند ربك، وأما حلاقك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة، ويمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك، فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك فيقول: اعمل فيما مضى تستقبل؛ فقد غفر لك ما مضى) رواه البزار والطبراني وحسنه الألباني.
هذه بعض فضائل الحج، فلنبادر إلى هذه الشعيرة العظيمة، ولا يتوانى من وهبه الله تعالى الاستطاعة، لا سيما أن تكاليف الحج تزدادُ عاما بعد عام، فمنذ بضع سنين كانت لا تتجاوز التكلفة عن خمسة آلاف ريال، واليوم ارتفعت التكلفة إلى الضعف، ولا تزال في زيادة.
أيها الأخوة في الله لقد اشتهر عند بعض العوام من الناس أن من لم يتمم له فإنه لا حج له وهذا خطأن فلا علاقة بين التميمة والتي تسمى بالعقيقة وبين الحج، فالحج يصح فرضا ونفلا سواء تُمم عن الإنسان أم لا.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم من كل ذنب لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: إن المرء الذي هدفه من هذه الحياة أن يعيش فيها فقط، إذا رأى طفلا صغيرا أو مولودا جديدا وُلد لتوه، غبطه وقال: ليتني مثله، أو في مثل عمره؛ كي أبدء حياتي من جديد، وإن المرء الذي همه الآخرة، إذا رأى ذلك الطفل، غبطه لأنه لم تسجل عليه خطيئة واحدة، هل تريد أن تحقق أمنية الرجل الآخر؟ بإمكانك ذلك بالذهاب إلى الحج، فمن حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أي رجع بلا ذنوب كالطفل الذي لم تسجل عليه خطيئة واحدة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: " من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" متفق عليه.
وروى أنس بن مالك-رضي الله عنه- قال: وقف النبي –صلى الله عليه وسلم- بعرفات وقد كادت الشمس أن تؤوب فقال: (يا بلال أنصت ليَ الناس)، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، فأنصت الناس، فقال: (معشر الناس أتاني جبرائيل عليه السلام آنفا، فأقرأني من ربي السلام وقال: إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات)، فقام عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله هذا لنا خاصة؟ قال: (هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة)، فقال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-: كثر خير الله وطاب، رواه ابن المبارك وصححه الألباني.
فهنيئا لمن حج وهنيئا لمن عزم على الحج على هذا الثواب الجزيل.
أيها الأخوة في الله
لقد أشار النبي –صلى الله عليه وسلم- في عدة أحاديث إلى الحج المبرور والتي منها قوله –صلى الله عليه وسلم- " أفضل الأعمال: الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة مبرورة تفضلُ الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها"، فالحج المبرور هو الحج المقبول، وقيل هو الذي لا يخالطه شيء من الإثم، وقيل هو الذي وفيت أحكامه على الوجه الأكمل.
اللهم أعنا على أنفسنا ويسر الهدى لنا ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وابعثنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر،اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداء الدين
9/11/1432هـ.