فضل أهل البيت وقصة استشهاد الحسين
محمد المطري
فضل أهل البيت وقصة استشهاد الحسين
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد:
فإنَّ خير الكلام كلام الله، وخيرَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة.
يقول الله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ [القصص: 68]، فالله سبحانه يختار ما يشاء ويُفضِّله على غيره سواء كان مكانًا كالمسجد الحرام أو زمانًا كرمضان والجمعة أو ذرية كآل إبراهيم وآل عمران أو شعبًا كتفضيله سابقًا بني إسرائيل على شعوب عالمي زمانهم، ثم غضب عليهم بسبب سوء أعمالهم، وإن كان أجدادُهم أنبياء، فالأنساب لا تنفع عند الله، والله يريد منا صلاحَ القلوب والأعمال، قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، فالله جعل الناس شعوبًا وقبائل ليتعارفوا، لا ليتفاخروا، وبين أن الأفضلية عنده بالإيمان والتقوى والعمل الصالح لا بالأنساب والأموال، ولا تعارض بين هذه الآية وما تقرر في الأدلة الأخرى من تفضيل اللهِ ما يشاء؛ لأن التفضيل مِن حيثُ الجملة غيرُ التفضيل من حيثُ الأفراد، فمثلًا جِنسُ الرجالِ أفضلُ من حيثُ الجملة من جِنس النساءِ كما قال سبحانه: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ [آل عمران: 36]، وقال عز وجل: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228]، ولكن ليس كلُّ رجلٍ أفضلُ من كل امرأة، فكم من امرأةٍ واحدةٍ أفضلُ من مائة رجل، بسبب صلاحها وفسادهم، فالعبرة في تفضيل الأفراد بالتقوى كما هو صريحُ الآيةِ الكريمة: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، وهكذا العربُ أفضلُ من العجم من حيثُ الجملة؛ لكون خاتم الأنبياء من العرب أنفسهِم، وجاء بلغتهِم، والقرآنُ عربي، وهذا لا ينافي أن يوجد مسلمٌ أعجميٌ صالحٌ أفضلُ من مائة رجلٍ عربيٍ غيرِ صالح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ إلا بالتقوى))، وهكذا تفضيلُ قبيلةِ قريشٍ وبني هاشمٍ هو من حيثُ الجملة، وليس من حيثُ الأفراد، فمثلًا بلالٌ الحبشيُ رضي الله عنه أفضلُ من أبي لهبٍ القرشيُّ الهاشميُّ، فالأول صحابيٌّ من أهل الجنة، والثاني كافرٌ من أهل النار؛ فالميزان عند الله في تفضيل الأفراد هو الإيمان والتقوى، وليس الأنسابَ ولا الأموال، وقد أخبر الله أنه بارك في ذرية إبراهيمَ وإسحاقَ عليهما الصلاة والسلام، وأخبر أن من ذريتهما من هو محسنٌ ومن هو ظالمٌ فقال سبحانه: ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافات: 113]، فأخبر الله أن بعض ذريةِ إبراهيمَ وإسحاقَ ظالمٌ لنفسه بالكفر والظلم والمعاصي، وقال سبحانه عن نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 26]، فمن ساء عملُه لا ينفعه نسبُه ولو كان ابنَ نبي، فهذا نوحٌ عليه الصلاة والسلام كان أحد أبنائه كافرًا، وكان من المغرقين الهالكين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من بَطَّأَ به عملُه لم يُسرِع به نسبُه))، فلا يجوز في الشرع الفخرُ بالأحساب والأنساب، وإنما التنافسُ بالإيمان والأعمال.
قال ابن تيمية: "قد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الله اصطفى كِنانة من بني إسماعيل، واصطفى قُريشًا من كِنانة، واصطفى بني هاشمٍ من قريش، واصطفاني من بني هاشم)). وجمهور العلماء على أن جِنسَ العربِ خيرٌ من غيرهم، كما أن جِنسَ قريشٍ خيرٌ من غيرهم، وجنسَ بني هاشمٍ خيرٌ من غيرهم، لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كلُّ فردٍ أفضلُ من كل فرد".
أيها المسلمون، يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وروى البخاري ومسلم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله، قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد))، وقد جاء تفسير معنى الآل في الصلاة الإبراهيمية في حديث رواه أيضًا البخاري ومسلم عن أبي حُميدٍ الساعدي رضي الله عنه أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)).
والصحيح عند كثير من العلماء المحققين أن المراد بالآل في الصلاة الإبراهيمية هم أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، بدليل الحديث السابق، وقد رد العلامة ابنُ القيم في كتابه جلاءِ الأفهام على من يزعم أن المراد بالآل في الصلاة الإبراهيمية الأتباع.
أيها المسلمون، أولُ من يدخل في أهل بيت النبي بناتُه: فاطمةُ وزينبُ ورقيةُ وأمُ كلثوم رضي الله عنهن، وأبناؤه: القاسمُ وعبدُ الله وإبراهيم، وكذلك: عليُّ بنُ أبي طالب وجعفرُ بنُ أبي طالب وحمزةُ بنُ عبد المطلب والعباسُ بن عبد المطلب وعُبَيدةُ بنُ الحارثِ بنِ عبد المطلب، والحسنُ والحسينُ ابنا علي، وبقية أولاد علي كمحمدِ بن الحنفية والعباسِ بن علي وأبي بكر بن علي وعمرَ بن علي وعثمان بن علي، وكذلك: عبدُ الله بن العباس، وعبدُ الله بن جعفر، وسائر أولادهم وذريتهم، وكذلك يدخل في أهل بيت النبي: زوجاتُه أمهاتُ المؤمنين رضي الله عنهن، كما قال تعالى: ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 32، 33].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "هذا نصٌّ في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت؛ لأنهن سببُ نزول هذه الآية"، وقال: "لا يشك من تدبر القرآن أن نساءَ النبي صلى الله عليه وسلم داخلاتٌ في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، فإن سياقَ الكلامِ معهن ... وإذا كان أزواجُه من أهل بيته فقرابتُه أحق بهذه التسمية".
أيها المسلمون، اللهَ اللهَ في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أوصانا النبيُّ بأهل بيته، فلْنعرف فضلهم، ولْنحذر من بغضهم بسبب بعض الظالمين منهم، ولا نغفلْ عن قول الله تعالى عن إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام: ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافات: 113]، وقول الله سبحانه: ﴿رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ [هود: 73]، فقد أخبر الله في هاتين الآيتين أن أهل بيت النبي إبراهيم، ومثلُهم أهلُ بيت النبي محمد عليهم رحمةُ اللهِ وبركاتُه، ومنهم المحسن، ومنهم الظالم لنفسِه ظلمًا مبينًا، والواجب على المسلم حبُّ الصالحين من أهل بيت النبي صلى الله وسلم عليه وعلى آله، ولا يجوز بغضُهم بسببِ بعضهم، قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8].
أيها المسلمون، حبُّ أهلِ بيت النبيِّ أمرٌ واجبٌ على كل مسلم، وهو مما يُثقِّلُ ميزانَ العبدِ يومَ القيامة، وهو أمرٌ ثقيل على بعض الناس، روى مسلمٌ في صحيحه من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أما بعد، ألا أيها الناس! فإنما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسولُ ربي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين: أولُهما كتابُ الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به))، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: ((وأهلُ بيتي، أذكركم اللهَ في أهل بيتي، أذكركم اللهَ في أهل بيتي، أذكركم اللهَ في أهل بيتي)).
فيجب على كل مسلم أن يحب الصالحين من أهل بيت نبينا محمدٍ، وأن يحذر أشدَّ الحذر من بغضِهِم، وإنكارِ فضلِهم، ففي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لا يُبغضُنا أهلَ البيتِ رجلٌ إلا أدخله الله النار)).
أيها المسلمون، كما أن بعض الناس يُفتَن بسبب أفعالِ فسقةِ المسلمين المخالفةِ للشرع والأخلاق، فيُبغضُ بسببهم الإسلامَ وجميعَ المسلمين، فكذلك بعضُ الناس يُفتَن بسبب أفعالِ بعضِ الظلمةِ من أهل البيت المخالفةِ للشرع والعدل والأخلاق، فيُبغضُ بسببهم جميعَ أهلِ البيت، والله المستعان.
أيها المسلمون، لا يجوز الغلو في حب أهل البيت، ولا دعوى العصمةِ لهم، فقد ثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال: (يهلِك بسببي رجلان: عدوٌ مبغِض، ومحبٌّ مفرِط)، وقال: (يحبني قومٌ حتى يدخلوا النار بسبب الغلو في حبي، ويُبغضني قومٌ حتى يدخلوا النار بسبب بغضي).
أيها المسلمون، الناظرُ في كتب الحديث يجد فيها أبوابًا في ذكر فضائل أهل البيت، فقد روى المحدِّثون الأحاديث الكثيرة في فضائل أهل البيت، وقد ذكرتُ بعضها، ومن ذلك غيرَ ما تقدم ذكرُه:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو يخطب: ((يا أيها الناس إني تركتُ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتابَ الله، وعترتي أهل بيتي)) رواه الترمذي في سننه في باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وصححه الألباني وغيره.
وفي الحديث المشهور، قال عليه الصلاة والسلام في خطبة غدير خم: ((من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه))، رواه أحمدُ بنُ حنبلٍ في مسنده وابنُ حبانَ في صحيحه، قال أبو نُعيم الأصبهاني: "هذه فضيلةٌ بينةٌ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعناه: مَنْ كان النبي صلى الله عليه وسلم مولاه فعليٌّ والمؤمنون مواليه، دليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71]"، فعليٌّ مولى للمؤمنين، كما أن أبا بكر وعمر وعثمان أولياء للمؤمنين، بل كل مؤمن ولي للمؤمنين، يجب عليه أن يوالي المؤمنين، ويبغض الكافرين والمنافقين، ومن الخطأ أن يُظن أن هذا الحديث يتحدث عن الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، قال البيهقي: "مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) أنه لما بعثه إلى اليمن، وكثرتْ الشكاةُ منه، وأظهر بعضُ الصحابة بغضَه، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكرَ اختصاصَه به، ومحبتَه إياه، ويحثُّهم بذلك على محبته وموالاتِه، وتركِ معاداتِه، والمرادُ به ولاءُ الإسلامِ ومودتُه، وعلى المسلمين أن يوالي بعضهم بعضًا، لا يعادي بعضهم بعضًا". ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71].
اللهم اجعلنا ممن يتولى اللهَ ورسولَه وجميعَ المؤمنين، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى أهل بيته وأزواجه وذريته، وبعد:
أيها المسلمون، في العاشر من شهر محرم الحرام سنة 61هـ استُشهِد الحسينُ رضي الله عنه، وهو ابنُ عليِّ بنِ أبي طالب، وابنُ فاطمةَ بنتِ رسولِ الله، استُشهِد غدرًا وظلمًا في كربلاء بالعراق، وقد كثُر الكلامُ حولِ مقتل الشهيد السعيد السيد السبط الحسين بن علي رضي الله عنه، واستغلها كثيرٌ من الذين في قلوبهم زيغ لنشر بدعهم وخرافاتهم، وإن المسلمين جميعًا قديمًا وحديثًا كارهون لما وقع من قتل الحسين عليه السلام.
قال الحافظ ابن كثير: "كل مسلم ينبغي له أن يُحزنه قتل الحسين رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين، وعلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله فاطمة رضي الله عنها التي هي أفضل بناته".
أيها المسلمون، لا ريب أن الحسين عليه السلام قُتِل مظلومًا شهيدًا، كما قُتِل غيره من الصالحين المظلومين الشهداء، وقتلُ الحسين معصيةٌ لله ورسولِه ممن قتله، أو أعان على قتله، أو رضي بقتله، وقتلُه مصيبةٌ أُصيبَ بها المسلمون، وهو في حقه شهادةٌ له، ورفعُ درجة، وعلوُّ منزلة؛ فإنه وأخاه الحسن سبقت لهما من الله السعادة التي لا تُنال إلا بنوع من البلاء، ولم يكن لهما من السوابق ما لأهل بيتهما كعلي وجعفر وحمزة، فإنهما تربيا في دولة الإسلام، في عزٍّ وأمان، فمات هذا مسمومًا، وهذا مقتولًا، لينالا بذلك منازل السعداء، وعيش الشهداء، وليس ما وقع من ذلك بأعظم من قتل الأنبياء؛ فإن الله تعالى قد أخبر أن بني إسرائيل كانوا يقتلون النبيين بغير حق، وقتلُ الأنبياء أعظمُ ذنبًا ومصيبة، وكذلك قتلُ حمزةَ وجعفرَ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ رضي الله عنهم أعظمُ ذنبًا ومصيبة، والواجب عند المصائب الصبر والاسترجاع، كما يحبه الله ورسوله، ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155 - 157].
أيها المسلمون، خلاصة قصة استشهاد الحسين أنه بلغ أهل العراق أن الحسين لم يبايع يزيد بن معاوية سنة 60 للهجرة، فأرسلوا إليه الرسل والكتب يدعونه فيها إلى البيعة، فأرسل الحسينُ ابنَ عمه مسلمَ بنَ عَقيلِ بنِ أبي طالبٍ ليتقصى الأمور، فلما وصل مسلمٌ إلى الكوفة تيقن أن الناس يريدون الحسين خليفة، فبايعه الناسُ على بيعة الحسين، ولما بلغ الأمر يزيد بن معاوية في الشام أرسل إلى عبيد الله بن زياد والي البصرة ليمنع أهلَ الكوفة من الخروج عليه مع الحسين، فدخل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة، وخوف أهل الكوفة بجيش الشام، ورغبهم ورهبهم، فصاروا ينصرفون حتى لم يبق مع مسلمِ بنِ عَقيل أحد، فقبض عليه عبيد الله بن زياد، وأمر بقتله، وكان مسلمُ بنُ عقيل قد اغتر بأهل الكوفة، وأرسل رسالة إلى الحسين يأمره بالقدوم إلى الكوفة، فخرج الحسين من مكة متجهًا إلى العراق، وحاول منعه كثير من الصحابة، ونصحوه بعدم الخروج، فأبى إلا أن يذهب، وحين وصل الحسين إلى كربلاء قرب الكوفة علم بخبر مقتل مسلم بن عَقيل، وخذلان أهل الكوفة، ولقيه جيش عبيد الله بن زياد بكربلاء، فناشدهم الحسين أن يختاروا إحدى ثلاث: أما أن يتركوه يذهب للجهاد في الثغور، أو يتركوه يذهب إلى يزيد في الشام، أو يتركوه يرجع إلى المدينة، فأبوا إلا أن ينزل على حكم ابن زياد والي العراق، فأبى الذلة، فقاتلوه ظلمًا وعدوانًا، وقتلوه ومن كان معه، فخاب وخسر من شارك في قتل الحسين وأصحابِه، وباءوا بغضبٍ من الله بقتل ابنِ بنتِ رسول الله، وللشهيدِ الحسينِ ومن معه الرحمةُ والرضوانُ من الله، ﴿وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ﴾ [آل عمران: 198].
أيها المسلمون، لا يجوز للمسلم إذا تذكر استشهاد الحسين ومن معه رضي الله عنهم أن يقوم بضرب نفسه، ولطمِ خدِه وصدرِه، وما شابه ذلك من أعمال الجاهلية.
قال العلامة ابن تيمية: "مصيبة الحسين إذا ذُكِرت بعد طول العهد ينبغي للمؤمن أن يسترجع فيها كما أمر الله ورسوله، وإذا كان الله تعالى قد أمر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد بالمصيبة، فكيف مع طول الزمان، فما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشوراء مأتمًا، وما يصنعون فيه من النَّدبِ والنياحة، وإنشادِ قصائد الحزن، وروايةِ الأخبار التي فيها كذبٌ كثيرٌ، والصدقُ فيها ليس فيه إلا تجديدُ الحزن، والتعصبُ، وإثارةُ الشحناء والحرب، وإلقاءُ الفتن بين أهل الإسلام، والتوسلُ بذلك إلى سب السابقين الأولين، وكثرةُ الكذب والفتن في الدنيا".
أيها المسلمون، اللطم والبكاء يوم عاشوراء بدعةٌ منكرةٌ، لم يعملها فضلاء أهل البيت، لا عليُّ بنُ الحسينِ زينُ العابدين، ولا محمدُ بنُ عليِّ بنِ الحسينِ الباقرُ، ولا زيدُ بنُ عليٍّ، ولا جعفرُ بنُ محمدٍ الصادقُ، ولا غيرُهم من أئمة الدين، وكلُّ محدثة بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، وكلُّ ضلالة في النار، والله سبحانه يقول: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 134].
اللهم فقِّهنا في الدين، وارزقنا الإخلاصَ في طاعتِك وطاعةِ رسولك، واجعلنا من المتَّبِعِين لسنةِ نبيك، العارفين بفضلِ أهل بيته وذريته، المتبعين للسابقين الأولين من الصحابة والصالحين من أهل البيت بإحسان بلا غلو ولا طغيان، اللهم إنا نعوذ بك من البدع كلِّها، ومن الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم يا رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، آمين.
اللهم صلِّ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد وأهل بيته وأزواجه وذريته، وعلى الصحابة والتابعين، وعلينا وعلى جميع عباد الله الصالحين من السابقين واللاحقين.
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].
عبادَ الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا الله يذْكُرْكُم، واشكروه على نِعَمِه يَزِدْكُم، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].