فضائل وأحكام عيادة المريض
صالح عبد الرحمن
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله خلَق الإنسانَ وَلَمْ يَكُنْ شيئًا مَذكورًا، هَدَاهُ السَّبيلَ إمَّا شَاكرًا وإمَّا كفورًا، أَشْهَدُ ألَّا إله إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إنَّه كانَ حَلِيمًا غَفُورًا، وَأَشهدُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُ الله وَرَسُولُهُ كَانَ للهِ عَبْدًا شَكُورًا، صلَّى اللهُ وَبَاركَ عَليهِ وَعلَى آلِه وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابعينَ وَمَنْ تَبِعَهم بِإحْسَانٍ وسلَّمَ تَسْلِيمَاً مَزِيدا. أمَّا بعدُ: فَأَوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ.
إن الإنسان في هذه الدنيا لا يسلم من بعض العوارض التي تحصل له؛ مما يُقدره الله -تعالى- عليه؛ فإن من جَرَّبَ البَلاءَ والمرض يَومًا عَرَفَ قِيمَةَ العَافِيَةِ، وَمَن رَقَدَ عَلَى سَرِيرِ المَرَضِ ثَمَّنَ قَدرَ الزِّيَارَةِ، وعرف فضلها ومنزلتها.
والمعنى أن من أعظم البلاء فقدان الصحة وانعدام العافية؛ فالصحة والسلامة في البدن تُعد من أعظم النعم التي نسأل الله -تعالى- أن يُمتعنا جميعًا بها، وأن يُعيننا على أداء شكرها.
ومما جاء في الحِكم والأمثال المُشتهرة على ألسُن الناس قولهم: "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى"، وما ذلك إلا لأن المَرِيضُ يُنهَكُ بِالدَّاءِ جَسَدُهُ، وَتَضعُفُ بالآلام قُوَّتُهُ، فَتَرَاهُ يَفرَحُ بِالزِّيَارَةِ، وَيَأنَسُ بِالعِيَادَةِ، وَيَشتَاقُ لِمَن غَابَ عنه، وَيَسعد بِمَن حَضرَ إليه، وَهو في الوقت نفسه يَحزَنُ ويتألم عندما يَرَى إِخوَانَهُ وأصدقاءه وأقرباءه وجيرانه عَنهُ مُعرِضِينَ، وعَن عِيَادَتِهِ متكاسلين، وعن زيارته والسؤال عن حاله غَافِلِينَ أو مُتغافلين.
من هنا، فَقَد عُنِيَ الإِسلامُ وتربيته السامية بهذَا الجَانِبِ التربوي، وهذا الحق الإنساني المُتمثل في عيادة المريض، وَأَولاهُ مِنَ الاهتِمَامِ قَدرًا عَظِيمًا؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قال: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ: أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ, وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلا"(رواه الترمذي).
وقد جاء في فضل عيادة المريض ما صحَّ عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ! مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟! قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟"(رواه مسلم).
وقد بيَّن العُلماء أن زيارة المريض مستحبةٌ ولو كان مغمى عليه، أو فاقدًا للحس والإدراك؛ فقد زار النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر -رضي الله عنه- جابرَ بن عبدالله، ووجداه مغمى عليه، وما ذلك إلا لأن في مثل هذه الزيارة جبرٌ لخواطر أهله وذويه، مع ما يرجى من إجابة الدعاء -بإذن الله تعالى-.
كما أن من تربية الإسلام وهدي النبوة المُبارك أن عيادة المريض تكون للأطفال الصغار؛ فقد صحَّ عند البخاري عيادته -صلى الله عليه وسلم- لصبي لإحدى بناته، وتُستحب الزيارة للمريض ولو كان غير مسلمٍ؛ لما صحَّ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاد أبا طالب وهو كافر، وكان له غلامٌ يهودي خادمٌ له في المدينة، فمرض فعاده النبي ودعاه للإسلام والنطق بشهادة الحق، ففعَل!.
إن زيارة المريض تُقوِّي عزيمته وتعينه على التحلي بالصبر، وتغرس الأمل في نفسه، وعدم انقطاع الرجاء، وأنه سيتعافَى -بإذن الله تعالى-، وأن ما يصيبه خيرٌ له إذا صبر واحتسب لما يترتب على ذلك من تكفيرٍ لذنوبه وخطاياه، ورفعةٍ لدرجاته، وزيادةٍ في حسناته؛ فقد صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال: "ما مِن مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِن مَرَضٍ، فَما سِوَاهُ إلَّا حَطَّ اللَّهُ به سَيِّئَاتِهِ؛ كما تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا"(مُتفقٌ عليه).
بل إن عيادة المريض طريقٌ إلى الجنة؛ حيث صحَّ عن ثوبان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ المُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ المُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ؛ حَتَّى يَرْجِعَ"(رواه مسلم).
عيادة المريض سببٌ لصلاة الملائكة الكرام ودعائهم للإنسان؛ فقد أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- أنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِما غُدْوَةً؛ إلا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ, وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إلا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ"(رواه الترمذي).
وكفى بعيادةِ المَرِيضِ أَن يَعلَمَ المَرءُ مقدار ضَعفهُ، وَقِلَّةَ حِيلَتِهِ؛ وتذكُّره بمَصِيرَهُ ومآله؛ وَيَزدَاد مِنَ الصَّالِحَاتِ، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "عُودُوا المَرضَى، وَاتَّبِعُوا الجَنَائزَ تُذَكِّركُمُ الآخِرَةَ"(رواه أحمد).
أقُولُ قَوْلي هَذَا، وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ؛ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ، إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أن القيام بحقوق المرضى قيمةٌ إنسانيةٌ عظمى، وصورةٌ راقيةٌ من صور تكاتف المجتمع وتماسكه؛ فزيارة المريض تُسعد النفوس، وتنشر التآلف والمحبة بين الناس، وتُشيع المودة والإخاء بينهم، وتعمل على مد جسور التواصل والتكافل والإحسان.
واعلموا -رعاكم الله- أن لزيارة المريض آدابًا أرشدنا إليها محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وهديه التربوي العظيم؛ ومن هذه الآداب: أنْ يبتغي الإنسان بزيارته للمريض وجْهَ الله -تعالى-، وطلب الأَجْر منه، والفوز بِثَوابه، وأن ينوي بتلك الزيارة أن يقوم بأداء حقِّ أخيه المسلم؛ فقد جاء في الحديث عن معاذ بن جبلٍ -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خمسٌ مَن فعل واحدةً منهنَّ كان ضامنًا على الله"، وذكر منها: "من عاد مريضًا"(رواه الإمام أحمد).
ومن الآداب التي يغفل عنها كثيرٌ من الناس: اختيار الوقت المناسب والظروف الملائمة للزيارة؛ فلا تكون الزيارة في أي وقتٍ، ولا تكون الزيارة عند خروج المريض من غرف العمليات أو ما أشبهها، ولا في الأوقات التي قد تُسبب للمريض وأهله الحرج أو الضيق أو الإرباك، ولا تكون في أوقات نوم المريض أو أوقات راحته، أو انشغاله بتناول العلاج أو نحو ذلك، ولكن الزيارة تكون في الأوقات التي يكون فيها المريض مُستعدًّا لاستقبال الزوار، وكم هو جميلٌ أن يستأذن الإنسان قبل الزيارة؛ فإن سُمح له فبها ونعمت، وإن لم يكن الوقت مناسبًا فلا حرج في التأخير.
وهنا يجب علينا أن نتفكر في عظيم تربية الإسلام حيث لم يرد في الأحاديث النبوية تحديد أوقاتٍ لعيادة المريض، فهي مسألةٌ خاضعةٌ للظروف، وتحتاج لإحكام العقل، وحُسن التقدير، ومراعاة الأحوال، وتختلف من حالةٍ إلى أُخرى.
ومن الآداب: أن يدعو الزائر والعائد للمريض بدعواتٍ صالحات، وأن يسأل الله -تعالى- له الشفاء والعافية والسلامة؛ فإن ذلك من هدي السنة النبوية، جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَعُودُ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ؛ فَيَقُولُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ؛ إِلَّا عُوفِيَ"(رواه أحمد والترمذي وأبو داود).
كما أن من الآداب: أن يُحسن الزائر القول للمريض، وأن يُطمئنه، وأن يُخفف عنه مما هو فيه، وأن يشجعه على الصبر والاحتساب؛ لأن ذلك من الرضا بقدرٍ الله -تعالى-، وأن يُطيِّب نفسه، وأن يرفع من معنوياته، وأن يُنَفِّس له في الأجل؛ فقد روي عن أبي سعيد الخُدري -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دَخَلْتُمْ على المَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ في أَجلِهِ؛ فإِن ذَلِكَ لا يَرُدُّ شيئًا وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ"(رواه الترمذي).
ومن آداب زيارة المريض: عدم إطالة وقت الزيارة، وألا يُكثر الزائرون من السؤال عن مرض الإنسان وأوصافه وأحواله، ونحو ذلك، وألا يتكلم الزائرُ إلا بخير وتفاؤل؛ فإن حماقة بعض الزائرين أشدُّ على المريض من المرض نفسه؛ حيث يذكره بالموت ويذكر له حال أناسٍ مثل مرضه قد ماتوا، فيخرج وقد زاد على المريض مرضه وكثرت آلامه.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله - واحفظوا للمرضى حقوقهم، وارحموا إخوانًا لكم كانوا معكم بالأمس، ثم حبستهم أمراضهم عن حُضور الجُمع والجماعات، ومنعتهم أسقامهم من المشاركة في مجالسكم واجتماعاتكم، فهم في معاناةٍ مع أوجاعهم وآلامهم، وليس لهم إلا الله -سبحانه- ثم كريم زياراتكم، وجميل مواساتكم، ودعواتكم الصالحة.
اللهم اشفِ مرضانا، وعاف مبتلانا، وألطف اللهم بكل موجوعٍ، أو مضيوم، أو مهمومٍ، أو مغموم، ومتَّعنا اللهم جميعًا بأسماعنا وأبصارنا، وعافية أبداننا، وقوَّتنا ما أحييتنا.