فضائل محرّم 1445/1/3ه
يوسف العوض
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أَيُّهَا اَلْمُسْلِمُونَ : إِنَّنَا نَعِيشُ فِي هَذِهِ اَلْأَيَّامِ فِي ظِلَالِ شَهْرِ اَللَّهِ اَلْمُحَرَّمِ اَلْحَرَامِ ، اَلَّذِي هُوَ أَوَّلُ شُهُورِ اَلسَّنَةِ اَلْهِجْرِيَّةِ ، وَهُوَ شَهْرٌ عَظِيمٌ مُبَارَكٌ ، أَوْدَعَ اَللَّهُ فِيهِ مِنْ اَلْفَضَائِلِ وَالْخَيْرَاتِ اَلشَّيْءَ اَلْكَثِيرَ وَلِلَّهِ اَلْمِنَّةُ وَالْفَضْلُ .
أَيُّهَا اَلْمُسْلِمُونَ : فَضَّلَهُ اَللَّهُ مِنْ حَيْثُ اَلزَّمَانُ ، فَهُوَ أَحَدُ اَلْأَشْهُرِ اَلْحُرُمِ اَلَّتِي قَالَ اَللَّهُ فِيهَا : ( إِنَّ عِدَّةَ اَلشُّهُورِ عِنْدَ اَللَّهِ اِثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اَللَّهِ يَوْمَ خَلْقِ اَلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْهَا أَرْبَعَةُ حَرَمِ ذَلِكَ اَلدِّينِ اَلْقِيَمَ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسُكُمْ ) . قَالَ قَتَادَةُ : " اِعْلَمُوا أَنَّ اَلظُّلْمَ فِي اَلْأَشْهُرِ اَلْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا مِنَ اَلظُّلْمِ فِيمَا سُواهَا ، وَإِنَّ كَانَ اَلظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا ، وَلَكِنَّ اَللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ " . وَقَالَ أَيْضًا : " إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفَى مِنْ اَلْمَلَائِكَةِ رُسُلاً ، وَمِنْ اَلنَّاسِ رُسُلاً ، وَمِنْ اَلْكَلَامِ ذِكْرَهُ ، وَمِنْ اَلْأَرْضِ اَلْمَسَاجِدَ , وَمِنْ اَلشُّهُورِ رَمَضَانَ وَالْأَشْهُرَ اَلْحُرُمَ ، وَمِنْ اَلْأَيَّامِ يَوْمَ اَلْجُمْعَةِ ، وَمِنْ اَللَّيَالِي لَيْلَةَ اَلْقَدْرِ ، فَعُظِّمُوا مَا عَظَّمَ اَللَّهُ ، فَإِنَّمَا تَعْظُمُ اَلْأُمُورُ بِمَا عَظَّمَهَا اَللَّهُ تَعَالَى عِنْد أَهْلِ اَلْفَهْمِ وَالْعَقْلِ " .
أَيُّهَا اَلْمُسْلِمُونَ : وَقَدْ أَكَّدَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَقَاءِ حُرْمَةِ اَلْأَشْهُرِ اَلْحُرُمِ إِلَى نِهَايَةِ اَلزَّمَانِ ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ اَلْبُخَارِي أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حِجَّةِ اَلْوَدَاعِ : ( إِنَّ اَلزَّمَانَ قَدْ اِسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، اَلسَّنَةُ اِثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلَاثَةُ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو اَلْقِعْدَةِ وَذُو اَلْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ ، وَرَجَبُ مُضَرَ اَلَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان ) ، فَفِي هَذَا اَلْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى إِبْطَالِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَبْدِيلِ شَهْرِ اَللَّهِ اَلْمُحَرَّمِ مَكَانَ صَفَرٍ ، لِئَلَّا تَتَوَالَى عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِدُونِ قِتَالٍ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحِلَّ شَهْرًا حَرَّمَهُ اَللَّهُ ، وَلَا أَنْ يُحَرِمَ شَهْرًا أَحَلَّهُ اَللَّهُ .
أَيُّهَا اَلْمُسْلِمُونَ : وَفَضَّلَهُ مِنْ حَيْثُ اَلْعَمَلُ ، فَيُسْتَحَبُّ فِيهِ اَلصِّيَامُ عَلَى اَلْعُمُومِ ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَفْضَلُ اَلصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اَللَّهِ اَلْمُحَرَّمِ ، وَأَفْضَلُ اَلصَّلَاةِ بَعْدَ اَلْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اَللَّيْلِ ) ، وَيَتَأَكَّدُ اِسْتِحْبَابُ صِيَامِ اَلْيَوْمِ اَلْعَاشِرِ مِنْهُ ، وَهُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ ، لِمَا رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِي أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اَللَّهِ أَنْ يُكَفِرَ اَلسَّنَةَ اَلَّتِي قَبْلَهُ ) ، وَيُسْتَحَبُّ صِيَامُ اَلْيَوْمِ اَلتَّاسِعِ مَعَ اَلْيَوْمِ اَلْعَاشِرِ مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ : ( حِينَ صَامَ رَسُولُ اَللَّهِ ? يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اَللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ اَلْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِذَا كَانَ اَلْعَامُ اَلْمُقْبِلُ – إِنْ شَاءَ اَللَّهُ – صُمْنَا اَلْيَوْمَ اَلتَّاسِعَ ) ، فَلَمْ يَأْتِ اَلْعَامُ اَلْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اَللَّهِ ? .
اَلْخُطْبَةُ اَلثَّانِيَةُ :
أَيُّهَا اَلْمُسْلِمُونَ : اَلْحِكْمَةُ مِنْ صِيَامِ عَاشُورَاءَ ، فَهُوَ صِيَامُ شُكْرٍ لِلَّهِ تَعَالَى ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ : ( أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ اَلْمَدِينَةَ ، فَوَجَدَ اَلْيَهُودُ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَقَالَ لَهُمْ : مَا هَذَا اَلْيَوْمِ اَلَّذِي تَصُومُونَهُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ ، أَنْجَى اَللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمُهُ ، وَغَرَقَ فِرْعَوْنْ وَقَوْمُهُ ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا ، فَنَحْنُ نَصُومُهُ . فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَنَحْنُ أَحَقّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ . فَصَامَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ) .
أَيُّهَا اَلْمُسْلِمُونَ : كَمَا أَنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ بِالنِّسْبَةِ لَنَا نَحْنُ اَلْمُسْلِمِينَ - مِنْ أَهْلِ اَلسُّنَّةِ هُوَ يَوْمُ عِزٍّ وَنَصْرٍ وَفَرِحٍ وَبِشْرٍ ، هُوَ يَوْمٌ تَدْفَعُنَا مَآثِرُهُ إِلَى اَلشُّعُورِ بِالْأَمَلِ وَالتَّرَقُّبِ لِلنَّصْرِ ، فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ، وَالْمُسْلِمُ يَعْلَمُ أَنَّ اَلنَّصْرَ قَادِمٌ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ ، وَيَفْعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ ثُمَّ يَصْبِرَ ؛ قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ : ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِينَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) .