فضائل شهر شعبان
محمد بن إبراهيم النعيم
1438/08/01 - 2017/04/27 07:22AM
لقد جعل الله تعالى لكل وقت وظائف لعباده يتقربوا بها إليه، فمنها ما يتكرر كل يوم كالصلوات الخمس، ومنها ما يتكرر كل أسبوع كالاثنين والخميس والجمعة، ومنها ما يتكرر كل شهر كصيام أيام البيض، ومنها ما يتكرر كل عام كرمضان والحج وشعبان.
ولقد فضل الله تعالى هذه الأوقات على غيرها في مضاعفة الحسنات وإجابة الدعوات وحصول المغفرة والرضوان؛ ليجتهد العبد في طاعة ربه، وهذه الأوقات الفاضلة ما هي إلا مراكز ومحطات تَمنح المؤمن رصيدا من الإيمان والتقوى؛ بل كل يوم في هذه الدنيا غنيمة يتزود منه المؤمن لآخرته، فكيف إذا كان هذا اليوم له مكانة عند الله عز وجل؟
ونحن اليوم مع محطة من هذه المحطات الإيمانية، مع شهر يغفل عنه كثير من الناس؛ هكذا أخبرنا عنه –صلى الله عليه وسلم-، إنه شهر شعبان.
فماذا قال لنا الشارع الحكيم عن فضائل شهر شعبان؟
روى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ –رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ) رواه الإمام أحمد والنسائي.
فالناس يغفلون عنه وعن فضله ومكانته عند الله عز وجل، فهو بين شهرين عظيمين، شهر رجب وهو من الأشهر الحرم، وشهر رمضان وصيامه أحد أركان الإسلام، ثم بين لنا النبي –صلى الله عليه وسلم- عن حدث عظيم يحدث طوال هذا الشهر يوضح مكانة هذا الشهر؛ وهو أن أعمال العباد ترفع إلى الله عز وجل فيه.
فإذا كنا نعلم أن السماء تفتح كل أثنين وخميس وترفع فيهما أعمال العباد إلى الله تعالى، فلنعلم أن الأعمال ترفع إلى الله عز وجل طوال شهر شعبان، ولهذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يغتنم هذا الحدث العظيم بكثرة الصيام، حتى كاد أن يصوم شهر شعبان كله، حيث روت عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ. رواه البخاري وأصحاب السنن.
فاحرصوا على الصيام في هذا الشهر المبارك، وحثوا أهليكم ودربوهم على هذه الطاعة، فكثير من الناس لا يعرفون الصيام إلا في رمضان، وقد استنبط بعض أهل العلم الحكمة في صيام شعبان كالمقدمة لرمضان: أن الصيام قبل رمضان والإكثار منه والصيام بعد رمضان كصيام الست من شوال بمثابة السنن القبلية والبعدية في الفروض, فكما أن السنن القبلية والبعدية أفضل من مطلق النافلة, فكذلك الصيام قبل رمضان وبعده أفضل من مطلق الصيام.
فعظموا هذا الشهر بعمارته بسائر الطاعات والقربات خصوصا الصيام، ومن لم يستطع ذلك فلا أقل أن يكف عن المعاصي فيه تعظيما لمكانته، ولئلا يرفع لك عمل فيه يسخط ربك عز وجل.
فإن لم تستطع الصيام فيه فكف عينيك عن رؤية الحرام، ولسانك عن القيل والقال، وابتعد عن أكل الحرام، احتراما لهذا الشهر، فإن عملك يرفع فيه طوال الشهر.
ومن فضائل شهر شعبان أن الرب جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا في ليلة النصف من شعبان فيغفر لكل المسلمين إلا المتشاحنين، حيث روى أبو موسى الأشعري –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله تعالى ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن) رواه ابن ماجه والطبراني وصححه الألباني.
فتأملوا خطورة الشحناء والبغضاء بين الناس، فإن الله تعالى لا يغفر للمتشاحنين، والشحناء هي: حقد المسلم على أخيه المسلم بغضا له لهوى في نفسه، لا لغرض شرعي ومندوحة دينية، فهذه تمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة، وهذه المغفرة لا تحدث في شعبان فقط وإنما تتكرر كل أسبوع مرتين كما في صحيح مسلم عن أبى هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا).
لذلك ينبغي استغلال هذا الشهر الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى كل يوم، ويغفل عنه كثير من الناس؛ بالعمل الصالح وخصوصا الصيام، تأسيا بفعل النبي –صلى الله عليه وسلم- ، كما ينبغي لكل متهاجرين ومتخاصمين التصالح فيما بينهما؛ كي لا يحرموا ثواب المغفرة، فإن الله تعالى يغفر لكل خلقه في ليلة النصف من شعبان إلا للمشركين والمتشاحنين.
ولا يشرع تخصيص يوم النصف من شعبان من دون سائر الشهر بصيام، ولا ليلته بقيام، لعدم ثبوت ذلك عن النبي –صلى الله عليه وسلم-.
فبعض الناس يخصص يوم النصف من شعبان بالصيام وليلتها بالقيام وببعض الأدعية والأذكار وإنشاد بعض الأشعار، ولم يثبت ذلك كله عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، وإنما جاء في أحاديث ضعيفة أو موضوعة مكذوبة على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كما قال ابن رجب وغيره من أهل العلم، وكل هذا لا تقوم به حجة ولا يُعمل به في الأحكام.
أما من كان من عادته قيام الليل فلا يترك قيام الليل في تلك الليلة، ومن كان من عادته صيام النوافل فوافق ذلك يوم النصف من شعبان فليصم ولا يترك الصيام، وكذلك من كان من عادته أن يصوم في شعبان فليصمه اقتداءً بالنبي –صلى الله عليه وسلم-.
كما لا يفوتني أن أذكر من كان عليه صيام أيام من رمضان الماضي – خصوصا من النساء - فليبادر إلى صيامها في هذا الشهر قبل مجيء رمضان.
ومن أحكام شهر شعبان أنه لا يجوز صيام اليومين الأخيرين منه، بنية استقبال رمضان أو الاحتياط لرمضان إلا من كان معتاد صيام الاثنين والخميس أو عليه قضاء، لما رواه أبو هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ) متفق عليه.
اسأل الله تعالى أن يبارك لنا في شعبان ويبلغنا رمضان، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي منّ علينا بنعمة الإسلام، ولا يزال يوالي على عباده مواسمَ الفضل والإنعام، أحمده سبحانه وأشكره في سائر الأزمان والأيّام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله أكرم قدوةٍ وإمام، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه البرَرَة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى.
واعلموا أنه ينبغي للمرء تفقد نفسه في هذا الشهر؛ لأن الأعمال ترفع فيه إلى الله؛ لِيُرفعَ عملك على وجه حسن، فإن لم تستطع الصوم فيه فلا أقل أن تكف فيه عن المعاصي خصوصا الشحناء.
وإن قول النبي –صلى الله عليه وسلم- عن شعبان (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)
لا يجعل المسلم يعيش أيامه على رتيبة واحدة ونمط واحد، وإنما يزداد خوفه وطاعته في بعض الأيام وفي بعض الشهور، وأن الإيمان بأن الأعمال تعرض على الرب جل وعلا طوال شهر شعبان، يؤصل هم الآخرة ويجعل المسلم في مراقبة ويقظة دائمة، خوفا أن يرفع له عمل يغضب الله عز وجل، فإذا لم تستطع أن ترفع لنفسك صياما فلا أقل أن تجعل هذه المعلومة في خاطرك وفكرك، لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- ما ذكرها عبثا؛ لعله أن يصيبك بعض الهم والخوف، وهذا في حد ذاته مطلوب وله ثمرته؛ لأنه سيدفعك لتزداد طاعة أو تقلع عن معصية.
لقد انتشر عند بعض الناس اعتقاد بأن شعبان شهر تتساقط فيه الأرواح، أي يكثر فيه عدد الأموات، ولقد تولد هذا الإحساس بسبب اعتقاد بعض الناس بأن ليلة النصف من شعبان هي الليلة التي تنسخ فيها الآجال ويُفْرَقُ فيها كل أمرٍ حكيم، وهذا يخالف صريح القرآن، إذ يقول جلا وعلا في مطلع سورة الدخان: حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم ، فبين تبارك وتعالى أن الكتاب المبين أُنزل في ليلة مباركة, وهذه الليلة المباركة هي التي يفرق فيها كل أمر حكيم, وكلنا يعرف أن تلك الليلة المباركة هي ليلة القدر استنادا لقوله جلا وعلا: في سورة القدر: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ{1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. نسأل الله تعالى أن يوفقنا لصالح القول والعمل وأن يجنبنا الزلل.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر،اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ..........