فضائل سورة الفاتحة وأهميتها
عبد الله العلي
الحمد للهِ المحمودِ بكلِ لسانٍ، المعبودِ في كل مكانٍ وزمانٍ، لا يَشْغَلُه شأنٌ عن شانٍ، ولا يحيطُ بعلمهِ إنسٌ ولا جانٌ، أحمدُه على جزيل الامتنانِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له الكريمُ المنَّان، وأشهُد أن محمدًا عبدُه ورسولُه سيدُ ولدِ عدنان، ﷺ وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
سورةٌ قصيرة تسكُبُ في النفسِ السكينةَ، وتُفيضُ على القلبِ الطُمأنينة، سورةٌ عظيمة المعنى جليلةُ المبنى.
أوّلها رَحْمَةٌ وأوسطُها هِدَايَة وَآخِرُهَا نعْمَة
قليلةُ الآيات غزيرةُ الأحكام سابغةُ البركات.
فيها ثناءٌ وتحميد، وسؤال والتجاءٌ وتجريدٌ للتوحيدُ.
اشتملت على أنواعِ التوحيد الثلاثةِ: ربوبيةٍ، وألوهيةٍ، وأسماءٍ وصفاتٍ.
هي السبعُ المثاني، [ولقد آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم]
سورةُ الفاتحةِ -يا كرام- أعظمُ سورِ القرآنِ، وهي الهدى والبرهان.
في الصحيح عن أبي سعيدِ بنِ المُعَلَّى أن النبيَّ ﷺ قال له: أَلَا أُعَلِّمُكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقُلْتُ : بَلَى ، فَقَالَ : { الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي ، وَالْقُرْآنُ الَّذِي أُوتِيتُهُ .
- هي أحدُ النُّورَين اللَّذَين آتاهما اللهُ جلَّ وعلا لرسولِه ﷺ ولأمتِه:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-رضى الله عنه- ، قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ.
- هي رُقْيَةٌ شافيةٌ كافيةٌ بإذن الله لأمراضِ القلوبِ والأبدانِ:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: نَزَلْنَا مَنْزِلًا ، فَأَتَتْنَا امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ ، لُدِغَ ، فَهَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مِنَّا مَا كُنَّا نَظُنُّهُ يُحْسِنُ رُقْيَةً ، فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَبَرَأَ ، فَأَعْطَوْهُ غَنَمًا وَسَقَوْنَا لَبَنًا ، فَقُلْنَا: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً؟ فَقَالَ: مَا رَقَيْتُهُ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ! قَالَ: فَقُلْتُ: لَا تُحَرِّكُوهَا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ ﷺ ، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ ﷺ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ: مَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ ؟ اقْسِمُوا ، وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ .
- الفاتحةُ – يا كرام- متضمنةٌ لأنفعِ الدعاءِ.
قال الإمامُ ابن تيميةَ : تأملتُ أنفعَ الدعاءِ ، فإذا هو سؤالُ اللهِ العونَ على مرضاتَه ، ثم رأيتُه في الفاتحةِ في : ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ انتهى .
- الفاتحةُ ركنٌ لا تصِحُ بدونِها الصلاةُ:
فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ÷ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ.
معشرَ الكرام:
يقول الإمامُ ابنُ القيم:
واعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ أَتَمَّ اشْتِمَالٍ، وَتَضَمَّنَتْهَا أَكْمَلَ تَضَمُّنٍ. فَاشْتَمَلَتْ عَلَى التَّعْرِيفِ بِالْمَعْبُودِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ، مَرْجِعُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلْيَا إِلَيْهَا، وَمَدَارُهَا عَلَيْهَا، وَهِيَ: اللَّهُ، وَالرَّبُّ، وَالرَّحْمَنُ.
وَبُنِيَتِ السُّورَةُ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ، وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَالرَّحْمَةِ، فَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ، {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ، وَطَلَبُ الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَالْحَمْدُ يَتَضَمَّنُ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ، فَهُوَ الْمَحْمُودُ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَرَحْمَتِهِ.
وَتَضَمَّنَتْ إِثْبَاتَ الْمَعَادِ، وَجَزَاءَ الْعِبَادِ بِأَعْمَالِهِمْ، حَسَنِهَا وَسَيِّئِهَا، وَتَفَرُّدَ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْحُكْمِ إِذْ ذَاكَ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَكَوْنَ حُكْمِهِ بِالْعَدْلِ، وَكُلُّ هَذَا تَحْتَ قَوْلِهِ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.. وَبِالجُمْلَةِ فَما تَضَمَّنَتْهُ الفاتِحَةُ مِن إخْلاصِ العُبُودِيَّةِ والثَّناءِ عَلى اللَّهِ، وتَفْوِيضِ الأمْرِ كُلِّهِ إلَيْهِ، والِاسْتِعانَةِ بِهِ، والتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وسُؤالِهِ مَجامِعَ النِّعَمِ كُلِّها، وهي الهِدايَةُ الَّتِي تَجْلِبُ النِّعَمَ، وتَدْفَعُ النِّقَمَ مِن أعْظَمِ الأدْوِيَةِ الشّافِيَةِ الكافِيَةِ.
معشر الكرام:
وإن مما تضمنتهُ سورةُ الفاتحة:
سؤالُ اللهِ الهدايةَ والثبات على طريقِ الحقِ: ﴿اهْدِنا الصِّراط المُسْتَقيم﴾ وهو يتضمّن بَيانَ أن العَبْد لا سَبِيل لَهُ إلى سعادتِه إلّا باستقامتِه على الصِّراطِ المُسْتَقيم، وأنه لا سَبِيل لَهُ إلى الاسْتقامَةِ إلّا بهدايةِ ربهِ لَهُ، كَما لا سَبِيل لَهُ إلى عِبادَته إلا بمعونتِه فَلا سَبِيل لَهُ إلى الاسْتقامَة على الصِّراط إلّا بهدايته.
وهذا الصراطُ مستقيمٌ، ليس فيه انحرافٌ إلى طريقةِ اليهودِ المغضوبِ عليهم، ولا النصارى الضالين.
فواعجبًا من مسلمٍ في كلِ يومٍ سبعَ عشرةَ مرةً يكررُّ البراءةَ من سبيلِ أعداءِ الملةِ من اليهودِ والنصارى ثم يجدُ في قلبِه مودةً لهُم وميلًا إليهم.
نسألُ اللهَ تعالى الهَدايةَ والثَّباتَ على الصِّراط المستقيمِ، وأن يجنِّبنا الفتنةَ والزيغَ عن الهديِ القويمِ.
الخطبة الثانية
الحمد للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ الأمين، وبعد:
معشر الكرام، في صحيح مسلمٍ عن النبي ﷺ: قال : قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل . فإذا قال العبد : { الحمد لله رب العالمين } ، قال الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال : { الرحمن الرحيم } قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ، وإذا قال : { مالك يوم الدين } قال : مجدني عبدي ، وقال مرة : فوض إلي عبدي ، فإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
أيها المبارك:
استذْكر هذا الحديثَ الجليلَ كلما قرأتَ الفاتحةَ، واستشعِر أن العظيمَ سبحانه يجيبُك بعدَ كلِّ آية، فاجمع قلبَك لذلِك، وتلذَّذ بمناجاةِ مولاكَ وإلهِك، وتجنَّبِ السرعةَ والهذرمةَ في قراءتِها، فإن ذلك ينافي الأدب مع كلام الله، بل رتِّلها بتأنٍّ وسكينةٍ، وهدوءٍ وطمأنينةٍ، واعلم أنَّ كلَّ حرفٍ منها ركنٌ تبطلُ الفاتحةُ بتركه.
وفعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ ﷺ؟ فَقَالَ: كَانَتْ مَدًّا مَدًّا. ثُمَّ قَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، يَمُدُّ بِـ {بِسْمِ اللَّهِ}، وَيَمُدُّ بِـ {الرَّحْمَنِ}، وَيَمُدُّ بِـ {الرَّحِيمِ}. رواه البخاري.
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾