فضائل حلقات القرآن

راكان المغربي
1446/02/18 - 2024/08/22 13:56PM

 

الخطبة الأولى

أما بعد:

أثمنُ مشروعِ استثمارٍ يجني لك الأرباحَ والمكاسبَ، أعظمُ عملٍ يمكن أن تصعدَ به في سلمِ الترقياتِ والمعالي، أمتنُ حصنٍ يحفظُك ويؤمِّنُ مستقبلَك ومستقبلَ أولادِك وبناتِك.

من دخلَ في هذا المشروع، نالَ أعظمَ ملذاتِ الدنيا، وعاشَ جنتَها قبل أن يدخلَ جنةَ الآخرة.

إنه مشروعُ تعلُّمِ القرآن، بحفظِ آياتِه، والعيشِ مع معانيه، والتنعمِ بنعيمِ رياضِه وجنانِه.

حين يقررُ المسلمُ أن يدخلَ في حلقاتِ القرآن، أو يسجلَ أبناءَه فيها، فإن هذا قد يكونُ أعظمَ قرارٍ يتخذُه في حياتِه يجلبُ له النفعَ والخيرَ والبركةَ..

في حلقاتِ القرآنِ يفرُّ المسلمُ من صخبِ الدنيا وأعبائِها وضجيجِها، ليعيشَ في جنانِ القرآنِ، فينهلَ من معينِه، ويقطفَ من زهورِه، ويحلقَ في أجوائِه.

أولُ ما يكتسبُه الملتحقُ بحلقاتِ القرآنِ، أن يكونَ من الطبقةِ العليّةِ التي لا توازيها ولا تدانيها أيُّ طبقةٍ أخرى. تلك الطبقةُ التي قال عنها النبُّي ﷺ: (خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ).

هؤلاء هم صفوةُ المجتمعِ، وخِيرةُ الناسِ، والمؤهلون لأن يكونوا من أهلِ الله الذين اختصَّهم بقربِه ومحبتِه، قال ﷺ: (إنَّ للهِ أَهْلِينَ مِنَ الناسِ، وإنَّ أهْلَ القرآنِ أهْلُ اللهِ وخاصَّتُه).

ولذا فقد أوصى النبيُّ ﷺ بإكرامِ هذه الفئةِ فقال: (إنَّ من إجلالِ اللهِ: إكرامَ... حاملِ القرآنِ غيرِ الغالي فيه ولا الجافي عنه).

حين يخرجُ المسلمُ من بيتِه ليتعلّمَ القرآنَ في المسجدِ، فإنه يأخذُ أجرَ المجاهدِ في سبيلِ الله، قال ﷺ: (من دخلَ مسجِدَنا هذا ليتعلَّمَ خيرًا، أو ليعلِّمَهُ، كانَ كالمُجاهدِ في سَبيلِ اللَّهِ).

وعندما يصلُ المسلمُ إلى حلْقةِ القرآن، فلا تسلْ عن المكْرُماتِ والهِباتِ الربانيةِ التي تحيطُ به من كلِّ جانب، قال ﷺ: (ما اجتمعَ قومٌ في بيتِ من بيوتِ اللهِ يتلون كتابَ اللهِ، ويتدارسونه بينهم، إلا غشيتْهم الرحمةُ، ونزلتْ عليهم السكينةُ، وحفتْهم الملائكةُ، وذكرَهم اللهُ فيمن عنده).

أيُّ فضل! أيُّ مكانة! أيُّ منزلةٍ تلك التي يصل إليها من يتعلم القرآن!

يجلسُ طالبُ القرآنِ في الحلْقةِ ثم يردّدُ الآيةَ تلوَ الآيةِ، مرةً ومرتين، وخمسَ وعشرَ مراتٍ، وفي كل ترديدٍ يُمطَرُ الميزانُ بغيثٍ مدرارٍ من الحسناتِ التي لا يحصيها إلا اللهُ، قال ﷺ: (من قرأ حرفًا من كتابِ اللهِ فله به حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها).

سألَ النبيُّ ﷺ يوماً أصحابَه فقال لهم: (أيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَومٍ إلى بُطْحَانَ، أَوْ إلى العَقِيقِ، فَيَأْتِيَ منه بنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ في غيرِ إثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟) "فَقُلْنَا: يا رَسولَ اللهِ، نُحِبُّ ذلكَ".

وهذا الجوابُ المنطقي، فأيُّ عاقلٍ يفوّتُ على نفسِه هذه الفرصةَ الثمينةَ، إذ تصرفُ له في كلِّ يومٍ ناقتين سمينتين مجانا؟

ثم بيَّن النبيُّ ﷺ لأصحابِه أن هذه الفرصةَ الثمينةَ يوجدُ ما هو أثمنُ منها وأعظمُ وأنفعُ، وهي متاحةٌ ميسرةٌ للجميعِ في كلِّ يومٍ، فقال لهم: (أَفلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إلى المَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِن كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ له مِن نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ له مِن ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ له مِن أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإبِلِ).

حين يرتبطُ المسلمُ بالقرآنِ فإنه بذلك يتمسكُ بحبلِ اللهِ المتين، الذي يحفظُه -بإذن الله- من التخبط في أمواجِ الفتنِ، وعواصف الشهوات، وأعاصير الشبهات.

كانَ الصحابيُّ الجليلُ حذيفةُ بنُ اليمانِ -رضي الله عنه- يكثرُ من سؤالِ النبيِّ ﷺ عن الشرورِ والفتنِ خشيةَ أن يقعَ فيها، فدلّه المعلمُ العارفُ على طريقِ النجاة منها، فقال له ﷺ: (يا حُذَيفةُ، تعلَّمْ كتابَ اللهِ واتَّبِعْ ما فيه. يا حُذَيفةُ، تعلَّمْ كتابَ اللهِ واتَّبِعْ ما فيه. يا حُذَيفةُ، تعلَّمْ كتابَ اللهِ واتَّبِعْ ما فيه).

فمن كان يخافُ على نفسِه أو على أبنائِه من كثرةِ الفتنِ، وانتشارِ الشرورِ، فهذا هو سبيلُ النجاة. بتعلّمِ القرآنِ يُعصمُ الإنسانُ -بإذن الله-، ويُكتبُ له النجاةُ والفلاح.

معاشر المسلمين

من يتّخذُ من القرآنِ صاحباً، فسيجدُه دائما بجانبِه، يؤنسُ وحشتَه، ويُطيِّبُ عيشَه، ويُربِّتُ على كتفِه، كما جاء في الدعاءِ المأثورِ (أنْ تجعَلَ القُرآنَ رَبيعَ قلبي، ونورَ صَدري، وجِلاءَ حُزني، وذَهابَ هَمِّي).

هكذا هو القرآن، صاحبٌ وفيٌّ لا يتخلى عن صاحبهِ في الدنيا، ولا في الآخرة.

حين يشتدُّ الموقفُ، ويفزعُ الناسُ من أهوالِ الساعةِ، ويتذكرُ كلُّ إنسانٍ جرائمَه وجرائرَه، يأتي القرآنُ لصاحبِه الذي صاحبَه في الدنيا، وقضى معاه الساعاتِ الطوالَ ليلاً ونهاراً في تلاوةٍ وتدبرٍ، وحفظٍ ومعاهدةٍ. يأتي القرآنُ ليَشفعَ ويُحاميَ ويُدافعَ عن صاحبِه الذي لم ينسَهُ في الدنيا، فلم يخذلْهُ القرآنُ في الآخرة. يقول النبيُّ ﷺ: (اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْراوَيْنِ البَقَرَةَ، وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُما تَأْتِيانِ يَومَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ كَأنَّهُما غَيايَتانِ، أوْ كَأنَّهُما فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صَوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصْحابِهِما).

وفي حديثٍ آخرَ يصفُ لنا النبيُّ ﷺ ما يحصل بين القرآنِ وصاحبِه يومَ القيامة فيقول: (يَجِيءُ صاحِبُ القُرآنِ يومَ القِيامةِ، فيقولُ القرآنُ: يا رَبِّ حُلَّهُ، فيَلْبسُ تاجَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: ياربِّ زِدْه، فيَلبسُ حُلَّةَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ ارْضَ عَنه، فيَرضَى عنه).

ويصفُ ﷺ لنا موقفا آخر فيقول: (يَجيءُ القرآنُ يومَ القيامةِ كالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، يقولُ لصاحبِهِ: هل تَعرِفُني؟ أنا الذي كنتُ أُسهِرُ لَيْلَكَ، وأُظْمِئُ هَواجِرَكَ، وإنَّ كلَّ تاجرٍ مِن وراءِ تِجارتِهِ، وأنا لكَ اليومَ مِن وراءِ كلِّ تاجرٍ؛ فيُعطَى المُلْكَ بيمينِهِ، والخُلْدَ بشِمالِهِ، ويوضَعُ على رأسِهِ تاجُ الوقارِ، ويُكْسى والِداهُ حُلَّتَيْنِ لا تقومُ لهما الدُّنيا وما فيها؛ فيقولانِ: يا ربِّ، أنَّى لنا هذا؟! فيُقالُ: بتعليمِ وَلَدِكُما القرآنَ)

تلك هي منازلُ أهلِ القرآن، وهذه هي قصصُ مجدِهم وعزِّهم.

بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية

أما بعد:

في كلِّ يومٍ يحفظُ الملايينُ من المسلمينَ في مشارقِ الأرض ومغاربِها آياتِ القرآن، وفي كلِّ فترةٍ نسمعُ عن تتويجِ حافظٍ من حفظةِ القرآن.

هذا الحافظُ قد يكون طفلاً لم يصلْ إلى سن البلوغ، وقد يكون شاباً في زهرةِ عُمُرِه، وقد يكونُ كبيراً بلغَ سنَّ الشيخوخة. قد يكون صحيحاً سليماً، وقد يكون مريضاً قعيداً. قد تكونُ عزباءَ لا زوجَ لها ولا ولدَ، وقد تكونُ أمّاً لأولادٍ منهكةً بالرضاعةِ والحضانةِ والرعايةِ. قد يكون متفرغاً للطلبِ والتعلّمِ، وقد يكونُ مشغولاً بالوظيفةِ والتكسبِ. في كلِّ مثالٍ ذكرناه، هناك الكثير والكثير من النماذجِ الواقعيةِ التي سلكت طريقَ تعلّمِ القرآنِ، فبلغت ووصلت.

استعانوا باللهِ، وشمّروا عن سواعدِ الجدِّ. واجهتهم الصعابُ لكنهم لم يستسلموا، أصابهم الفتورُ حيناً لكنّهم بعد ذلك قامُوا ونهضُوا، صدقوا مع اللهِ فصدقَهم وسددَهم وثبتَهم على الطريق، حتى بلغوا المنزلةَ العليّةَ بحفظِ كتابِ ربِّ البريّة.

وبعدَ ذلك ألا تشتاقُ نفسُك لأن تكونَ منهم، فترقى كما رقَوا، وتسعدَ بما سعدُوا؟

ها قد تيسرتْ لكل منا حلقاتُ القرآن، فهي منتشرةٌ متكاثرةٌ بفضلِ الله، بالنظام الحضوريِّ أو عن بعدٍ إن شئتْ.

الأمرُ يسيرٌ بتيسير الله، فلتتخذِ القرارَ، ولتسألِ اللهَ التوفيقَ، ولتبدأْ من الآنَ، والموعدُ في أعالي الجنانِ، حين (يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ: اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَتكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها).

يُقَالُ يومَ البعثِ للقراءِ              بعدِ الوُرُودِ احْظَوْا بالارْتِقَاءِ

في الدَّرَجَاتِ واقْرَؤُوا القُرْآنَا          وَرَتِّلُوهُ واسْكُنُوا الِجنَانَا

 

اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا.

اللهم علّمنا منه ما جهلنا، وذكّرنا منه ما نُسِّينا، وارزقنا تلاوته وحفظه وتدبره والعمل به آناء الليل والنهار.

المرفقات

1724324178_فضائل حلقات القرآن.docx

1724324178_فضائل حلقات القرآن.pdf

المشاهدات 608 | التعليقات 0