فَضَائِلَ الْكَعْبَةِ
محمد البدر
الْخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ , وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
عِبَادَ اللَّهِ:قَالَ تَعَالَى:﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾.يَقُولُ ابْنِ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ:يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أَيْ لِعُمُومِ النَّاسِ لِعِبَادَتِهِمْ وَنُسُكِهِمْ، يَطُوفُونَ بِهِ، وَيُصَلُّونَ إِلَيْهِ، وَيَعْتَكِفُونَ عِنْدَهُ لَلَّذِي بِبَكَّةَ يَعْنِي الْكَعْبَةَ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ..إلخ.
وَيَقُولُ الشَّيْخِ ابْنِ بَاز رَحِمَهُ اللهُ:أوضح الله سبحانه في هذه الآيات أن البيت العتيق هو أول بيت وضع للناس،وأنه مبارك،وأنه هدى للعالمين،وهذه تشريفات عظيمة، ورفع لمقام هذا البيت، وتنويه بذلك،وقد ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث أَبِي ذَرٍّ-رضي الله عنه-أنه سأل النبيﷺعن أول بيت وضع للناس،فقال:عليه الصلاة والسلام: «المَسْجِدُ الحَرَامُ»قُلْتُ:ثُمَّ أَيٌّ،قَالَ:«ثُمَّ المَسْجِدُ الأَقْصَى»قُلْتُ:كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَالَ:أَرْبَعُونَ،ثُمَّ قَالَ:حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّ،وَالأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ»رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.ويبين هذا المعنى قوله -عليه الصلاة والسلام-في الصحيحين: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي:نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا الحديث.هذا البيت العتيق هو أول بيت وضع للناس للعبادة والطاعة، وهناك بيوت قبله للسكن، ولكن أول بيت وضع للناس ليعبد الله فيه ويطاف به هو هذا البيت، وأول من بناه هو خليل الله إبراهيم-عليه الصلاة والسلام، وساعده في ذلك ابنه إسماعيل... وأول بيت وضع بعده للعبادة هو المسجد الأقصى على يد يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم-عليهم الصلاة والسلام، وكان بينهما أربعون سنة، ثم عمره بعد ذلك بسنين طويلة سليمان نبي الله-عليه الصلاة والسلام، وهذا البيت العتيق هو أفضل بيت، وأول بيت وضع للناس للعبادة، وهو بيت مبارك لما جعل الله فيه من الخير العظيم بالصلاة فيه، والطواف به، والصلاة حوله، والعبادة، كل ذلك من أسباب تكفير الذنوب، وغفران الخطايا، قَالَ تَعَالَى:﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾.فالله سبحانه قد جعل هذا البيت مثابة للناس يثوبون إليه، ولا يشبعون من المجيء إليه، بل كلما صدروا أحبوا الرجوع إليه والمثابة إليه؛ لما جعل الله في قلوب المؤمنين من المحبة له والشوق إلى المجيء إليه؛ لما يجدون في ذلك من الخير العظيم، ورفع الدرجات،ومضاعفة الحسنات،وتكفير السيئات،ثم جعله آمنًا يأمن فيه العباد،وجعله آمنًا للصيد الذي فيه، فهو حرم آمن، يأمن فيه الصيد الذي أباح الله للمسلمين أكله خارج الحرم، يأمن فيه حال وجوده به،حتى يخرجلا ينفرولا يقتل.ويقول سبحانه: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾.إلخ..
عِبَادَ اللهِ:اعلموا أن أشرف بناءٍ في قلوب المسلمين الكعبةُ المشرفة،وبقعتُها أقدس البقاع ؛ فإليها تهوي أفئدتهم،وإليها تَحِنُّ نفوسُهم،وبمشاهدتها تتحرك مشاعرهم،وترق قلوبهم،فكم من دعوات رفعت حولها،وكم من عبرات سكبت أمامها، وكم من قلوب تقطعت تُريد بلوغَها والتعبدَ عندها، يُرَخِّصُ المؤمنُ كلَّ شيء من الدنيا ليصل إليها.أَقُولُ قَوْلِي هَذَا...
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا وَإِمَامِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
عِبَادَ اللهِ: الْكَعْبَةَ هي ذلكم البناء القديم ، والبيت العتيق، أول بيت وضع للناس، وأول بناء للعبادة بُني على الأرض، رفع الخليلُ وابنُه -عليهما السلام- بنيانَه، ووضعه على أساس كان موجودًا قبله قَالَ تَعَالَى:﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ﴾.وَقَالَ تَعَالَى:﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾.فتتابعت أجيال على التعبد فيه، وطافت به أممٌ تِلو أمم،فانفردت الْكَعْبَةَ بأن التعبد عندها تعبد بحق، والطواف حولها طواف بحق،واستقبالها استقبال بحق:﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾.لقد حفظها الله تعالى بيتًا لعبادته، وقبلة لصلاته، ومقصدًا لنسكه:﴿جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾.وقد كان المسلمون يتوجهون في صلاتهم لبيت المقدس حتى نزل قول الله تعالى:﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾.فكانت الْكَعْبَةَ قبلةَ المسلمين إلى يومنا هذا،وإلى ما شاء الله تعالى،فيتوجهون إليها في كل صلاة من كل أقطار الأرض.
فمن تشريف الله تعالى للكعبة أن الذبح توجه للكعبة تقربًا إلى الله تعالى بذبحها، والميت يوضع في قبره فيوجه للكعبة، والداعي يستقبلها في دعائه، وفضلت الصلاة في المسجد الذي حوى الْكَعْبَةَ بمائة ألف صلاة عما سواه من المساجد، وينسب المسجد إليها،فيقال:مسجد الْكَعْبَةِ قَالَﷺ:«صَلَاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ.ومن تشريف الله تعالى للكعبة أنها لا تستقبل في قضاء الحاجة مهما كان الإنسان بعيدًا عنها، قَالَﷺ:«إِذَا أَتَيْتمُ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه،فقال في محكم التنزيل:﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد.وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن صحابته أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،اللّهمّ أعِزّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشِّركَ والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدّين،واحفظ اللّهمّ ولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليّ أمرنا، اللّهمّ وهيّئ له البِطانة الصالحة الناصحة الصادِقة التي تدلُّه على الخير وتعينُه عليه، واصرِف عنه بطانةَ السوء يا ربَّ العالمين، واللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين يا ذا الجلال والإكرام.﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
عِبَادَ اللَّهِ:اذكروا الله يذكركم،واشكروه على نعمه يزدكم.﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾.
المرفقات
1710998921_فَضَائِلَ الْكَعْبَةِ.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق