فضائلُ الاعتكافِ ونسائمُ العشرِ

راكان المغربي
1445/09/18 - 2024/03/28 15:15PM

 

الخطبة الأولى:

أما بعد:

بينما نحن نستقبلُ التبريكاتِ، ونتبادلُ التهاني، ونتواصى باستثمار ِكلِّ لحظةٍ من لحظاتِ الشهر، إذْ بالشهرِ قد تصرّمت ليالِيه وانقضتْ أيامُه.

يا لله! أحقاً قد انقضى قرابةُ ثلثي الشهر؟! أحقاً ما بقي من الشهر هو أقلُّ مما مضى؟!

أما بالنظرِ إلى أيامِ الشهر في التقويمِ فنَعَمْ، ما بقي أقلُّ مما مضى..

وأما بالنظرِ في حقائقِ الشرع، وكراماتِ الكريم، فلا وألف لا!

لقد انقضى معظمُ الشهرِ وبقي أعظمُه، فلئن مضى من رمضانَ تسعةُ عشرَ ليلةٍ بأيامِها في الحساباتِ البشريّةِ، فإن ما بقي منه في الحساباتِ الربانيةِ هو أكثرُ من ذلك بكثيرٍ وكثيرٍ.

بقيت العشرُ الأواخرُ المباركات، التي فيها أعظمُ ليالي العُمُر، وأجلُّ ساعاتِ الزمان.

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، يعني أن أجرَ من تعبّد الله في ساعاتِها القليلة المعدودة، فإنه سيحصلُ على أجرِ من يعبدُ الله في أكثرِ من ثلاثٍ وثمانين سنة يقضيها كلَّها في عبادةِ الله.

إن الدقيقةَ في ليلةِ القدر تعدلُ أياماً كثيرةً، والساعةَ منها تعدلُ سنواتٍ عديدةٍ، فضياعُ ثانيةٍ منها يعني فواتَ خيرٍ كثيرٍ، وأجرٍ من الله عظيمٍ، ولذلك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن رمضان: (للهِ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ من حُرمَ خيرَها فقد حُرِم)، فالمحروم حقَّ الحرمان من حُرمَ فضلَ هذه الليلةِ وبركتَها، بأن لم يستثمرْ كل دقيقةٍ منها في اكتسابِ الحسنات، والرفعةِ في الدرجات.

وقد كان من حكمة الله عز وجل إخفاءُ هذه الليلةِ المباركة، لننشغلَ كلَّ ليالي العشرِ بالعبادةِ والاجتهادِ تحرياً لها، كما كان يفعلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تقول عنه زوجُه عائشةُ رضي الله عنها: "كانَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ، ما لا يَجْتَهِدُ في غيرِهِ".

 

 

عباد الله

ألا أدلكم على عملٍ من أعمالِ العشرِ، من يفعلُه فلن تفوتَه من هذه الليلةِ لحظةٌ واحدةٌ؟ تلكمُ الطاعةُ من يداومُ عليها في العشر، فإنه سيُكتبُ له ضمانٌ -بإذن الله- بأن كلَّ ثانيةٍ من ليلةِ القدرِ صُرِفتْ في عبادةٍ وطاعةٍ.

إنها عبادةُ الاعتكافِ، التي يقول عنها الزُّهريُّ -رحمه الله-: "عَجَبًا لِلْمُسْلِمِينَ! تَرَكُوا الاعْتِكَاف، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْهُ مُنْذُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ". وتقول عائشةُ رضي الله عنها: "كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أزْوَاجُهُ مِن بَعْدِهِ".

الاعتكافُ هو لزومُ المسجدِ طاعةً لله، فلا يخرجُ منه إلا لحاجةٍ. فالمعتكفُ يقضي كلَّ لحظاتِ ليالي العشرِ وهو يتعبّدُ اللهَ بلزومِ المسجدِ، مقتدياً بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، مهتدياً بهديِه الذي هو أحسنُ الهدي.

المعتكفُ ضيفٌ من ضيوفِ الله، جاء إلى بيتِ أكرمِ الأكرمين، فما ظنكم بإكرام الكريمِ له وإحسانِه لضيوفِه الذين جاءوا طامعين في كرمِه، راجين رحمتَه.

المعتكفُ يحبسُ نفسَه في المسجدِ ينتظرُ الصلاةَ بعد الصلاةِ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا يَزَالُ أحَدُكُمْ في صَلَاةٍ ما انْتَظَرَ الصَّلَاةَ)، فهو في كلِّ أحوالِه ينالُ أجرَ المصلّي الذي لا يفترُ عن الصلاةِ ليلاً ونهاراً.

المعتكفُ يكافأُ بأن تُحَطَّ خطاياه، وتُرفعَ درجاتُه، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟) قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: (إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ).

المعتكفُ ينقطعُ عن الناس، ويتصلُ بالله جل وعلا، فيخلو به ويأنسُ بلقائِه، ويذوقُ نعيمَ القربِ منه جل وعلا، وفي ذلك أعظمُ عمارةٍ للقلبِ بحسنِ الاتصالِ بالله، وكما قيل: "من وجدَ اللهَ فماذا فقد؟ ومن فقدَ اللهَ فماذا وجد؟". يقول ابنُ القيم -رحمه الله-: " وَشَرَعَ لَهُمُ الِاعْتِكَافَ الَّذِي مَقْصُودُهُ وَرُوحُهُ ‌عُكُوفُ ‌الْقَلْبِ ‌عَلَى ‌اللَّهِ تَعَالَى، وَجَمْعِيَّتُهُ عَلَيْهِ، وَالْخَلْوَةُ بِهِ، وَالِانْقِطَاعُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذِكْرُهُ وَحُبُّهُ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ هُمُومِ الْقَلْبِ وَخَطَرَاتِهِ، فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ بَدَلَهَا، وَيَصِيرُ الْهَمُّ كُلُّهُ بِهِ، وَالْخَطَرَاتُ كُلُّهَا بِذِكْرِهِ، وَالتَّفَكُّرُ فِي تَحْصِيلِ مَرَاضِيهِ وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ فَيَصِيرُ أُنْسُهُ بِاللَّهِ بَدَلًا عَنْ أُنْسِهِ بِالْخَلْقِ، فَيَعُدُّهُ بِذَلِكَ لِأُنْسِهِ بِهِ يَوْمَ الْوَحْشَةِ فِي الْقُبُورِ حِينَ لَا أَنِيسَ لَهُ، وَلَا مَا يَفْرَحُ بِهِ سِوَاهُ، فَهَذَا مَقْصُودُ الِاعْتِكَافِ الْأَعْظَمِ".

وهكذا ينسلخُ المعتكفُ من مشاغلِ الدنيا واللهثِ وراءَ متاعِها الفاني، ليحلّقَ عالياً منشغلاً بهمومِ الآخرة والعملِ لبناءِ نعيمِها الباقي، فيملأُ وقتَه كلَّه في الصعودِ في سلّمِ درجاتِ الآخرة ومنازلِها.

يقول عطاءُ الخُراساني: "مثلُ المعتكفِ مثلُ الذي ألقى نفسَه بين يديِ اللهِ تعالى، يقول: لا أبرحُ حتى يغفرَ لي".

عباد الله

ما لا يُدركُ كلُّه لا يُتركُ جُلُّهُ، فمن لم يستطعِ الاعتكافَ في كاملِ أيامِ العشرِ، فلا يحرمن نفسَه من مداومةِ اعتكافِ لياليها، وذلك بأن يدخلَ المسجدَ مغربَ كلَّ ليلةٍ ولا يخرجَ منه إلا الفجر. ومن لم يستطعِ الاعتكافَ في كلِّ الليالي، فلا تفوتنَّه الليالي الوتريّة التي هي أرجى الليالي. ومن لم يستطعِ الاعتكافَ كاملَ الليلةِ، فإن المكوثَ في المسجدِ جزءا من الليلةِ هو من الاعتكافِ، كما قال الشيخُ ابنُ بازٍ رحمه الله: "الاعتكافُ هو المكثُ في المسجدِ لطاعةِ اللهِ تعالى سواءً كانت المدةٌ كثيرة أو قليلة، لأنه لم يردْ في ذلك فيما أعلم ما يدلُّ على التحديدِ لا بيومٍ ولا بيومين ولا بما هو أكثرَ من ذلك".

معاشر الصائمين

قد هبّتْ نسائمُ رحماتِ الله فاغتنموها، وعَظُمت مكارمُ اللهِ فاغرِفُوا منها، وتكاثرتْ فضائلُ اللهِ فأقبلوا عليها. الموفقُ من وفقه الله، والمخذولُ من خذله الله -أعاذنا الله وإياكم من الخُذلان، ورزقنا التوفيقَ وحسنَ الإقبال-.

بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

إن أعمالَ العشرِ لا تقتصرُ على الاعتكافِ، فكلُّ بابٍ من أبوابِ العملِ الصالحِ يمكن أن تطرقَه، لتنالَ الكنوزَ الثمينة، والأجورَ العظيمة، ومن أخص هذه الأعمال:

قيامُ الليلِ، فقد كان هديُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الاجتهادُ في قيامِ تلك الليالي الفاضلة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحيي لياليها كلَّها فلا ينام فيها أبدا، وذلك ليغتنمَها بالقيام والتبتِّل للهِ العظيم.

ولحرصه على أمّتِه صلى الله عليه وسلم فقد كان يرغبُ أصحابَه في قيامِ ليلةِ القدرِ ويقول لهم: "مَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ".

وكان يوقظ أهله ليغتنموا الليالي الغاليةِ بالقيامِ والعبادة، تقول عائشة رضي الله عنها: "كان إذا دخَل العشرُ أيقَظ أهلَه وأحيا ليله وشدَّ مئزره -أي اعتزل النساء-". فالوقتُ وقتُ الجدِّ لا وقتَ اللهوِ والكسلِ.

ومن أعمال ِالعشر الجليلةِ الدعاءُ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسولَ اللهِ أرأيتَ إنْ علِمتُ أيَّ ليلةٍ هي ليلةُ القدرِ، ما أقولُ فِيها؟ قال: قُولي : "اللهمَّ إنكَ عفوٌ ، تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي".

ومن أعمال العشرِ الإقبالُ على تلاوةِ القرآنِ، الذي من أجلِه عُظِّمت ليلةُ القدرِ، فكل بركتِها مستمدةٌ من بركاتِ القرآنِ الذي نزل فيها فباركَها وعظَّمَها. وقد كان جبريلُ يدارس النبيَّ صلى الله عليه وسلم القرآنَ في كلِّ ليلةٍ من ليالي العشرِ، كما هو الحال في كلِّ ليالي رمضان.

تلك هي أبرزُ الأعمالِ التي وردت عن رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يعملها في العشر، فهي أعظمُ ما يؤهلك لتنال عظيمَ أجر ليلة القدر، وتحقيقَ الفوز فيها، فاعمل فيها بما استطعت واستعن بالله ولا تعجز.

ولا يقتصر العملُ على تلك الأعمالِ، فكلُّ عملٍ صالحٍ تعملُه فيها مهما كان، فالأجرُ مضاعف، وكرمُ الكريم حاضر، لا يحصيه المحصون ولا يعدُّه العادّون.

 

اللهم وفقنا بتوفيقك، ومن علينا بكرمك، وزدنا من فضلك العظيم

اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر، واكتب لنا فيها أوفر الحظ والنصيب.

اللهم اجعلنا فيها وفي رمضان من الفائزين المقبولين. ولا تجعلنا من المحرومين المخذولين.

المرفقات

1711628108_فضائلُ الاعتكافِ ونسائمُ العشرِ.docx

1711628109_فضائلُ الاعتكافِ ونسائمُ العشرِ.pdf

المشاهدات 567 | التعليقات 0