فرج لا يخطر على بال

شايع بن محمد الغبيشي
1446/07/23 - 2025/01/23 00:17AM

فرج لا يخطر على بال

الْحَمْدَ لِلَّهِ رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلينُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً

أما بعد: عباد الله أوصيكم بلزوم تقوى الله حتى نلقاه قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ))

إخوة الإيمان يصاب المسلم بالكرب والبلاء والمحنة فيَعظُمُ الكربُ عليه، ويَبلغُ البلاء منتهاه، يتلفت حوله فلا يجد عند أحدٍ من البشر نجدةً أو مفزعاً، يلتفت يمنةً ويلتفت يسرةً ينتقل من مكان إلى مكان فلا يجد من ينجده أو يزيل كربته أو يفرج همه، حتى أقرب الناس إليه، ويعذرهم لأنه يعلم أن ذلك خارجٌ عن قدراتهم وإمكاناتهم، وكم يبلغ الهم والكرب بالعبد عندما لا يجد عند أقريب قريب وأحب حبيب من يزيل عنه ولو بعضاً مما يعانيه البلاء والكرب! حتى يبلغ الأمر بالعبد أن ييأس من الخلق جميعاً، وفجأة وبالتفاتةٍ واحدةٍ وبكلماتٍ معدودةٍ يأتيه الفرج على غير بال، ومن حيث لا تحتسب، ويأتيه فوق ما يريد، وأعظم مما يريد، فما هي هذه الكلمات المعدودات؟ وإلى من وجهها فجاءته هذه النجدة وذلك الفرج؟ تأمل هذا الخبر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} رواه البخاري. وفي رواية: قال ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل" رواه البخاري هذا خبر عجيب عظيم وفيه من الفوائد والهدايات الكثير والكثير منها:

أولاً: عظم البلاء الذي تعرض له نبي الله إبراهيم عليه السلام وعظم توكله واعتماده على الله وتفويضه الأمر إليه، عاداه وأذاه كل من حولها حتى والده الذي خرج من صله، واجتمعوا كلهم على قتله بطريقة عجيبة فيها من الظلم والعدوان والتشفي والنكاية والبغضاء والحقد الكثير والكثير، وإنك لتعجب أن أباه بين تلك الجموع وهو صابر محتسب ثابت على دينه ومبدأه قال تعالى: { قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}([1]) وقال سبحانه: { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}([2]) وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم الأحزاب عندما تحزب المشركون واليهود والمنافقون يريدون استئصالهم قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } ([3]) فثبت النبي صلى الله عليه وسلم وثبت الصحابة رضي الله عنهم وأخذ صلى الله عليه وسلم يبشرهم بالفتوح فعن البراء بن عازب رضي الله عنه: "َعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنْ الخَنْدَقِ لَا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، قَالَ: فَشَكَوْهَا إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فجاء فأخذ المِعْوَلَ فقال: "بسمِ اللهِ، فضرب ضربةً فكسر ثُلُثَها، وقال : اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ، ثم ضرب الثانيةَ فقطع الثلُثَ الآخَرَ فقال : اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ، ثم ضرب الثالثةَ وقال : بسمِ اللهِ، فقطع بَقِيَّةَ الحَجَرِ فقال : اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ" رواه الإمام أحمد ([4])

  ثانياً: أن الرسل عليه الصلاة والسلام أعظم الخلق توكلاً على الله واعتماداً عليه سبحانه، يفوضون أمورهم ويكلون شونهم إليه سبحانه، وقد قال جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام لأقوامهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} ([5])

ثالثاً: أن من انتَصَرَ بِاللهِ نَصَرَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ، ومَن تَوكَّلَ على اللهِ فهوَ حَسبُه وكافيه، ومن كان الله حسبه فمم يخاف! فما أحوجنا إلى أن نتوكل على الله حق التوكل ونفوض أمورنا إليه سبحانه، قال ابن القيم رحمه الله: " هذه الكلمةُ العظيمةُ التوَكُّلَ على الله والاعتمادَ عليه والالتجاء إليه سبحانه، وأنَّ ذلك سبيلُ عِزِّ الإنسان ونَجاتِه وسلامته، قال ابنُ القيم رحمه الله: "وهو حَسْبُ من تَوَكَّل عليه، وكافي من لجأ إليه، ‌وهو ‌الذي ‌يؤمِّنُ ‌خوفَ ‌الخائف، ويُجيرُ المستجير، وهو نِعم المولى ونعم النَّصير، فمَن تولَاّه واستنصرَ به وتوكَّلَ عليه وانقطعَ بكُلِّيَّته إليه تولَاّه وحفظَه وحَرَسَهُ وصانَه، ومَن خافه واتَّقاه أمَّنَه مِمَّا يخافُ ويَحذَر، وجَلَبَ إليه كلَّ ما يحتاج إليه من المنافع "([6])

الخطبة الثانية:

الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَى نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ واشهد الا إله إلا الله واشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد عباد الله ومن فوائد وهدايات الخبر:

رابعاً: أن من توكل على الله وفوض أمره إليه نصره بما لا يخطر على البال، تأمل كيف نصر الله إبراهيم عليه السلام ﴿قالوا حَرِّقوهُ وَانصُروا آلِهَتَكُم إِن كُنتُم فاعِلينَ* قُلنا يا نارُ كوني بَردًا وَسَلامًا عَلى إِبراهيمَ* وَأَرادوا بِهِ كَيدًا فَجَعَلناهُمُ الأَخسَرينَ﴾ وتأمل كيف نصر الله رسوله يوم الأحزاب؛ أرسل الله ريحاً شديدة قلعت خيامهم، وجرفت مؤنهم، وأطفأت نيرانهم، فدب الهلع في نفوس المشركين، وفروا هاربين إلى مكة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} ([7])

خامساً: فضل التَّوكُّلِ الصَّادقِ على اللهِ تعالَى، وحُسنِ اللُّجوءِ إليه وأنَّ فيه النَّجاةَ للعبد في الدنيا والآخرة لمن أخذ بالأسباب وبذل ما يستطيع منها ثم توكل على الله فإن الله يحفظه ويحميه ويكفيه ويصرف عنه السوء، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ([8]) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: " إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ ‌بِسْمِ ‌اللَّهِ ‌تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ: يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟ " رواه الترمذي وصححه الألباني ([9]) ومن توكل على الله حق التوكل رزقه من حيث لا يحتسب عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ ‌كَمَا ‌يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» رواه الترمذي وصححه الألباني ([10]) ابذل السبب وتوكل على الله وفوض الأمر إليه وكلك ثقة أنه سيهب لك ما لا يخطر لك على بال :

وتشاءُ أنت من البشائر قطرةً      ويشاء ربُك أن يُغيثك بالمطر

 وتشاء انت من الأماني نجمةً     ويشاء ربُك أن يُناولك القمر

وتشاء انت من الحياة غنيمة      ويشاء ربُك أن يسوق لك الدرر

 سادساً: الحرص على دراسة سير الأنبياء وقصصهم فيها حث على تقوية الصلة بالله والإقبال عليه ومحبته والتوكل عليه وفيها زيادة لإيمان العبد ثباته الهدى وفيها كثير من الدروس والعبر والمواعظ {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } ([11])

 



(1) [الصافات: 97، 98]
(2) [الأنبياء: 68]
([3]) [الأحزاب: 10 - 12]
([4]) رواه الإمام أحمد وصححه ابن حجر في الفتح (7/ 397)
([5]) [إبراهيم: 12]
([6]) بدائع الفوائد ( 2/ 763)
([7]) [الأحزاب: 9]

 
([8]) [الطلاق: 3]
([9]) سنن أبي داود (4/ 325)
([10]) سنن الترمذي (4/ 166)
([11]) [هود: 120].

 

المرفقات

1737580637_فرج لا يخطر على بال.docx

1737580643_فرج لا يخطر على بال.pdf

المشاهدات 560 | التعليقات 0