فتنةُ المالِ، فسادٌ وهلاكٌ
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمد لله كافلِ الأرزاقِ وواهبِ الأخلاقِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له الربُّ الخلّاقُ، والكريمُ الرزّاق، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله، رفعَ اللهُ به عن الأمةِ الآصارَ والمشاقَّ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبِه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم التلاقِ.... أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فمن اتقى الله تورّعَ، وإلى ربِّه تضرَّعَ، ولا يَغْلِبُه جشعٌ ولا طمعٌ:
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا
هُمْ مُبْصِرُونَ)
معاشر المؤمنين: (بَعَثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَبَا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ إلى البَحْرَيْنِ يَأْتي بجِزْيَتِهَا، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو صَالَحَ أَهْلَ البَحْرَيْنِ، وأَمَّرَ عليهمُ العَلَاءَ بنَ الحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا صَلَّى بهِمُ الفَجْرَ انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا له، فَتَبَسَّمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ رَآهُمْ، وقالَ: أَظُنُّكُمْ قدْ سَمِعْتُمْ أنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قدْ جَاءَ بشيءٍ؟، قالوا: أَجَلْ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: فأبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لا الفَقْرَ أَخْشَى علَيْكُم، ولَكِنْ أَخَشَى علَيْكُم أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ) رواه البخاري، هذا ما خشيَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، على أمَّته حينَ تُبسطُ عليهم الدنيا ـ التنافسُ عليها وفيها ـ وهذا التنافسُ إذا غلبَ على القلبِ واستحوذَ عليه؛ يقودُ المرءَ إلى التكثُّرِ من المالِ من أيِّ طريق وبأيِّ وسيلةٍ، وتُزيِّنُ له نفسُه وشيطانُه كلَّ طريقٍ وسبيلٍ يأتي منهُ المال، فيستحلُّ ما حرّمَ اللهُ بأدنى الحيلِ، وشيئاً فشيئاً حتى يذهبَ الورعُ من قلبهِ كليّةً، ولا يبقى لتعظيمِ حرماتِ الله في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ.
والمالٌ فتنةٌ عظيمةٌ، بل هو فتنةُ هذه الأمَّةِ كما قال صلى الله عليه وسلم (إنَّ لكلِّ أمَّةٍ فتنةً وفتنَةُ أمَّتي: المالُ) رواه الترمذيُّ عن كعبِ بن عياضٍ رضي الله عنه، وصححه الألباني.
والفتنةُ بالمالِ تجرُّ إلى فسادٍ عظيمٍ في الدِيْن والدنيا، فتُضَيَّعُ الأمانةُ، وتنتشرُ الخيانةُ، وتفشو الخديْعةُ، ويكثرُ الغشُّ والمكرُ، ويحصُل الغلولُ، وتتشربُ القلوبُ الطغيانَ، وتُنزعُ منها الرحمةُ، ويَحُّلُّ فيها الشّحُ المُهْلِكُ المقيْتُ الذي خافَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أُمَّتِه، وأمرها باتقائِه فقال صلى الله عليه وسلم(واتَّقُوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ علَى أنْ سَفَكُوا دِماءَهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحارِمَهُمْ) رواه مسلمٌ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
معاشر المؤمنين: من صورِ الفسادِ في مجالِ المالِ: السرقةُ بمختلفِ صورِها وأساليبِها وأشكالِها، والاختلاسُ بأيِّ طريقةٍ كانَ أوعمليَّةٍ تمَّ، والرِّبا بكلِّ معاملاتِه وحيَلِ أهلِه، والمضارباتُ والقِمَارُ، ومنعُ الزكاةِ، والتحايلُ على الأنظمةِ في استغلالِ الأيدي العاملةِ، والتلاعبُ بالصلاحياتِ الممنوحةِ لأصحابِ السجلاتِ التجاريةِ وغيرها.
ومن صورِ الفسادِ في مجالِ المالِ ما يكونُ في الاستهلاكِ والإنفاقِ والإسرافِ والتبذيرِ.
ومن أخصِّ صورِ الفسادِ في مجالِ المالِ: نهبُ المالِ العامِّ: أي الحصولُ على أموالِ الدولةِ والتصرفُ فيها مِنْ غيرِ وجهِ حقٍّ بشكلٍ سريٍّ تحتً مسميّاتٍ مختلفةٍ؛ مما يؤدي إلى حرمانِ الخزينةِ العامّةِ من أهمِّ مواردِها.
وكذلك التلاعبُ بأسعارِ المصروفاتِ وسنداتِ السُّلَفِ، أو التلاعبُ بالرواتبِ والأجورِ وبِنُظُمِ الحوافزِ والمكافأت ونحوها.
ومن صورِ الفساد في مجالِ المال: الابتزازُ: أي الحصولُ على أموالٍ من طرفٍ معيَّنٍ في المجتمعِ مقابلَ تنفيذِ مصالحَ مرتبطةٍ بوظيفةِ الشَّخْصِ المتّصِفِ بالفساد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (ولا تفسدوا في الأرضِ بعد إصلاحِها وادعوه خوفاً وطمعاً إنَّ رحمةَ اللهِ قريبٌ من المحسنين)
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة ونفعنا بما صرف فيهما من الآيات والحكمة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابِه وإخوانِه.. أما بعد
فيا عباد الله : اتقوا الله: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا
طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا
وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
معاشرَ المؤمنين:
عن أَبى حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، قَالَ: " اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْلُّتببِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا: فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي، يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا " رواه البخاري.
نعم عباد الله : لا مجالَ للمجاملةِ ولا للمدارةِ، فإذا رأينا مفسداً يستغلُ الوظيفةَ أو المؤسسةَ؛ يحتالُ، يرتشي، يختلسُ، يسرقُ، يتلاعبُ، أو يفعلُ أيَ صورةٍ من صورِ الفسادِ علينا أن نبلِّغ عنه معذرةً إلى الله - سبحانَه - حتى لا ينزل بنا العذابُ، فعندما نسكتُ عن المفسدين ولا نبلغُ عنهم ولا ننهاهُم، ولا نرفعُ أمرَهم إلى السلطاتِ، ونتركُهُم ونسكتُ عنهم ونجاملُهم؛ فإنَّ البلاءَ سينزلُ بنا جميعاً، فينبغي أنْ نبلَّغَ عنه بعدَ أنْ نتثبَّتَ ونتأكّدَ أنّه مفسدٌ في وظيفتِه، أوأنّه مفسدٌ في مؤسستِه، أوأنّه مفسِدٌ في مسؤوليتِه، فنكونُ ممنْ أمرَ بالمعروفِ ونهى عن المنكرِ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان"
هذا وصلوا سلموا رحمكم الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: .....