﴿فَتْحًا مُبِينًا﴾.
عاصم بن محمد الغامدي
الحمدلله الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ* يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾، والصلاة والسلام على خير خلقه، وخاتم رسله، الذي أرسله ربه ﴿بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فهي وصيته للأولين والآخرين، وبها تكون النجاة في يوم الدين ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾.
مَنْ عَظَّمَ اللهَ عَظُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْصِيَه، وَمَنْ وَقَّرَ اللهَ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يُخالِفَ أَمْرَه، وما أَدْمَنَ التوبةَ إِلا تَقِيّ، وما خَافَ الذُّنُوبَ إلا مُؤمِن، قَالَ ابنُ مَسْعودٍ رضي الله عنه: (إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخافُ أنْ يَقَعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ علَى أنْفِهِ فقالَ به هَكَذا).
عباد الله:
من أركان الإيمانِ: الإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ، وكثيرٌ من أقدارِ الله جلَّ جلالُه لا تظهرُ حكمَتُها إلا بعدَ مدَّةٍ، كما حصلَ في صلحِ الْحُدَيْبِيَةِ، إذ "كانَ في الصُّورةِ الظَّاهرةِ ضَيْمًا وهَضْمًا للمُسْلمينَ، وفي الباطِنِ عِزًّا وفَتْحًا ونَصْرًا".
خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع ألفٍ وأربعِمئةِ صحابيٍ، بعد هجرةٍ غيَّبتهم عنِ المسجد الحرامِ والطوافِ بالبيتِ ستَّ سنواتٍ، فاعترضَ كفَّارُ قريشٍ طريقَهم، ومنعوهم من دخول مكة، وبعث لهم النبي صلى الله عليه وسلم من يخبرهم أنه لا يريد قتالاً، وبعثوا له، واستمرت المراسلات، حتى عقدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم عقدَ صلحٍ، مع أنهم أقروا فيه بحقه ومن معه في دخولِ مكة والطواف بالبيت، إلا أن كبرَهم منَعَهُمُ من السماحِ بذلك، وقال مبعوثهم للرسول صلى الله عليه وسلم: والله لا تتحدث العرب أنكم دخلتم علينا عَنْوَةً، ولكن ترجعون عامكم هذا، وتعودون العام المقبل.
وكان من بنود الصلحِ أن يردَّ المسلمونَ من جاءهم من كفارِ قريشٍ مسلمًا، ولا يردَّ كفارُ قريشٍ من جاءهم من المسلمين مرتدًا، وقَبِل النبي صلى الله عليه وسلم جميع ذلك.
وما إن كتبوا الصلح إلا وقد وصل أبو جندل، وهو أحد المسلمين المستضعفين بمكة، تمكن من تخليص نفسه والوصولِ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، فرارًا بدينه، وحرصًا على إيمانه أن يفتنه كفار قريش، فحاول النبي صلى الله عليه وسلم استبقاءه، مستثيرًا نخوة العربي قائلاً لمبعوث قريش: أجزه لي، فغلبت ظلمة الشرك نخوة العروبة فقال: ما أنا بمجيزه لك، فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا جندلٍ، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهدَ الله، وإنا لا نغدِر بهم".
وكان وقع الأمر على الصحابة عظيمًا، كيف يردُّ مسلمٌ مستضعفٌ إلى الكفار يفتنونه في دينه، ويسومونه سوء العذاب، فجاء عمرُ رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قال: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قال: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ فقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي، فقال عمر: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟ فقَالَ عمر: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ، فرجع عمر، ولم يصبر من الغيظ، فأتى أبا بكر رضي الله عنه، وقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم فأجابه بمثل ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قال عمر يحدث عن نفسه: وما شككت منذ أسلمت إلا تلك الساعة، وما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة ما تكلمت به.
ولمَّا انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قافلاً إلى المدينة، أنزل الله تعالى عليه قبل وصوله قوله جل جلاله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾.
فما فُتح في الإسلام فتحٌ قبلَه كانَ أعظمَ منه، فما هي غيرُ عامينِ، أَمِنَ الناسُ فيهما، فالتَقَوْا وتحدثَّوا، فلم يُكَلَّم أحدٌ بالإسلامِ وهو يعْقِلُ شيئًا إلا دخلَ فيهِ، حتَّى بلغَ عددُ الداخلينَ في الإسلامِ مثلَ عددِ منْ كانوا فيهِ وأكثرَ، وبلَغَ عددُ المسلمينَ مع النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع لمكة بعد عامين من الصلح بسببِ غدرِ قريشٍ عشرةَ آلافٍ.
فذلَّت قريشٌ من حيثُ طلبتِ العزَّ، وقُهِرتْ من حيثُ أظهرتِ القدرةَ والغلبةَ، وعزَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن معَهُ من حيثُ انكسروا لله، واحتملوا الضَّيمَ لهُ وفيهِ، وظهرتْ حكمةُ الله وآياتُه وتصديقُ وعدِه، ونصرةُ دينِهِ على أتمِّ الوجوهِ وأكملِها.
وكانت المصلحةُ التي رآها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنورِ الله سبحانه وتوفيقِه له، هي إمضاءُ الصلحِ معَ ما فيهِ من ضررٍ على أفرادٍ منَ المسلمينَ؛ لِمَا ترتَّبَ عليهِ منْ دخولِ الناسِ في دينِ الله أفواجًا، فمصلحةُ عودةِ الناسِ لرَبِّهمْ، والتزامِ أمرِهِ، وتحقيقِ مقصودِ خلقِهِمْ، مقدمةٌ على مصلحةِ أفرادِهِمْ إذا تعارضتْ معَهَا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فإنَّ أقدار الله تعالى لا تقع إلا بحكمةٍ وعدلٍ، ومن رحمَتِه بعباده المؤمنين إنزالُه على قلوبهم السكينةَ لتحمُّلِ هذه الأقدارِ، والصَّبرِ على ما يجهلونه من حِكْمَتِهَا.
والسكينةُ كلمةٌ تجمعُ معاني الطمأنينةِ، والثباتِ، ورسوخِ الإيمانِ، وقوةِ اليقينِ، أنزلها الله عزَّ وجلَّ على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب، كيوم الهجرة ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾، وكيوم حنينٍ حينَ ولَّوا مدبرينَ من شدَّة بأسِ الكافرينَ ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾، وكيومِ الْحُدَيْبِيَةِ حينَ اضطربتْ قلوبُ المؤمنينَ من تحكُّمِ الكفارِ عليهِمْ، ودخولِهِمْ تحتَ شروطِهِمُ التي لا تحتمِلُها النفوسُ، "وَحَسْبُكَ بِضَعْفِ عُمَرٍ عَنْ حَمْلِهَا وَهُوَ عُمَرُ، حَتَّى ثَبَّتَهُ اللهُ بالصِّدِّيقِ"، و﴿أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾.
وقد جعل الله للمستضعفين الذين ردهم النبي صلى الله عليه وسلم لكفارِ قريش فرجًا ومخرجًا، فقد فرَّ أبو بصيرٍ رضي الله عنه ونزل على ساحل البحر، بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام، وبلغ ذلك المسلمين الذين احتبسوا بمكة، فخرجوا إليه، وضيَّقوا على قريش، فكانوا لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها حتى كتبت قريشٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن يؤيهم فلا حاجة لها بهم، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدموا عليه المدينة. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
ألا فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، فإن الشقي من حرم رحمة الله عياذًا بالله، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في سائر أيامكم من طاعته، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.
المرفقات
1700145209_﴿فَتْحًا مُبِينًا﴾..docx
1700145209_﴿فَتْحًا مُبِينًا﴾..pdf
1700145209_﴿فَتْحًا مُبِينًا﴾ للجوال..pdf