فاتحة شهور العام
محمد ابراهيم السبر
فاتحة شهور العام
الحمد لله جعل الدنيا دارَ ممرٍّ واعتبار، والآخرةَ دارَ جزاءٍ وقرار، أحمده سبحانه، وأشكره على نعمِه وفضله المِدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفَّار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه المُصطفى المُختار، صلَّى الله وسلَّم، وبارك عليه وعلى آله السادة الأطهار، وأصحابه البرَرة الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وعلى طريق الحق والهُدى سار، وسلِّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتَّقُوا الله عباد الله، ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]، عباد الله، ها قد أطلَّ عامٌ جديدٌ، بدايته شهر حرام، ونهايته شهر حرام، طابت غُرَّتُه، وبُورِك في سائر أيامه وأوقاته وأزمانه، فشهر محرم من الأشهر الحرم، قال الحسن: إن الله عز وجل افتتح السَّنة بشهر حرام، واختتمها بشهر حرام، فليس شهر في السَّنة بعد شهر رمضان، ولا أعظم عند الله من محرم، وقد رغَّب الشارع سبحانه في صيامه تطوُّعًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفضلُ الصيامِ بعد رمضانَ: شهر اللهِ المحرم، وأفضلُ الصلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ الليل))؛ رواه مسلم.
والصومُ حين يقعُ في شهرٍ حرامٍ؛ فإن الفضلَ يقترِنُ فيه بالفضلِ، فيتأكَّدُ فعلُه بشرفِه في ذاتِه، وبشرفِ زمانِه، واليوم العاشر من المحرم، والمسمى «عاشوراء»، يوم مشهود في تاريخ الإسلام، وله فضل بما وقع فيه من حدث عظيم، وهو إنجاءُ نبيِّ الله وكليمه موسى بن عمران، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقد نجَّاه الله تعالى من عدوه الذي تولَّى بركنه، واعتزَّ بجنده، وعزم أمره على قتل كليم الله، وإبادة مَن آمن معه من بني إسرائيل، وما زال يطارده في البرِّ حتى وصل سيف البحر، فكان البحر من أمامه، وفرعون وجنده من خلفه بغيًا وعَدْوًا، وعند اشتداد الكرب يكون الفرج العظيم، فأوحى إليه ربُّه: ﴿ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: 63]، وأمره تعالى أن ﴿ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ﴾ [الدخان: 24]، وهكذا يكون نصر الله لأنبيائه عند اشتداد الكرب، واستشعار الهلاك؛ تحقيقًا لوعده، وما جرت به سُنته التي أشار إليها جل شأنه بقوله: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51].
موسى عليه السلام هو نبيُّ الله وكليمُه، اصطنعه على عينه، فحُقَّ على كل مؤمن أن يشكر المولى سبحانه على نصره، وهلاك عدوه الذي قال: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]، وقد كان أول الشاكرين سيد الخلق محمد بن عبدالله عليه صلوات الله وسلامه، الذي جعل هذا اليوم يومَ شكرٍ لله تعالى بصيامه، وتذكر حدثه العظيم، وقال لليهود الذين خالفوا نهج التوراة، وكابروا في اتِّباع ما وصَّى به موسى وعيسى، وما أُنزل في كتبهم من الإيمان بالنبي المبعوث آخر الزمان، وهو سيدنا محمد عليه وعلى رسل الله أجمعين الصلاة والسلام، قال لهم: ((نحنُ أوْلى بموسى منكم))؛ لأن موسى أخوه في الرسالة والديانة، فالأنبياء أولادُ علَّات؛ دينهم واحد؛ وهو الإسلام، وشرائعهم مختلفة؛ ولذلك أمره ربُّه سبحانه أن يقتفي هدي الأنبياء قبله، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90].
ومن الوفاء لكليم الله عليه السلام، أن أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نتأسَّى به في هذا الشكر؛ فحثنا على صيام هذا اليوم، وبيَّن لنا فضيلة الصوم فيه، كما روى مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، قال: وسُئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: ((يكفِّر السَّنة الماضية))، وكم للصيام من فضل في سائر العام، ((فمَنْ صامَ يومًا في سبيلِ اللهِ؛ بعَّدَ اللهُ وجهَه عن النارِ سبعينَ خَريفًا))؛ لأن الصوم من أفضل العبادات؛ وهي العبادة التي قال عنها الحق سبحانه: ((إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به))، والمسلم الحريص لا يُفرِّط في أجرٍ كهذا، وقد مَنَّ الله تعالى عليه بإدراكه.
إن هذا الشهر العظيم يُذكِّر باستشعار نعم الله تعالى على عباده، وأنها تُقابَل بالشكر؛ فموسى عليه السلام قابل نعمة إنجاء الله له ولقومه، وإهلاك عدوه فرعون وجنده بالصوم؛ شكرًا لله تبارك وتعالى.
والمسلم يتميَّز بعقيدته ودينه، فحين رأى الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود يصومون عاشوراء، ورأى أنه عملٌ صالحٌ، المؤمنون أولى به، همَّ بصيام التاسع؛ حتى لا يتشبَّه باليهود في إفراد العاشر، وهكذا يُربِّينا الإسلام على التميُّز، والاعتزاز بديننا؛ حتى لا يقع المسلم في حمأة التشبُّه بغير المسلمين، فينسلخ من شخصيته وأصالته.
والمسلم في يوم عاشوراء يتبع ولا يبتدع، فلا يستحب فيه سوى صيامه، وصيام يوم قبله، ومما أحدث فيه من البدع والمحدثات، نعي الحسين رضي الله عنه على المنابر والمجالس، مع إظهار التحزين والنياحة، وأسوأ من هذا سبُّ الصحابة الكرام، وقذفُ أمهات المؤمنين، وسادات المؤمنين، وغيرها مما لم يأذن به الله، ولم يسنَّه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عمل به أحد من صحابته رضي الله عنهم أجمعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعدُ:
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واعلموا أن المسلم يحرص في هذا الشهر وبقية دهره على تجديد عهده مع ربِّه تعالى بالإقبال عليه بصالح العمل، فالمؤمن الحقُّ لا يدعُ فرصةً لتقوية صلته بربِّه إلا اغتنمها، ولا بابًا للتوبة ومكفِّرات الذنوب إلا طرقه، فكيف بصيام يوم يُكفِّر ذنوب سنة ماضية.
ثم اعلَموا - رحمكم الله - أنَّ الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَمِ تنزيله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهمَّ عن خُلفائِه الراشِدين، الذين قضَوا بالحقِّ، وبه كانُوا يعدِلُون: أبي بكرٍ، وعُمرَ، وعُثمانَ، وعليٍّ، وعن سائرِ الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرَم الأكرَمين.
اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعَل اللهمَّ هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا رخاءً، وسائِرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى ووفقهما لكل خير، اللهم اصرف عنا شر ما قضيت، وأعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وموتى المسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.