فأكثروا فيهن من التكبير ..
محمد بن سليمان المهوس
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾
[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَعِيِشُ الأُمَّةُ الإِسْلاَمِيَّةُ أَيَّامًا جَلِيلَةً فَاضِلَةً، مَعَ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالَّتِيِ هِيَ أَفْضَلُ أَيَّامِ السَّنَةِ ، لِمَكَانَتِهَا عِنْدَ اللهِ وَلِلُأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ فِيِهَا وَالَّتِيِ يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا: « أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ»[ صححه الألباني ]
وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ الْفَاضِلَاتُ الَّتِي حَثَّ الْقُرْآنُ عَلَى كَثْرَةِ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا؛ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾ [الْحَجِّ: 28]، وَحَثَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اسْتِغْلَالِهَا فِي الصَّالِحَاتِ مِنْ حَجٍّ وَذِكْرٍ وَصِيَامٍ وَصَدَقَةٍ وَإحْسَانٍ، وَتَقَرُّبٍ إِلَى اللهِ بِذِبْحِ الْأَضَاحِي، وَغَيْرِهَا مِنَ الطَّاعَاتِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُيَسَّرَةِ وَالسَّهْلَةِ ، فِيِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَغَيْرِهَا : عِبَادَةُ الذِّكْرِ والَّتِي أَمَرَ رَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْإِكْثَارِ مِنْهَا ؛ كَمَا فِي حَدِيِثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمَ عِنْدَ اللهِ، وَلاَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ»
[الحديث رواه أحمد، وصححه العلامة أحمد شاكر، والحافظ العراقي].
وَعِبَادَةُ الذِّكْرِ لَيْسَ لَهَا وَقْتُ انْتِهَاءٍ، وَلاَ حَدٌّ مَعْلُومٌ كَبَقِيَّةِ الْعِبَادَاتِ؛ بَلْ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ وَعَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ الذَّاكِرُ لِرَبِّهِ فِيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: 41 - 42]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45] وَقَالَ : ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [ آل عمران : 190-191]
تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ» [رواه مسلم].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35]، قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ: إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا وَاظَبَ عَلَى أَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ ،وَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ ، وَأَذْكَارِ النَّوْمِ، وَالأَذْكَارِ الَّتِي تُقَالُ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ ، وَعِنْدَ الرُّكُوبِ ، وَعِنْدَ الطَّعَامِ والشَّرَابِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الأَذْكَارِ الْمُوَظَّفَةِ لِلْمُسْلِمِ فِي أَيَّامِهِ وَلَيَالِيهِ، مَعَ عِنَايَةٍ مِنْهُ بِالذِّكْرِ الْمُطْلَقِ ؛ كُتِبَ بِذَلِكَ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ الَّذِينَ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا، كَمَا فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمْ يَأْتِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عَمَلٌ يَسِيرٌ يُقَابِلُهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ كَمَا جَاءَ فِي ذِكْرِ اللهِ، وَلَكِنَّ الصُّعُوبَةَ لَيْسَتْ فِي العَمَلِ، وَإِنَّمَا فِي التَّوْفِيقِ لَهُ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لَكَ شَاكِرِينَ ، لَكَ ذَاكِرِينَ ، لَكَ حَامِدِينَ ، عَلَيْكَ مُتَوَكِّلِينَ يَارَبَّ الْعَالَمِيِنَ ، وَلَا تجعلنَا مِنَ الْغَافِلِينَ ؛ أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لَشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .. أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى ، وَاعْلَمُوا أَنَّ ذِكْرَ اللهِ هُوَ غِرَاسُ الْجِنَانِ؛ الَّتي يُلْهَمُ أَهْلُهَا الذِّكْرَ فِيهَا كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ ؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلاَمَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» [ رواه الترمذي ، وحسّنه الألباني ]
وَمَنْ نَظَرَ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدَ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي ذِكْرِ اللهِ، فَهُوَ يُزِيلُ الْهَمَّ وَالْغَمَّ، وَيَجْلِبُ الرِّزْقَ وَالْفَرَحَ وَالسُّرُورَ، وَيَكْسُو الذَّاكِرَ الْمَهَابَةَ وَالنَّضَارَةَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرَّعْد: 28]، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟»، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللهِ»[رواه الترمذي، وصححه الألباني].
وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هُوَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَتَأْتِي بَعْدَهُ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ كَلِمَةٍ فِي الْوُجُودِ، لأَجْلِهَا خُلِقَتِ الْخَلِيقَةُ، وَأُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَهِيَ كَلِمَةُ التَّقْوَى وَأَسَاسُ الْمِلَّةِ وَرُكْنُ الإِيمَانِ، وَهِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي مَنْ تَمَسَّكَ بِهَا نَجَا، وَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا سَعِدَ سَعَادَةً لاَ يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَفَضَائِلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَمَوْقِعُهَا مِنَ الدِّينِ فَوْقَ مَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ وَيَعْرِفُهُ الْعَارِفُونَ؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ: الحَمْدُ لِلَّهِ»
[رواه الترمذي، وحسنه ابن حجر والألباني].
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْـمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [حسنه الألباني]
فَاتَّقُوا اللهَ – أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ – وَاغْتَنِمُوا خَيْرَ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَفَضْلَهَا بِكُلِّ مَا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى رَبِّكِمْ وَيُدْنِيكُمْ مِنْ خَالِقِكُمْ ، وَهِيَ أَيَّامٌ مَعْلُومَاتٌ وَمَعْدُودَاتٌ تَمْضِيِ سَرِيِعاً ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21].
؛هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا » رَوَاهُ مُسْلِم.
المرفقات
1626255236_فأكثروا فيهن من التكبير.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق