غيرةُ الله تعالى على دينِه, والحديث عن إطلاق النار في المنطقة الشرقية 14-1-1436
أحمد بن ناصر الطيار
1436/01/13 - 2014/11/06 18:19PM
الحمد لله الذي على العرشِ اسْتوى, وأشهد أن لا إله إلا الله له الأسماءُ الحسنى, والصفاتُ الْعُلى, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصابرُ على الْبَلاء , صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين, ومن سار على نَهْجِهِم واقتفى, وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد, فاتقوا الله معاشر المسلمين, واعلموا أنَّ اللهَ تعالى يَغَارُ غيرةً تليق بجلاله وعظمته, قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ, وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ». رواه مسلم
وهو تعالى يغار على عباده الصالحين, فإذا رأى منهم التفاتاً إلى غيره, ومُجاملةً للناس على حسابه, وتقديماً لرضى الخلق على رضاه, وإيثارَ محبةِ ما يُحبُّه الناس على محابِّه: غَارَ تعالى على دينه وشرعه أنْ يَسْتقرَّ في هذا القلب, وغَار على كتابه وكلامه أنْ يحلَّ بين جنباتِ من هذه حالُه, فيُعاقبُه بالانتكاسة بعد الاستقامة, ويُعاقبُه بالحرمان بعد حلاوة الإيمان, فيكونُ من حزب الشيطان, بعد أنْ كان من حزب الرحمن.
قال شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رحمه الله -, فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ»: إِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ الْمَخْلُوقُونَ, يَمْنَعُهَا الْكَلْبُ وَالصُّورَةُ عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ, فَكَيْفَ تَلِجُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَحَبَّتُهُ وَحَلَاوَةُ ذِكْرِهِ، وَالْأُنْسُ بِقُرْبِهِ، فِي قَلْبٍ مُمْتَلِئٍ بِكِلَابِ الشَّهَوَاتِ وَصُوَرِهَا؟. ا.ه كلامه
فالله جلَّ جلالُه, كرَّم ملائكته أنْ تدخل بيتاً فيه كلبٌ أو صورة, فمن باب أولى: أنْ يُكرِّم ويحشِم كتابه, وَحَلَاوَةَ ذِكْرِهِ, والأنسَ به واللذةَ بقربه: أنْ تدخل قلباً مُمْتَلِئاً بِكِلَابِ الشَّهَوَاتِ وَصُوَرِهَا.
فلن تذوق - يا عبد الله- حلاوةَ الإيمان, والراحةَ والسعادةَ والاطْمِئْنان, إذا صرفتَ قلبك لغير الله, وقدَّمت ما تهواه وما تحبه, على ما يحبُّه ويرضاه خالقك.
وإليكم كلاماً لابن القيم من أعظم الكلام, ولْيتأمله خاصةً من ذاق طعم الإيمان ثم حُرمه, ومن اسْتقام في سالف عهده ثم تنكَّب عنه, ومَن كانت عليه مظاهر الاستقامة والالتزام, ثم تهاون فيها بتأويلاتٍ وتتبُّعٍ للرُّخص, قال رحمه الله: فهو سُبْحَانَهُ الْمُقَرِّبُ الْمُبْعِدُ، فَلْيَحْذَرِ الْقَرِيبُ مِنَ الْإِبْعَادِ, وَالْمُتَّصِلُ مِنَ الِانْفِصَالِ، فَإِنَّ الْحَقَّ جَلَّ جَلَالُهُ غَيُورٌ, لَا يَرْضَى مِمَّنْ عَرَفَهُ وَوَجَدَ حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ، وَاتَّصَلَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّتِهِ وَالْأُنْسِ بِهِ، وَتَعَلَّقَتْ رُوحُهُ بِإِرَادَةِ وَجْهِهِ الْأَعْلَى, أَنْ يَكُونَ لَهُ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ.
وَمِنْ غَيْرَتِهِ سُبْحَانَهُ: حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَغَارُ أَشَدَّ الْغَيْرَةِ عَلَى عَبْدِهِ: أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى سِوَاهُ، فَإِذَا أَذَاقَهُ حَلَاوَةَ مَحَبَّتِهِ، وَلَذَّةَ الشَّوْقِ إِلَيْهِ، وَأُنْسَ مَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ سَاكَنَ غَيْرَهُ بَاعَدَهُ مِنْ قُرْبِهِ، وَقَطَعَهُ مِنْ وَصْلِهِ، وَأَوْحَشَ سِرَّهُ، وَشَتَّتَ قَلْبَهُ، وَنَغَّصَ عَيْشَهُ، وَأَلْبَسَهُ رِدَاءَ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَالْهَوَانِ، فَنَادَى عَلَيْهِ حَالُهُ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَعَوَّضَ عَنْ وَلِيِّهِ وَإِلَهِهِ وَفَاطِرِهِ، وَمَنْ لَا حَيَاةَ لَهُ إِلَّا بِهِ، فَاتَّخَذَ سِوَاهُ لَهُ حَبِيبًا، وَرَضِيَ بِغَيْرِهِ أَنِيسًا، وَاتَّخَذَ سِوَاهُ وَلِيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}.
فَإِذَا ضُرِبَ هَذَا الْقَلْبُ بِسَوْطِ الْبُعْدِ وَالْحِجَابِ، وَسُلِّطَ عَلَيْهِ مَنْ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَمُلِئَ مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَصَارَ مَحَلًّا لِلْجِيَفِ وَالْأَقْذَارِ وَالْأَنْتَانِ، وَبُدِّلَ بِالْأُنْسِ وَحْشَةً، وَبِالْعِزِّ ذُلًّا، وَبِالْقَنَاعَةِ حِرْصًا، وَبِالْقُرْبِ بُعْدًا وَطَرْدًا، وَبِالْجَمْعِ شَتَاتًا وَتَفْرِقَةً كَانَ هَذَا بَعْضَ جَزَائِهِ، فَحِينَئِذٍ تَطْرُقُهُ الطَّوَارِقُ وَالْمُؤْلِمَاتُ، وَتَعْتَرِيهِ وُفُودُ الْأَحْزَانِ وَالْهُمُومِ بَعْدَ وُفُودِ الْمَسَرَّاتِ.
فَمَنْ عَرَفَهُ وَذَاقَ حَلَاوَةَ قُرْبِهِ وَمَحَبَّتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى مُسَاكَنَةِ غَيْرِهِ: ثَبَّطَ جَوَارِحَهُ عَنْ طَاعَتِهِ، وَعَقَلَ قَلْبَهُ عَنْ إِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَأَخَّرَهُ عَنْ مَحَلِّ قُرْبِهِ، وَوَلَّاهُ مَا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: احْذَرْهُ فَإِنَّهُ غَيُورٌ، لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَى فِي قَلْبِ عَبْدِهِ سِوَاهُ.
وَمِنْ غَيْرَتِهِ: أَنَّ صَفِيَّهُ آدَمَ لَمَّا سَاكَنَ بِقَلْبِهِ الْجَنَّةَ، وَحَرِصَ عَلَى الْخُلُودِ فِيهَا, أَخْرَجَهُ مِنْهَا.
وَمِنْ غَيْرَتِهِ سُبْحَانَهُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ عليه السلام, لَمَّا أَخَذَ إِسْمَاعِيلُ شُعْبَةً مِنْ قَلْبِهِ: أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ، حَتَّى يُخْرِجَ مِنْ قَلْبِهِ ذَلِكَ الْمُزَاحِمَ.
إِنَّمَا كَانَ الشِّرْكُ عِنْدَهُ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ, لِتَعَلُّقِ قَلْبِ الْمُشْرِكِ بِهِ وَبِغَيْرِهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ كُلُّهُ بِغَيْرِهِ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ بِكُلِّيَّتِهِ؟
إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا حَلَّ بِكَ مِنْ بَلَاءِ الِانْفِصَالِ، وَذُلِّ الْحِجَابِ، فَانْظُرْ لِمَنِ اسْتَعْبَدَ قَلْبَكَ، وَاسْتَخْدَمَ جَوَارِحَكَ، وَبِمَنْ شَغَلَ سِرَّكَ، وَأَيْنَ يَبِيتُ قَلْبُكَ إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ؟ وَإِلَى أَيْنَ يَطِيرُ إِذَا اسْتَيْقَظْتَ مِنْ مَنَامِكَ؟ فَذَلِكَ هُوَ مَعْبُودُكَ وَإِلَهُكَ، فَإِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لِيَنْطَلِقْ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُهُ، انْطَلَقْتَ مَعَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ. ا.ه كلامه رحمه الله
تأملوا قوله: "أَيْنَ يَبِيتُ قَلْبُكَ إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ؟ وَإِلَى أَيْنَ يَطِيرُ إِذَا اسْتَيْقَظْتَ مِنْ مَنَامِكَ؟ فَذَلِكَ هُوَ مَعْبُودُكَ وَإِلَهُكَ", كم من إنسانٍ يَبِيتُ وقلبُه مع هاتفه أو صديقه, أو مزرعتِه أو تجارتِه, ويستقيظ على ذلك أيضًا.
كم همُ الذين يستيقظون وأوَّلُ ما يَسْتَفْتِحون به يومهم: النظرُ في هاتفهم, وماذا قال فلان, وما أرسل فلان, ثم بعد أنْ يفرغ مِنْه, يتذكر الصلاةَ حين يسمع الإقامة, فيُصليْها وينقرُها نَقْرَ الغراب.
بل ما أكثر من يطير من نومِه فَزِعًا, حين يظنّ أنه تأخر عن عملِه, ولا يهتزّ إذا أيْقَظَه أهلُه إلى صلاته, ما أَحْرَى هذا مِنْ بعد اللهَ عنه في الدنيا والآخرة.
كيف يطمع هذا أنْ يذوق حلاوة الإيمانِ! كيف لا يخشى أنْ يطمس الله على قلبه! كيف يرجو الفلاح والتوفيق من ربه, الذي جعله آخرَ هُمُومِه.
فاللهْ تعالى لا يرضى أنْ يُزاحمه أحدٌ قي قلب عبده, فكيف إذا كان غيرُه قد اسْتولى على كامل أو جُلِّ قلبه, فلْنفتشْ عن قلوبنا, فقد نكون نحن ممَّن هذه حاله, ولا ينبغي أنْ يُزكي الإنسانُ نفسَه, ويرى أنَّ هذا الأمرَ لا يعنيه من قريبٍ ولا بعيد.
فقد كان الصالحون من قبلِنا, يخافون على أنفسهم من هذا وأشدّ, قال الحافظ ابن رجب رحمه الهع: كان الصحابة ومَن بعدهم من السلف الصالحِ يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتدُّ قَلَقُهم وجَزَعُهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاقَ الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة, فيخرجُه إلى النفاق الأكبر. ا.ه كلامه
قال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما: يا حذيفةُ نشدتك بالله, هل سمَّاني لك رسولُ الله من المنافقين؟ قال: لا, ولا أزكي بعدك أحدا.
وقال ابن أبي مليكة رحمه الهد: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلُّهم يخاف النفاق على نفسه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون, وأستغفر الله لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتَمُ الْمُرسلين, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.... أما بعد:
أيها المسلمون: إنَّ الإنسان لَيَحَارَ حيرةً شديدةَ, في رجلٍ يحملُ في رأسه عقلاً يُفكر به, وفي قلبه دينًا وإحْساسًا, ثم يُقدم على سفك دماءٍ بريئةٍ, في دولةٍ كدولتنا, آمِنَةٍ مُطْمئنَّةٍ, قد أَمِنَ الناسُ على أعراضِهم وعباداتِهِم, وهو يعلم أنَّه مهما فعل فإنه لن يُفلت من العقاب.
فيا سبحان الله, كيف رخُصت عنده رُوحُه وأرواحُ مَنْ قَتَلَهم! لماذا يُقْدِمُ على هذه الجريمة البشعة؟ هل لأنه يرى أنّ من قتلهم كفارًا؟ فقد كان مُعلم البشرية, وهادي الإنسانية, جارًا لِأَكْفَرِ خلق الله, وهم اليهودُ, الذين قالوا عزيرٌ ابن الله, ويدُ الله مغلولة, ونقضوا العهود والمواثيق, وحاولوا قتل رسولِنا وإمامِنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ففي صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ».
وهؤلاء يقتلون الناس ويقولون: الحمد لهر الذي أذهبهم إلى النار! شتَّان بين القلب الرحيم, والنبي الكريم, وبين الزَّاعمين اتباعه, الْمُدّعين الذبّ عن دينه.
بل كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعامل مع المنافقين, وهو يعلم نفاقهم وكفرهم في باطنهم, بل كفَّن رأسَ المنافقين وصلى عليه! فكيف تسمح نفسُ مسلمٍ على قتل أرواحٍ بريئة!.
ولذا يَحَارُ العاقلُ من تصرفات هؤلاء الغلاةِ العوجاء.
إنّ جميعَ عقلاءِ هذا البلد المبارك, قد استنكر واسْتاء للحادث الإجراميِّ الذي وقع بمحافظة الأحساء، وأدى إلى مقتل خمسةٍ من المواطنين, وإصابة تسعةٍ آخرين.
والكلّ أيضًا قد استنكر واسْتاء للحوادِثِ الإجرامية, التي تقع على رجال أَمْنِنا في القطيفِ وغيرها.
نسأل الله تعالى أن يُديمَ وِحْدتنا واستقرارنا, وأنْ يحفظَ أمْنَنَا ودينَنا, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
أما بعد, فاتقوا الله معاشر المسلمين, واعلموا أنَّ اللهَ تعالى يَغَارُ غيرةً تليق بجلاله وعظمته, قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ, وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ». رواه مسلم
وهو تعالى يغار على عباده الصالحين, فإذا رأى منهم التفاتاً إلى غيره, ومُجاملةً للناس على حسابه, وتقديماً لرضى الخلق على رضاه, وإيثارَ محبةِ ما يُحبُّه الناس على محابِّه: غَارَ تعالى على دينه وشرعه أنْ يَسْتقرَّ في هذا القلب, وغَار على كتابه وكلامه أنْ يحلَّ بين جنباتِ من هذه حالُه, فيُعاقبُه بالانتكاسة بعد الاستقامة, ويُعاقبُه بالحرمان بعد حلاوة الإيمان, فيكونُ من حزب الشيطان, بعد أنْ كان من حزب الرحمن.
قال شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رحمه الله -, فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ»: إِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ الْمَخْلُوقُونَ, يَمْنَعُهَا الْكَلْبُ وَالصُّورَةُ عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ, فَكَيْفَ تَلِجُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَحَبَّتُهُ وَحَلَاوَةُ ذِكْرِهِ، وَالْأُنْسُ بِقُرْبِهِ، فِي قَلْبٍ مُمْتَلِئٍ بِكِلَابِ الشَّهَوَاتِ وَصُوَرِهَا؟. ا.ه كلامه
فالله جلَّ جلالُه, كرَّم ملائكته أنْ تدخل بيتاً فيه كلبٌ أو صورة, فمن باب أولى: أنْ يُكرِّم ويحشِم كتابه, وَحَلَاوَةَ ذِكْرِهِ, والأنسَ به واللذةَ بقربه: أنْ تدخل قلباً مُمْتَلِئاً بِكِلَابِ الشَّهَوَاتِ وَصُوَرِهَا.
فلن تذوق - يا عبد الله- حلاوةَ الإيمان, والراحةَ والسعادةَ والاطْمِئْنان, إذا صرفتَ قلبك لغير الله, وقدَّمت ما تهواه وما تحبه, على ما يحبُّه ويرضاه خالقك.
وإليكم كلاماً لابن القيم من أعظم الكلام, ولْيتأمله خاصةً من ذاق طعم الإيمان ثم حُرمه, ومن اسْتقام في سالف عهده ثم تنكَّب عنه, ومَن كانت عليه مظاهر الاستقامة والالتزام, ثم تهاون فيها بتأويلاتٍ وتتبُّعٍ للرُّخص, قال رحمه الله: فهو سُبْحَانَهُ الْمُقَرِّبُ الْمُبْعِدُ، فَلْيَحْذَرِ الْقَرِيبُ مِنَ الْإِبْعَادِ, وَالْمُتَّصِلُ مِنَ الِانْفِصَالِ، فَإِنَّ الْحَقَّ جَلَّ جَلَالُهُ غَيُورٌ, لَا يَرْضَى مِمَّنْ عَرَفَهُ وَوَجَدَ حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ، وَاتَّصَلَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّتِهِ وَالْأُنْسِ بِهِ، وَتَعَلَّقَتْ رُوحُهُ بِإِرَادَةِ وَجْهِهِ الْأَعْلَى, أَنْ يَكُونَ لَهُ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ.
وَمِنْ غَيْرَتِهِ سُبْحَانَهُ: حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَغَارُ أَشَدَّ الْغَيْرَةِ عَلَى عَبْدِهِ: أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى سِوَاهُ، فَإِذَا أَذَاقَهُ حَلَاوَةَ مَحَبَّتِهِ، وَلَذَّةَ الشَّوْقِ إِلَيْهِ، وَأُنْسَ مَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ سَاكَنَ غَيْرَهُ بَاعَدَهُ مِنْ قُرْبِهِ، وَقَطَعَهُ مِنْ وَصْلِهِ، وَأَوْحَشَ سِرَّهُ، وَشَتَّتَ قَلْبَهُ، وَنَغَّصَ عَيْشَهُ، وَأَلْبَسَهُ رِدَاءَ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَالْهَوَانِ، فَنَادَى عَلَيْهِ حَالُهُ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَعَوَّضَ عَنْ وَلِيِّهِ وَإِلَهِهِ وَفَاطِرِهِ، وَمَنْ لَا حَيَاةَ لَهُ إِلَّا بِهِ، فَاتَّخَذَ سِوَاهُ لَهُ حَبِيبًا، وَرَضِيَ بِغَيْرِهِ أَنِيسًا، وَاتَّخَذَ سِوَاهُ وَلِيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}.
فَإِذَا ضُرِبَ هَذَا الْقَلْبُ بِسَوْطِ الْبُعْدِ وَالْحِجَابِ، وَسُلِّطَ عَلَيْهِ مَنْ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَمُلِئَ مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَصَارَ مَحَلًّا لِلْجِيَفِ وَالْأَقْذَارِ وَالْأَنْتَانِ، وَبُدِّلَ بِالْأُنْسِ وَحْشَةً، وَبِالْعِزِّ ذُلًّا، وَبِالْقَنَاعَةِ حِرْصًا، وَبِالْقُرْبِ بُعْدًا وَطَرْدًا، وَبِالْجَمْعِ شَتَاتًا وَتَفْرِقَةً كَانَ هَذَا بَعْضَ جَزَائِهِ، فَحِينَئِذٍ تَطْرُقُهُ الطَّوَارِقُ وَالْمُؤْلِمَاتُ، وَتَعْتَرِيهِ وُفُودُ الْأَحْزَانِ وَالْهُمُومِ بَعْدَ وُفُودِ الْمَسَرَّاتِ.
فَمَنْ عَرَفَهُ وَذَاقَ حَلَاوَةَ قُرْبِهِ وَمَحَبَّتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى مُسَاكَنَةِ غَيْرِهِ: ثَبَّطَ جَوَارِحَهُ عَنْ طَاعَتِهِ، وَعَقَلَ قَلْبَهُ عَنْ إِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَأَخَّرَهُ عَنْ مَحَلِّ قُرْبِهِ، وَوَلَّاهُ مَا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: احْذَرْهُ فَإِنَّهُ غَيُورٌ، لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَى فِي قَلْبِ عَبْدِهِ سِوَاهُ.
وَمِنْ غَيْرَتِهِ: أَنَّ صَفِيَّهُ آدَمَ لَمَّا سَاكَنَ بِقَلْبِهِ الْجَنَّةَ، وَحَرِصَ عَلَى الْخُلُودِ فِيهَا, أَخْرَجَهُ مِنْهَا.
وَمِنْ غَيْرَتِهِ سُبْحَانَهُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ عليه السلام, لَمَّا أَخَذَ إِسْمَاعِيلُ شُعْبَةً مِنْ قَلْبِهِ: أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ، حَتَّى يُخْرِجَ مِنْ قَلْبِهِ ذَلِكَ الْمُزَاحِمَ.
إِنَّمَا كَانَ الشِّرْكُ عِنْدَهُ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ, لِتَعَلُّقِ قَلْبِ الْمُشْرِكِ بِهِ وَبِغَيْرِهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ كُلُّهُ بِغَيْرِهِ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ بِكُلِّيَّتِهِ؟
إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا حَلَّ بِكَ مِنْ بَلَاءِ الِانْفِصَالِ، وَذُلِّ الْحِجَابِ، فَانْظُرْ لِمَنِ اسْتَعْبَدَ قَلْبَكَ، وَاسْتَخْدَمَ جَوَارِحَكَ، وَبِمَنْ شَغَلَ سِرَّكَ، وَأَيْنَ يَبِيتُ قَلْبُكَ إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ؟ وَإِلَى أَيْنَ يَطِيرُ إِذَا اسْتَيْقَظْتَ مِنْ مَنَامِكَ؟ فَذَلِكَ هُوَ مَعْبُودُكَ وَإِلَهُكَ، فَإِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لِيَنْطَلِقْ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُهُ، انْطَلَقْتَ مَعَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ. ا.ه كلامه رحمه الله
تأملوا قوله: "أَيْنَ يَبِيتُ قَلْبُكَ إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ؟ وَإِلَى أَيْنَ يَطِيرُ إِذَا اسْتَيْقَظْتَ مِنْ مَنَامِكَ؟ فَذَلِكَ هُوَ مَعْبُودُكَ وَإِلَهُكَ", كم من إنسانٍ يَبِيتُ وقلبُه مع هاتفه أو صديقه, أو مزرعتِه أو تجارتِه, ويستقيظ على ذلك أيضًا.
كم همُ الذين يستيقظون وأوَّلُ ما يَسْتَفْتِحون به يومهم: النظرُ في هاتفهم, وماذا قال فلان, وما أرسل فلان, ثم بعد أنْ يفرغ مِنْه, يتذكر الصلاةَ حين يسمع الإقامة, فيُصليْها وينقرُها نَقْرَ الغراب.
بل ما أكثر من يطير من نومِه فَزِعًا, حين يظنّ أنه تأخر عن عملِه, ولا يهتزّ إذا أيْقَظَه أهلُه إلى صلاته, ما أَحْرَى هذا مِنْ بعد اللهَ عنه في الدنيا والآخرة.
كيف يطمع هذا أنْ يذوق حلاوة الإيمانِ! كيف لا يخشى أنْ يطمس الله على قلبه! كيف يرجو الفلاح والتوفيق من ربه, الذي جعله آخرَ هُمُومِه.
فاللهْ تعالى لا يرضى أنْ يُزاحمه أحدٌ قي قلب عبده, فكيف إذا كان غيرُه قد اسْتولى على كامل أو جُلِّ قلبه, فلْنفتشْ عن قلوبنا, فقد نكون نحن ممَّن هذه حاله, ولا ينبغي أنْ يُزكي الإنسانُ نفسَه, ويرى أنَّ هذا الأمرَ لا يعنيه من قريبٍ ولا بعيد.
فقد كان الصالحون من قبلِنا, يخافون على أنفسهم من هذا وأشدّ, قال الحافظ ابن رجب رحمه الهع: كان الصحابة ومَن بعدهم من السلف الصالحِ يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتدُّ قَلَقُهم وجَزَعُهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاقَ الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة, فيخرجُه إلى النفاق الأكبر. ا.ه كلامه
قال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما: يا حذيفةُ نشدتك بالله, هل سمَّاني لك رسولُ الله من المنافقين؟ قال: لا, ولا أزكي بعدك أحدا.
وقال ابن أبي مليكة رحمه الهد: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلُّهم يخاف النفاق على نفسه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون, وأستغفر الله لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتَمُ الْمُرسلين, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.... أما بعد:
أيها المسلمون: إنَّ الإنسان لَيَحَارَ حيرةً شديدةَ, في رجلٍ يحملُ في رأسه عقلاً يُفكر به, وفي قلبه دينًا وإحْساسًا, ثم يُقدم على سفك دماءٍ بريئةٍ, في دولةٍ كدولتنا, آمِنَةٍ مُطْمئنَّةٍ, قد أَمِنَ الناسُ على أعراضِهم وعباداتِهِم, وهو يعلم أنَّه مهما فعل فإنه لن يُفلت من العقاب.
فيا سبحان الله, كيف رخُصت عنده رُوحُه وأرواحُ مَنْ قَتَلَهم! لماذا يُقْدِمُ على هذه الجريمة البشعة؟ هل لأنه يرى أنّ من قتلهم كفارًا؟ فقد كان مُعلم البشرية, وهادي الإنسانية, جارًا لِأَكْفَرِ خلق الله, وهم اليهودُ, الذين قالوا عزيرٌ ابن الله, ويدُ الله مغلولة, ونقضوا العهود والمواثيق, وحاولوا قتل رسولِنا وإمامِنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ففي صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ».
وهؤلاء يقتلون الناس ويقولون: الحمد لهر الذي أذهبهم إلى النار! شتَّان بين القلب الرحيم, والنبي الكريم, وبين الزَّاعمين اتباعه, الْمُدّعين الذبّ عن دينه.
بل كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعامل مع المنافقين, وهو يعلم نفاقهم وكفرهم في باطنهم, بل كفَّن رأسَ المنافقين وصلى عليه! فكيف تسمح نفسُ مسلمٍ على قتل أرواحٍ بريئة!.
ولذا يَحَارُ العاقلُ من تصرفات هؤلاء الغلاةِ العوجاء.
إنّ جميعَ عقلاءِ هذا البلد المبارك, قد استنكر واسْتاء للحادث الإجراميِّ الذي وقع بمحافظة الأحساء، وأدى إلى مقتل خمسةٍ من المواطنين, وإصابة تسعةٍ آخرين.
والكلّ أيضًا قد استنكر واسْتاء للحوادِثِ الإجرامية, التي تقع على رجال أَمْنِنا في القطيفِ وغيرها.
نسأل الله تعالى أن يُديمَ وِحْدتنا واستقرارنا, وأنْ يحفظَ أمْنَنَا ودينَنا, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق