غنائم شعبان

عنان عنان
1436/08/01 - 2015/05/19 04:04AM
" الخطبة الأولى "

معاشر المؤمنين: لا شك أن أهل الإيمان يفرحون بمواسم الطاعات، لأنهم يتألهون إلى الله بالرحمة والعفو والغفران،
لا شك أن أهل الإيمان يفرحون بمواسم الطاعات، حتى يدخلوا جنةَ الرحمن التي قال عنها ربهم المنَّان " فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ". كل يوم هو هدية من الله لك، فإذا أحسنت فيه انتفعت به في الدنيا والأخرة، وإذا أساءت به خبت في الدنيا والأخرة، السلف كانوا يندمون على اليوم الذي انقضى ولم يتزودوا به من العمل الصالح، يقول عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-: " ما ندمت على شيء، ندمي على يومٍ غربت شمسُه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي ".

وكانوا حريصين على أوقاتهم، كحرصكم على أموالكم، لماذا؟ لأنهم يعلمون أن اليوم الذي ينقضي لن يعود، قال الحسن البصري-رحمه الله-: " أدركت أقواماً كانوا حريصين على أوقاتهم، كحرصكم على أموالكم ". بلْ كان أحدهم إذا غاب عن صلاة الجماعة يعزيه إخوانه، ويقولون له: أحسن الله عزاءك، لأنها مصيبة والله، ونحن الأن في شهر شعبانَ، ومن فضل الله على عباده أن جعل لهم مواسم طاعات، لتثقل موزاينهم عند الله، وليحرصوا على عبادة النوافل اقتداءً برسول الله-صلى الله عليه وسلم- وليسدوا فرائضهم الناقصة، لأن النوافل تكمل الفرائض إن كان بها نقص كما جاء في الحديث عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-

وشهر شعبان هو معبر شهر رمضان، وهو إستعداد لشهر رمضان، فحري بالمسلم أن يغتنمه ليفوزَ بخيري الدنيا والأخرة، وشهر شعبان إذا انقضى لن يعود حتى السنةِ القادمةِ، وهل الإنسان يضمن عمره من الأن إلى ساعة؟.
إن لله نفحاتٍ، وشهر شعبان من نفحات الله-عز وجل- فعلى المسلم أن يتحرى وقت نفحات الله لعلَّها تصيبه، شهر شعبان هو المنحة الربانية التي يهديها الله لأمة محمد-صلى الله عليه وسلم- شهر شعبان هو تقدمة لشهر رمضان، وهو تمرين للأمة الإسلامية على الصيام والقيام والأعمال الصالحة، حتى يذوقوا لذة القرب من الله، ويستطعموا حلاوة الإيمان، فإذا جاء رمضان، أقبلوا عليه بهمةٍ عاليةٍ، ونفسٍ مشتاقةٍ، وانكبوا على الطاعة وانعكفوا على العبادة.

معاشر المؤمنين: شهر شعبان يغفل عنه كثير من الناس، عن أسامة بن زيد-رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله: لم أراك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم في شعبان؟ فقال عليه-الصلاة والسلام-" ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله-عز وجل-فأحب أن يُرفعَ عملي وأنا صائم " [رواه النسائي]. تأمل في قوله-صلى الله عليه وسلم-: " يغفل الناس عنه ". فيه إشارة أن السبب الذي كان يجتهد به رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بالصيام في شعبان غفلةُ الناس، واستحب أهل العلم-رحمهم الله-الطاعةَ في غفلة الناس- بل كان السلف الصالح " يَحيون بين العشاءين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة، ويذهبون إلى أن قوله تعالى " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " نزلت في هذا.

وقيام الليل هو ساعة غفلة، لأن الناس في سُباتٍ عميق، لهذا قال-عليه الصلاة والسلام-: " أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر، فإنِ إستطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعةِ فكنْ " [رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني-رحمه الله-حسن صحيح]. فالناس في غفلة، غفلة عن الموت هادم اللذات، غفلة عن الأخرة، غفلة عن النار التي ما أًنذر العباد بأدهى منها، غفلة عن الصراط " أحد الصالحين كان مضجعاً على فخذ زوجته، تأملْ المكانَ مكانَ غفلةٍ، بل هو مكان ينسى العبد ذكر ربه، قال أهل العلم: " الوقت الذي ينسى به العبد ربه هو وقت الجماع ". فإذا بهذا الرجل يبكي، فبكت زوجته المؤمنة على بكائه، فقالت له: ما بك؟ قال تذكرت قول الله " وإن منكم إلا واردوها كان على ربك حتماً مقضياً " وهو الصراط، إنها النار التي منعتهم حتى التمتع بالحلال.

معاشر المؤمنين: قال بعض السلف: " ذاكر الله في الغافلين، كالذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس، لهلك الناس ". وقد قيل في تفسير قول الله تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدتِ الأرض " أنه يدخل فيها دفعه عن العصاة بأهل الطاعة. وجاء عن بعض السلف " أن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله وولده وذريته والدُويرات من حوله ".

معاشر المؤمنين: أما قوله-صلى الله عليه وسلم-" فهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله ". فرفع الأعمال المقصود هنا بالحديث هو الرفع السنوي، فالأعمال ترفع إلى الله رفعاً يومياً، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القِسطَ ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل " [رواه البخاري ومسلم].
وترفع الأعمال أيضاً رفعاً إسبوعياً، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " ترفع الأعمال إلى الله يومَ الأثنين والخميس فيغفر الله لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً، إلا من كانت بينه وبين أخيه شحناءُ، فيُقال: أنظرا هذين حتى يصطلحا " [رواه مسلم]. ولهذا كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يتحرى صيام الأثنين والخميس.

فأنظر يا عبد الله في نفسك، وماذا سيرفع من عملك إلى الله؟ هل سيرفع حفاظك على الصلوات أم تضيعها والكسل عنها؟ هل سيرفع برك للوالدين أم عقوق الوالدين؟ هل سترفع صلتك للرحم أم قطيعة الرحم؟ هل سيرفع كفُّ أذيتك عن الناس أم أذيتك للناس؟ هل سيرفع تعففك عن الحرام أم أكلك للحرام وفعلك للحرام؟ هل سيرفع فعلك للخير أم للشر؟
" فحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تُعرضون لا تخفى منكم خافية " قال الله-عز وجل-في الحديث القدسي: " يا عبادي إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم ثم أوفيكم إيَّاها، فمن وجد خيراً فليحمدِ الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه " [رواه مسلم].

" الخطبة الثانية "

معاشر المؤمنين: كيف حال نبيكم محمد-صلى الله عليه وسلم-في شهر شعبان؟ قالت عائشة-رضي الله عنها-: " كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-استكمل شهراً قطُّ إلا رمضانَ وما رأيته في شهر قط أكثرَ منه صياماً في شعبان " [رواه مسلم].
قال أهل العلم-رحمهم الله-: " وفي الحديث دلالة على فضل الصوم في شعبان ". قال أهل العلم: " أفضل الصيام بعد رمضان الأشهر الحرم وشعبان ".

معاشر المؤمنين: من فوائد الصيام في الدنيا، أنه يكبح النفس عن الشهوات، ويسد مجاري الشياطين التي تجري بدم الإنسان، وله فرحة عند الفطر، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " للصائم فرحتانِ، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه " [رواه البخاري]. وأيضا يقوي الذاكرة ويغذي العقل، ولهذا تجد أهل العقول يصومون كل فترة لتغذية عقولهم.
وأما فوائده في الأخرة فله فوائد جمَّة، فهو حجاب من النار، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " لا يصوم عبدٌ يوماً في سبيل الله، إلا باعد الله بذلك اليومِ وجهَه عن النَّارِ سبعين خريفاً " [رواه البخاري]. وأيضا يدخل صاحبه من باب الريَّان فهو خاص للصائمين كما جاء في الحديث عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-

وأيضاً ثواب الصيام في الأخرة لا مثيل له، عن أمامةَ-رضي الله عنه-قلت يا رسول الله: مرني بعملٍ ينفعني الله به، قال: " عليك بالصيام فإنه لا مثلَ له " [رواه الحاكم والنسائي]. ومن مات وهو صائم أو بعد فطره دخل الجنة من غير حسابٍ ولا سابقةِ عذابٍ، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " من خُتِمَ له بصيامِ يومٍ دخل الجنة " [صححه الشيخ الألباني-رحمه الله-]. قال الإمام المُناوي-رحمه الله-: " أي من ختم عمره بصيام يوم بأن مات وهو صائم أو بعد فطره من صومه دخل الجنة، مع السابقين، أو من غير سبق عذاب " [فيض القدير ص 805].

ومن فضائل الصيام، أنه من أسباب تكفير الذنوب والخطايا، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " فتنة الرجل في أهله وماله وجاره، تكفرها الصلاة والصيام والصدقة " [رواه مسلم].
ومن فضائل الصيام، أنه من أسباب العفة والبعد عن الحرام، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " يا معشر الشباب من إستطاع من الباءةَ فليتزوجْ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء " [رواه البخاري]. ومن فضائل الصيام، أنه يسد يوم القيامة النقص والخلل الذي وقع من صاحبه في صيام الفريضة،

قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " إن أول ما يُحاسبُ به العبد يوم القيامة من عمله صلاتُه، فإن صلُحت فقد أفلح ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإنِ إنتقص من فريضته شيء، قال الرَّب-عز وجل-: أنظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيُكمَّلُ بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على نحوِ ذلك " [رواه أبو داود والترمذي والنسائي].
ومن فضائل الصيام، أنه من أسباب نيل العبد محبةَ ربه، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " قال الله-عز وجل-: " وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن إستعاذني لأعذنَّه " [رواه البخاري].

معاشر المؤمنين: الإكثار من صيام شعبان، تمرين لصيام رمضان، فمن دخل عليه رمضان وقد صام بشعبان، لم يشق عليه صيام رمضان، فأكثروا عباد الله من الصيام في شهر شعبان، وكل إنسان على قدر إستطاعته، فصمْ ولو يوماً واحداً حتى تقتديَ بنبيِّك محمد-عليه الصلاة والسلام- وقد كان السلف إذا دخل شعبان يقولون: " هذا شهر القراء، وانكبوا على قرءاة القرءان وعلى الأعمال الصالحة، وكان السلف يكثرون من الصدقة في شهر شبعان، فأحيوا سُنةَ نبيكم-عليه الصلاة والسلام-وتهيئوا لشهركم العظيم شهرِ رمضان، فإن الأيام تنصرم، وإن العمر ينقضي، وإن شعبان ينقضي كما تنقضي غيره من الشهور، فاجتهدوا فيه بالطاعة، لتسعدوا في دنياكم وأخراكم، وإن كان النهار حاراً وشاقاً على النفس، فإن تعب الطاعة يزول ويبقى الأجر، ولكم عند الله حسن مئاب.

مَضَى رَجَبٌ وَمَـا أحْسَنْتَ فِيهِ *** وَهَذَا شَهْرُ شَعْبانَ المُبَـارَكْ
فَيَـا مَنْ ضَيَّعَ الأوْقاتِ جَهْلاً *** بِحُـرْمَتِهَا أفِقْ وَاحْذَرْ بَوَارَكْ
فَسَوْفَ تُفَارِقُ اللَّذَّاتِ قَهْرًا *** وَيُخْلي المَوْتُ كَرْهًا مِنْكَ دَارَكْ
تَدارَكْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الخَطَايَا *** بِتَوْبَةِ مُخْلِصٍ وَاجْعَلْ مَدَارَكْ
عَلَى طَلَبِ السَّلَامَةِ مِنْ جَحِيمٍ *** فَخَيْرُ ذَوِي الجَرَائِمِ مَنْ تَدَارَكْ


معاشر المؤمنين: يعد شعبان آخر فرصة في العام لقضاء الصيام، لمن كان عليه قضاء من رمضان الماضي من رجل أوِ امرأة، فمن كان عليه قضاء، فليبادر بقضائه فهو حق لله-عز وجل-قبل فوات شهر شعبان، قالت عائشة-رضي الله عنه-" كان يكون عليَّ الصومُ من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان " [رواه البخاري].

معاشر المؤمنين: أنظروا إلى سعة رحمة الله، جعل لنا موسم شعبان، فمن لم يفلح فيه، جعل لنا موسم رمضان، فمن لم فيه، جعل لنا ستَّ شوالٍ، فمن لم يفلح فيها، جعل لنا عشر ذي الحجة، حتى يقودك للجنة، وصدق رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حينما قال: " عجبت لأناسٍ يُقادون إلى الجنة بالسلاسل ".
" وصلِّ اللهمَّ وباركْ على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ".



المشاهدات 2467 | التعليقات 1

شكر الله لك شيخ عنان فقد بلغت بنا في تلخيصك النافع وبيانك الواضح العنان فنفع الله بك وزادك الله من فضله ولا حرمك ربي الأجر.