غـــزوة مـــــؤتة

عنان عنان
1438/05/19 - 2017/02/16 15:19PM
بسم الله الرحمن الرحيم
"الخطبة الأولى"

عباد الله: قال تعالى: ((إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويومَ يقوم الأشهاد)) [غافر51].
مع قدوم شهر جُمادى الأولى من كل عام هجري يجد أهلُ الأردن ذوقاً خاصاً وهبوبَ نسيماتٍ ذكرياتِ المجدِ التليد في تجدد موسم غزوة مؤتة في العام الثامن من الهجرة وفد صحابةُ وأهل بيت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الديار المباركة لقد نقلت غزوة مؤتة الأمةَ من المواجهةِ الداخلية إلى المواجهةِ الخارجية لا من أجل القتل والطمع فيما لَدى الآخرين إنما من أجل الدفاع عن المبادئ والأخلاق الفاضلة
كانت ثروةً للكرامةِ والعزةِ الإسلامية التي ترفض الذل والإمتهان حتى ولو كانت المواجهةُ ضدَّ الروم التي كانت تهيمن على النظام العالمي آنذاك حتى قادها ظلمها وطغيانها إلى الإعتداء على الناس واستعبادهم.

عباد الله: ما سبب غزوة مؤتة؟ سبب غزوة مؤتة هو أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بعث الحارثَ بن عُميرٍ الأزدْي-رضي الله عنه- بكتابه إلى عظيمِ بُصرى فاعترضه شرحبيل بن عمرٍو الغسَّاني وكان عاملاً على البلقاء من قبل القيصر فأوثقه رباطاً ثم قدَّمه فضرب عنقَه.
وكان قتلُ السفراء والرسل من أشنع الجرائم لأنه يزيد في العَداءِ والحرب
فاشتد ذلك على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حين نقلت إليه الأخبارُ فجهز جيشاً قِوامُه ثلاثةُ آلافِ مقاتل كأكبرِ جيشٍ إسلامي لم يجتمع من ذي قبل تجهز المسلمون في جيشٍ يُعدُّ بالنسبةِ لهم كبيراً لكن أهمُّ ما يثيرُ الدهشةَ في هذه العزوة تلك النسبة الكبيرة في الفرق بين عدد المسلمين وعدد مقاتليهم من الروم والمشركين والعرب فلقد بلغ عدد الروم وأتباعُهم من العرب ما يقرُب من مائتي ألفِ مقاتل
فعدد المسلمين أشبهُ ما يكون بساقيةِ ماءٍ صغيرةٍ بالنسبة إلى بحرٍ خِضَمٍ متلاطمِ الأمواج.
ومكان الدهشةِ في الغزوة أن تجد المسلمين بعد هذا كُلِّه وليس معهم رسول الله-صلى الله عليه وسلم- مقبلين غيرَ مدبرين لا يقيمون لكُلِّ هذه الحشودِ الهائلةِ وزناً لأنَّ القرآن ربَّاهم بقوله: ((كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين)) [البقرة 249].
والمواقف السابقةُ أثقلت فيهم هذا الشعورَ عن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: ((شهدت مؤتة فلما رآنا المشركون رأينا ما لا قبل لأحدٍ به من العُدِّةِ والسلاحِ والكُراعِ والديباجِ الحريرِ والذهب فبرق بصري فقال لي ثابت بن أقرَمَ: مالك يا أبا هريرة؟! كأنَّك ترى جموعاً كثيرةً؟! قلت: نعم قال: ألم تشهد معنا بدراً إنَّا لم ننصر بالكثرة)) [دلائل النبوة للبيهقي].

عباد الله: أمَّرَ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- على هذا البعث زيدَ بن حارثة فإن أُصيِبَ زيد فجعفرٌ فإن أصيب جعفرٌ فعبد الله بن رواحة [رواه أحمد].
وعقد لهم لواءً أبيضَ ودفعه إلى زيد بن حارثة وأوصاهم أن يأتوا مقتلَ الحارثِ بن عُمير وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم وقاتلوهم وقال لهم: ((اغزوا بسم الله في سبيل الله من كفر بالله لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأةً ولا كبيراً فانياً ولا منعزلاً بصومعةٍ ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرةً ولا تهدموا بناءً))
نعم هذا هو الأدب الإسلامي في الجهاد فأين من يزعُمون الجهادَ الآن؟!!
ولما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر النَّاس وودعوا أمرآء رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وسلموا عليهم وحيئذٍ بكى أحدُ أمراءِ الجيش عبد الله بن رواحة فقالوا ما يبكيك؟!! فقال: ((أما والله ما بي حُبُّ الدنيا ولا صَبابةٌ بكم ولكني سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يقرأُ قولَ الله-عز وجل-يذكر فيها النَّار : ((وإن منكم إلا واردُها كان على ربِّك حتماً مقضياً)) فلست أدري كيف لي بالصُدورِ بعد الورود؟!!)).
فقال المسلمون: صحبكم الله بالسلامة ودفع عنكم وردَّكم إلينا صالحين غانمين
فقال عبد الله بن رواحة:
ولكنأني أسأل الرَّحمنَ مغفرةً***وضربةً ذاتَ فَرْعٍ تَقذِفُ الزَّبدا
أو طعنةً بيديِّ حرَّانَ مُجِهِزَةً***بحربةٍ تنفُذُ الأحشاءَ والكبِدا
حتى يقالَ إذا مرّوا على جَدَثي***أرشده الله من غازٍ وقد رَشدا.

عباد الله: خرج الجيش من المدينة وانطلق إلى مشارفِ الشام إلا أنَّ أخبارَ الجيش قد وصلت إلى الروم من قبل عيون المنافقين في المدينة ولما وصل المسلمون إلى مكانٍ يسمى(معان) عرفوا الأمر وعلموا أنَّ في انتظارهم مائتي ألفِ والهجومُ
على جيشٍ تلك عدُّتُه مُجازَفةٌ كبيرة فأقام المسلمون ليلتين يتدبرون أمرَهم فقالوا: نكتب إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- نخبره بعدد عدوِّنا فإمِّا أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرَنا بأمرٍ فنمضي له.
فيقوم عبد الله بن رواحة ويحول هذا الميزانَ التحليلي والتدبيري إلى مشاعرَ ملتهبةٍ وأشواقٍ إلى الجنَّة التي بايع عليها المسلمون ربَّهم ورسولَهم-صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: ((إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم بأنَّ لهم الجنةَ)) [التوبة111].
كلمةً قالها عبد الله بن رواحة أعادت الطمأنينةَ إلى النفوس والبرد والسلامَ إلى القلوب قال يا قوم: ((إنَّ التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادةَ وما نقاتل النَّاسَ بعددٍ ولا قوةٍ ولا كثرةٍ ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهورٌ وإما شهادة)) [السيرة النبوبة لابن هشام].
وأخيراً استقر الأمر على الذي دعا إليه عبد الله بن رواحة. تحركوا إلى أرض العدوِّ حتى لقيتهم جموعُ هِرَقل بقريةٍ من قُرى البلقاء يقال لها شارف ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى مؤتة فعسكروا هناك وتجهزوا للقتال.

عباد الله: هناك في مؤتة التقى الفريقان وبدأ القتالُ المريرُ ثلاثةُ آلافِ رجلٍ يواجهون هجماتَ مائتي ألف مقاتل!! معركة عجيبة في تاريخ البشرية ولكن إذا هبَّت ريح الإيمان جاءت بالعجائبِ والثبات.
أخذ الرايةَ زيدُ بنُ حارثةَ حِبُّ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فجعل يقاتل ببسالةٍ لا يوجد لها نظير إلا في أمثال هؤلاء من أبطال الإسلام فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماحِ القوم وخرَّ شهيداً-رضي الله عنه-
وحينئذٍ أخذ الراية جعفرُ بنُ أبي طالبٍ فجعل يقاتل ببسالةٍ لا يوجد لها نظير حتى إذا أهرقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها حتى لا ينتفعَ بها العدو أو يستخدمَها في قتال المسلمين بعد أخذها غنيمةً
ثم قاتل حتى قُطِعت يمينُه فأخذ الراية بشماله ثم قاتل حتى قطعت شمالُه فاحتضها بِعَضُديه فلم يزل رافعاً إياه حتى قتل-رضي الله عنه- وكان يقول:
يا حبَّذا الجنَّةُ واقترابُها***طيبةٌ وبارداً شرابُها
والروم رومٌ قد دنا عذابُها***كافرةٌ بعيدةٌ أنسابُها.
وأثابه الله بجناحينِ في الجنَّة يطير بهما حيث يشاء ولذلك سمي بجعفرِ الطيار.
عن نافعٍ أنَّ ابنَ عمرَ أخبره قال: ((كنتُ فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفرَ بنَ أبي طالب فوجدناه في القتلى ووجدنا ما في جسد بضعاً وتسعين من طعنةٍ روميةٍ)) [رواه البخاري].
ثم أخذ الراية عبدُ الله بنُ رواحة فتقدم بها على فرسه فلما أحسَّ دقةَ الموقف وشدةَ الضغط عراه بعضُ التردد ثم أقنع بورودِ المصير الذي ذاقه صاحباه على الساحةِ المضطرمةِ وهو يقول:
يا نفسُ إلا تُقتلي تموتي***هذا حِمامُ الموتِ قد صُليتِ
وما تمنيتِ فقد أُعطيتِ***إن تفعلي فِعلَهما هُديتِ.
ويأتيه ابن عمٍّ له بقطعةِ لحمٍ فما كاد يمضغُها حتى سمع الحُطمةَ في ناحيةٍ استعرت بها الحرب فقال لنفسه: وأنتِ في الدنيا!! ورمى بالطعام من يده ثم انطلق يتقدم بسيفه حتى قتل.

عباد الله: حتى لا تسقط الراية أخذها ثابت بن أقرم وقال يا معشرَ المسلمين: اصطلحوا على رجلٍ منكم فاصطلح الناس على خالد بن الوليد-رضي الله عنه- فلما أخذ الرايةَ قاتل قتالاً مريراً
روى البخاري أنَّ خالدَ بن الوليد قال: ((لقد قطعتُ في يدي يومَ مؤتةَ تسعةَ أسيافٍ وما بقي في يدي إلا صفيحةٌ يمانيةٌ))
ثم بعد ذلك أعاد تنظيمَ الجيش ورسم للمسلمين خِطةً كفلت بأن ينجوا بجيشه لكثرة الأعداء وكثرة عتادِهم فأرسل ليلاً عدداً من المسلمين وأن يأتوا على فتراتٍ متقطعةٍ ويثيروا الغبارَ من بعيدٍ حتى يظهر للإعداء أنَّ هناك مدداً قادم
وقلب الميمنةَ ميسرةً وقلَّب الميسرةَ ميمنةً والمقدمةَ مؤخرةً والمؤخرةَ مقدمةً فدبَّ الرعبَ في قلوب الروم وصار خالد-رضي الله عنه- بعد ما ترآى الجمعان وتناوشا ساعةً يتأخر بالجيشِ قليلاً قليلاً مع حفظِ نظام جيشه ولم يتبعهم الرومان ظنَّاً منهم أنَّ المسلمين يخدعونهم ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء فانحاز العدو إلى بلاده ولم يفكر في مطاردة المسلمين ونجح المسلمون بالإنحياز سالمين حتى عادوا إلى المدينة واستشهد يومئذٍ من المسلمين اثنا عشر رجلاً أما الروم فقد قُتِلَ منهم عدد كثير وكان هذا نصراً للمسلمين بصبرهم على هذا الجموع وقلة عددهم.
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: مخبراً بالوحي مخبراً أصحابَه بالمدينة يومَ مؤتة قبل أن يأتيَ للناس الخبر من ساحة القتال:((أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفانِ حتى أخذ الراية سيفٌ من سيوفِ الله حتى فتح الله عليهم)).
نعم هذا هكذا كان يقاتل أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كُلُّ ذلك صبراً على نصرة هذا الدين.

"الخطبة الثانية"
عباد الله: إنَّ لغزوةِ مؤتة ثمراتٍ لا تعد ولا تحصى
أولاً: أنَّ قوةَ الإيمانِ واليقين لا تعلوها قوةٌ في الأرضِ مع الأخذ بالأسبابِ والإمكاناتِ المتاحة قال تعالى: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)) [الأنفال60].
ثانياً: أنَّ حياةَ الأمة مقدمة على حياةِ الفرد وأنه يجب على القائد أن يتصرف في المواقفِ العصيبة التي تتعرض لها الأمة وأن يخرج بها خروجاً مشرَّفاً يحفظ عليها ماءَ وجهِها بأقلِ خسارةٍ ممكنةٍ.

ثالثاً: الإهتمامُ بأبناء الشهداء وتفقدُ أحوالِهم وليس هناك أفضلُ من الموقفِ الرائعِ الذي يرويه لنا عبد الله بن جعفر- ابن الشهيد - يقول: ((جاءنا النبي-صلى الله عليه وسلم- بعدَ ثلاثٍ من موتِ جعفر فقال: لا تبكوا على أخي بعدَ اليومِ وادعوا لي بني أخي قال عبد الله: فجيء بنا كأننا أفراخ فقال: ادعوا لي الحلَّاقَ فجيء بالحلاق فحلق رؤوسَنا ثم قال-عليه الصلاة والسلام- مداعِباً أما محمد-أي: محمد بن جعفر بنِ أبي طالب فشبيهُ عمِّنا أبي طالب وأما عبد الله فشبيه خَلقي وخُلُقي ثم أخذ بيدي فأشالها وقال: اللهم أخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقةِ يمينه قالها: ثلاثَ مرَّاتٍ
قال عبد الله فجاءت أمُّنا فذكرت يتمَنا وجعلت تُحزِنُهُ فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: العيلةَ تخافين عليهم وأنا وليُّهم في الدنيا والآخرة)) [رواه أحمد].
وكيف لا وقد قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازياً في سبيل الله بخيرٍ فقد غزا)) [متفق عليه].

وصلِّ اللهمَّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.










المشاهدات 970 | التعليقات 0