غض بصرك
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ الذي كرَّمَ بني البَشرِ، وأنعمَ عليهم بنعمةِ البَصرِ، سُبحانَه يُحبُّ من حَمِدَ نِعمَه وشَكرَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، وعلى من تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ .. أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى اللهِ القادرِ على كُلِّ شَيءٍ، العالمِ بكُلِّ شَيءٍ، الذي يسمعُ ويُبصرُ كلَّ شيءٍ، قال تعالى: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ)
هل تذكرونَ قِصةَ جريجَ العابدِ، عندما أتته أمُّهُ تزورُه شوقاً لرؤيتِهِ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَارَبِّ، أُمِّي وَصَلَاتِي؟ -أيْ: هل أُكملُ صَلاتي أم أُجيبُ أُمي؟-، فَأقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، وهكذا ثلاثةُ أيامٍ، فقالتْ: (اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إلَى وُجُوْهِ المُوْمِسَاتِ)، وهُنا قد يسألُ السائلُ: لماذا هذا الدُّعاءُ بالذَّاتِ؟، والجوابُ: أنَّهُ كما احترقَ قلبُها على عدمِ رؤيةِ ابنِها وهو أحبُّ شيءٍ إليها، أرادتْ أن يذوقَ هذا الشُّعورَ، فيحترقُ قلبُه على أحبُّ شيءٍ إليهِ وهي العبادةِ، وتعلمُ أنَّ النَّظرَ إلى وجهِ الكاشفاتِ المُتبرجاتِ يُذهبُ لذَّةَ العبادةِ في قلبِ الإنسانِ، حتى تُصبحَ عبادتُه بعدَ ذلكَ بلا طَعمٍ ولا ألوانٍ.
وتأملوا لمَّا ذكرَ اللهُ تعالى آيةَ غضِّ البصرِ في سورةِ النُّورِ: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)، ذكرَ بعدَها آياتِ النُّورِ: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، (نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ)، (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)، ليَدُّلَّ على أنَّ غَضَّ البَصرِ، يُورثُ القَلبَ نُوراً وإشراقاً، كَما أن إطلاقَ البصرِ يُورثُ ظُلمةً وكآبةً.
أيُّها الأحبَّةُ .. هل تشعرونَ ماذا فعلَ النَّظرُ المُحرمُ بِنا؟، هل أحسستُم بالتَّغيُّرِ الكبيرِ في حياتِنا؟، أينَ الخشوعُ في صلاتِنا؟، أينَ اللَّذةُ في عبادتِنا؟، أينَ التَّدبرُ في تلاوتِنا؟، أينَ الدُّموعُ في خلواتِنا؟، أينَ الحلاوةُ في إيمانِنا؟، أينَ الخشيةُ في قلوبِنا؟، أينَ الذِّكرُ في ألسنتِنا؟.
وأنا الذي اجتلبَ المنيَّةَ طَرْفُهُ *** فمَن المُطالِبُ والقتيلُ القاتِلُ؟
في هذا الزَّمانِ ويوماً بعدَ يومٍ تزدادُ الحاجةُ إلى غضِّ البصرِ، بل أصبحتْ ضرورةً مُلِّحةً، في العملِ، في الأسواقِ، في الطُّرقاتِ، في المطاراتِ، في المُتنزَهاتِ، في المؤتمراتِ، في اللِّقاءاتِ، في المهرجاناتِ، في لوحاتِ الإعلاناتِ، وفي الجرائدِ والمُجلاتِ، وفي الأخبارِ والشَّاشاتِ، فأينما كُنتَ فاغضض بصرَكَ، حياءً من الرَّحيمِ الغفورُ، الذي يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصُّدورِ.
كانَ الرَّبيعُ بُنُ خُثيمٍ رَحمَه اللهُ إذا مَرَّ به نِسوةٌ، أَطرقَ حتى يتعوذَنَّ باللهِ من العَمى، وكانَ إذا طَرقَ البابَ على ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه، فَخرجتْ إليه الجاريةُ، جاءتْ إليهِ فقالتْ: صَاحبُك الأَعمى قد جَاءَ.
بل اسمعوا لهذا المثالِ العجيبِ، يقولُ ابنُ سيرينَ رحمَه اللهُ: (إني لأرى المرأةَ في مَنامي، فَأَعلمُ أنَّها لا تَحلُّ لي فأصرفَ بَصري)، وهذا من أثرِ غَضِّ البصرِ الحقيقيِّ في اليقظةِ.
اسألْ نفسكَ قبلَ أن تسألَ أحداً عن حكمِ النَّظرِ إلى النِّساءِ، وانظر أثرَه عليكَ عندما ترى الجمالَ والبهاءَ، هل شَعرتَ بتلكَ القُشعريرةِ التي تسري في جسمكَ كلِّه؟، هل أحسستَ بقلبِكَ كيفَ يقفزُ من محلِّه؟، ثمَّ يأتي من يقول لكَ أنَّ المسألةَ خلافيةٌ، بل واللهِ إنَّ المسألةَ إتلافيةٌ، تتلفُ القلبَ والدِّينَ، وصدقَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: (مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ).
إطلاقُ البصرِ سببٌ في الحَسراتِ وتعاقبِ الآهاتِ، فكم نظرةٍ كانتْ سبباً في هَدمِ جُسورِ الفضيلةِ، وغمستْ صاحبَها في مُستنقَعِ الرَّذيلةِ، حتى أصبحَ مُدمناً على النَّظرِ الحرامِ، وأمسى يُنادي: أنقذوا غريقَ الآثامِ، وصدقَ القائلُ:
أَقولُ قَولي هَذا، وأَستغفرُ اللهَ العَظيمَ الجَليلَ، لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كُلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على فَضلِه وإحسانِه، أَغنانا بحلالِه عن حَرامِه، وكَفانا بفضلِه عمن سواه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وسلمَ تَسليماً كَثيراً، أما بعدُ:
اسمعوا إلى قولِه تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، وقد يقولُ القائلُ: أليس من المفروضِ أن يكونَ السِّياقُ: كانَ عنها مسئولاً؟، والجوابُ: لا، فليسَ هو الذي يُسألُ عنها، بل هي التي تُسألُ عنه: فالسمعُ والبصرُ والفؤادُ ستُسألُ عنه، فتُسألُ الأذنُ عما سَمِعتَ، وتُسألُ العينُ عما أَبصرتَ، وتُسألُ الأفئدةُ بماذا شُغلتَ، فلا تَحرِجوا أبصارَكم يومَ القيامةِ، فإنَّها لن تكتمَ اللهَ حديثاً.
ذكرَ ابنُ الجوزي في تاريخهِ، عن عَبدةَ بنِ عبدِ الرَّحيمِ أنَّه قالَ: خَرجنا في سَريةٍ إلى أرضِ الرومِ، فصَحِبَنا شَابٌ لم يكنْ فينا أَقرأُ للقرآنِ منه، ولا أَفقهُ ولا أَفرضُ، صَائمَ النهارِ، قَائمَ الليلِ، فمَررنا بحِصنٍ فنَظرَ إلى امرأةٍ من النَّصارى تَنظرُ من وَراءِ الحُصنِ، فعشَقَها فقالَ لها بالروميةِ: كيفَ السبيلُ إليكِ؟، قالتْ: حينَ تَتَنصرُ ونَفتحُ لك البابَ وأَنا لكَ، قَالَ: ففعلَ فأُدخلَ الحِصنُ، قَالَ: فقَضينا غَزاتَنا في أَشدِّ ما يَكونُ من الغمِّ، ثم عُدنا في سَريةٍ أُخرى، فمَررنا به يَنظرُ من فَوقِ الحِصنِ مع النَّصارى، فقلنا: يا فلانُ، ما فَعلتْ قراءتُك؟، ما فَعلَ عِلمُك؟، ما فَعلتْ صَلواتُك وصِيامُك؟، قَالَ اعلموا أَني نَسيتُ القرآنَ كُلَّه، إلا قولَه تعالى: (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
فإياكَ ثُمَّ إيَّاكَ أن تُغامرَ في الشَّهاتِ، وتقولُ أنا لا تؤثرُ فيني النَّظراتُ، فهذا حافظُ القرآنِ، صائمُ النَّهارِ، قائمُ اللَّيلِ، تفعلُ به النَّظرةُ هكذا، فكيفَ بغيرِه؟.
يا رامياً بسهامِ اللّحظِ مُجتهداً *** أنتَ القتيلُ بما تَرْمي فلا تُصِبِ
وبَاعِثُ الطَّرفِ يَرْتَادُ الشِّفاءَ لَهُ *** احْبِسْ رَسُولَكَ لا يَأْتِيكَ بالعطَبِ
اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا يَا أَرحمَ الرَّاحمينَ، اللهمَّ احفظنا بالإسلامِ قَائمينَ، واحفظنا بالإسلامِ قَاعدينَ، واحفظنا بالإسلامِ رَاقدينَ، ولا تُشمتْ بنا أَعداءً ولا حَاسدينَ، اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وأذلَّ الشِّركَ والمشركينَ واحمِ حوزةَ الدين، وانصرْ عِبادَكَ المؤمنينَ في كُلِّ مَكَانٍ، يا ربَّ العَالمينَ.
المرفقات
غض-بصرك
غض-بصرك
غض-بصرك-2
غض-بصرك-2