غَضُّ البَصَرِ

أنشر تؤجر
1446/07/09 - 2025/01/09 15:16PM

الخطبة الأولى :

الحمدُ للهِ العزيزِ الغَفُور ، يَعلمُ خَائِنةَ الأعيُنِ وما تُخفِي الصُّدُورُ ، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وإليهِ النُّشورُ ، وأَشهدُ أن لا إِلهَ إِلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورسولُهُ ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلَّمَ تَسليماً كَثيراً ، أمَّا بَعدُ  :

فأُوصِيكُمْ ونَفسِي بِتقوَى اللهِ تَعالى ، فهيَ وصِيَّةُ اللهِ للأَوَّلينَ والآخِرينَ ، قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.

عبادَ اللهِ : أَنعمَ اللهُ عَليْنا بِنِعَمٍ كَثِيرةٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى ، ومِنْ هَذهِ النِّعَمِ ؛ نِعمةُ البَصَرِ .

والعينُ مِنْ أَسْرارِ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، فهِيَ معْ صِغَرِ حَجْمِها ؛ فَإنَّها تتَّسِعُ لِرؤُيةِ هذا الكَونِ الوَاسعِ .

واللهُ عز وجل حِينَ امتنَّ على عِبادهِ بِنعمَةِ الإِبصَارِ ، طَالَبَهُمْ بِالشُّكْرِ ؛ فقال تعالى :﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾النحل:78. وشُكرُ الخَالقِ يكونُ بالقلبِ واللِّسانِ على هذهِ النِّعمةِ ، وأنْ يَستعمِلَها العبدُ فيما يُرضِي اللهَ عزَّ وجلَّ  .

والبَصرُ هوَ البابُ الأكبرُ إلى القلبِ ، وأقصرُ الطُّرقِ المُوصِلةِ إليهِ ، ولذا أَمرَ اللهُ تعالى بِغضِّ البَصرِ قبلَ حفظِ الفرجِ ، فالنَّظرُ بريدُ الزِّنا ، والعينُ تزنِي وزِنَاهَا النَّظرُ ، قال تعالى :﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾الآية ، النور.

وقدْ جاءتِ السُّنةُ النَّبويةُ آمرةً بِغضِّ البَصرِ ، فهوَ أحدُ حُقوقِ الطَّريقِ ؛ والاسْتئذانُ إِنَّما شُرعَ منْ أَجلِ البَصرِ ، قالَ النبي صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ رضي الله عنه :" يَا عَلِيُّ ، ‌لَا ‌تُتْبِعِ ‌النَّظْرَةَ ‌النَّظْرَةَ ، فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ  ."رواه أبوداود وحسنه الألباني .

وعنْ جَريرِ بنِ عبداللهِ البَجَليِّ رضي الله عنه قالَ : سَألتُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظَرِ الفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرفَ بَصَرِي ". رواه مسلم .

والمَعنَى أَنَّ النَّظرَ إِلى الأَجْنبيَّةِ ، إِذَا حَصلَ دُونَ قَصدٍ فَلا إِثمَ عَليهِ ، ويَجبُ أنْ يَصرفَ بَصرَهُ في الحَالِ ، لكنَّ تِكرارَ النَّظرِ أوْ اسْتدَامَتهُ إِثمٌ وخَطِيئةٌ  .

عبادَ اللهِ : إنَّ إِطلاقَ البَصرِ في المُحرماتِ يَنبغِي عدمُ الاستخفافَ بهِ أو التَّهاونَ فيهِ ، فهوَ سِلاحُ الشيطانِ لإِغواءِ ابنِ آدمَ ، وهيَ بِذرةُ الشَّهوةِ في القلبِ ، تُسقَى بالأَمانِي ، ثُمَّ لا يَزالُ الشيطانُ يَعدُهمْ ويُمنِّيهمْ ويُقوِّي عَزائِمهمْ ؛ حتى يَقَعُوا في حَبَائِلهِ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ ‌النَّظْرَةَ ‌سَهْمٌ ‌مِنْ ‌سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ " رواه أحمد .

فمنْ أطلقَ لِبصرهِ العِنانَ وأَرخَى لهُ الزِّمامَ ، وتَركَهُ يَنظرُ إلى الحرامِ ؛ أَضرَّ بِقلبهِ أَشدَّ الضَّررِ  :

كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ ... وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ

كَمْ نَظْرَةٌ فَتَكَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا ... فَتْكَ السِّهَامِ بِلا قَوْسٍ ولا وَتَرِ

وَالْعَبْدُ مَا دَامَ ذَا طَرْفٍ يُقَلِّبُهُ ... فِي أَعْيُنِ الغِيدِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْخَطَرِ

يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ ... لَا مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ

ولَقدْ اسْتهانَ كثيرٌ مِنَ المُسلمينَ في النَّظرِ إلى النِّساءِ ، في الشَّاشاتِ والجَوالاتِ وغيرها ؛ وهذا أمرٌ يجب علينا التحذير منه والتواصي على تركه ، لأن الفتنة أصبحت شديدةً خاصةً مع وجود هذه التقنية ومواقع التواصل من السناب والتويتر والتيك توك وغيرها ؛ فبعض الناس يقلب المواقع هنا وهناك يعرض نفسه للفتن والعياذ بالله ، فالنصيحة إذا كان ولا بد من استخدام مواقع التواصل ،  فحدد من تتابعه وتستفيد منه سواءً كانت الفائدة دنيوية أو فائدة دينية وأعرض عمن سواه ، فالابتعاد عن مواطن الفتنة منهج نبوي ففي سنن أبي داود من حديثِ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ ، يُحَدِّثُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ، مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ ".

ونبينا صلى الله عليه وسلم حذرنا من فتنة النساء ؛ ففي صحيح البخاري ومسلم عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ ".

واعلموا - رحمكم الله - أَنَّ غَضَّ البَصرِ عنِ المُحرماتِ ؛ عِبادةٌ يتقرب بها العبدُ إلى ربه ، وتُوجِبُ رِضَا اللهِ تَعَالى ، وتَرْفعُ سَخَطَهُ وعَذَابَهُ يَومَ القِيامَةِ .

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على غض أبصارنا عن محارمه ، وأن يغفر لنا إنه هو الغفور الرحيم .

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية :

الحمدُ للهِ على إِحسانِهِ ، والشُّكرُ لهُ على تَوفِيقهِ وامتِنانهِ ، وأَشْهدُ أنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ وحْدهُ لا شَريكَ لهُ ، وأَشْهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورَسولُهُ ، صَلّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلهِ وصَحبهِ ، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً  ، أمَّا بعدُ  :

عبادَ اللهِ : إِنَّ لِغضِّ البَصرِ عَنِ الحَرامِ فَوائِدٌ وثَمراتٌ يَجنِيهَا العَبدُ في الدُّنيا والآخِرةِ ، مِنهَا : تَخْليصُ القَلبِ مِنْ أَلمِ الحَسرةِ ، ويُورثُ صِحَّةَ الفِرَاسةِ ، وقُوَّةَ القَلبِ وثَبَاتهِ وشَجَاعتهِ ضِدَّ الشَّيطانِ وَوَسَاوِسهِ ، ويُورِثُ القَلبَ سُرُوراً وانْشِراحاً وإِشْراقاً يَظهرُ في الوَجهِ والجَوارحِ ، أَعْظمَ منَ اللَّذةِ والسُّرورَ الحَاصلِ بِالنَّظرِ ؛ وذلكَ لِقهرهِ عَدُوهِ بِمُخالفَتهِ ومُخالفةِ نِفسهِ وهَواهُ ، وقَدْ ذَكرَ اللهُ سُبحانَهُ آيةَ النُّورِ في قَولهِ تَعَالى :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، بَعدَ آياتِ الأَمرِ بِغضِّ البَصرِ :﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾.

وَجاءَ الحَديثُ عن رسول الله عليه الصلاة والسلام مُطابقاً لهِذَا ، بقوله :" إِنَّ ‌النَّظْرَةَ ‌سَهْمٌ ‌مِنْ  سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ ، مَنْ تَرَكَهَا مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ ". رواه أحمد .

ومِنَ الأسبابِ المُعينةِ على غَضِّ البَصرِ ، اسْتِحضارُ مُراقبةِ اللهِ واطِلاعهِ عَلى عبده ، كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ ، ومن الأسباب التي تعين على غض البصر : اللُجوءُ إلى اللهِ تعالى بِالدُّعاءِ ؛ فالمؤمن يدعو الله كثيراً أن يثبته على دينه وأن يحفظ عليه بصره ، وتأملوا نبي الله يوسف عليه السلام كيف ألح على ربه أن يجنبه فتنة امرأة العزيز، ويعترف إلى ربه بضعفه ، قال تعالى :( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ( 33 ) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 34 )

ومن الأسباب التي تعين على غض البصر : تذكرُ العبدُ أن هذه اللذة ستذهب وتبقى الحسرة والندم على هذه المعصية كما قال الشاعر  :

تفنى اللذاذةُ ممن ذاق صفوتَها                 من الحرامِ ويبقى الإثمُ والعارُ

ومن الأسباب التي تعين على غض البصر : أن يتذكرَ العبدُ أن البصرَ سيسأل عنه يوم القيامة ، كما قال تعالى :( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (الإسراء : 36 )

فالواجب علينا جميعاً - يا عبادَ الله – أن نحذر من إطلاق أبصارنا وإذا وقعنا في هذه الذنوب أو غيرها ، أن نتوب إلى الله ولا نقنط من رحمته ، فالله غفور رحيم ، ونحذر من الإصرار على المعصية ؛ ففرق بين من يطلق بصره الليل والنهار والأيام تلو الأيام ويصر على معصيته ، وآخر يحفظ بصره ولكن وقع في نظرة محرمة فتاب وندم ؛ فالثاني من المتقين الذين قال الله عز وجل عنهم وهو يعدد صفاتهم :( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (آل عمران : 135 )

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر ذنوبنا ، وأن يطهرَ قلوبنا ، وأن يحصن فروجنا  .

اللَّهمَ إِنَّا نَسأَلُكَ فِعلَ الخَيراتِ وتَركَ المُنكراتِ وحُبَّ المَساكينِ ، وأَنْ تَغفرَ لنَا وتَرْحَمنَا ، وإِذَا أَرَدتَ بِعبادِكَ فِتنةً ، فَاقْبِضَنا إِليكَ غَيرَ مَفْتُونِينَ  .

هَذا وصَلُّوا وسَلِّمُوا على منْ أَمركُمْ اللهُ بالصَّلاةِ والسَّلامِ عَليهِ ، فقال تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ الأحزاب :156.

اللهم صَلِّ وسَلِّمْ على عَبدِكَ ورَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وعلى آلهِ وصَحبِهِ أَجمَعِينَ .

 

المرفقات

1736424975_غَضُّ البَصَرِ.docx

المشاهدات 498 | التعليقات 0