غزوة مؤتة 1442/10/9هـ
عبد الله بن علي الطريف
غزوة مؤتة 1442/10/9هـ
أما بعد أيها الإخوة: بعد أن أبرمَ رسولُ اللهِ ﷺ صلحَ الحديبةِ مع قريشٍ بدأَ بإرسالِ الرسلِ إلى ملوكِ الدولِ الكبرى ذلك الوقت، والدويلاتِ العربيةِ النصرانيةِ المواليةِ للرومِ شمالَ الجزيرة ورؤساء العشائر يدعوهم للإسلام، ففي إخضاع الدويلات العربية النصرانية الموالية للروم للدولة الإسلامية توسيع لرقعة الدولة الإسلامية، وسبق للروم في التحرك في المنطقة قبل قيامهم بعمل ضد الدولة الإسلامية الفتية..
وَلَمَا رَجَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةَ مِنْ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي ذِي الْحِجَّةِ أَقَامَ حتى جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ ثُمَ بَعَثَ ﷺ بَعْثَهُ إلَى مُؤْتَةَ (وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ مِنْ الشّامِ) وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وعقد لهم لواءً أبيضَ وَقَالَ: إنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى النّاسِ فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ، فَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ.
فَتَجَهّزَ النّاسُ ثُمّ تَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَهوَ أكبرُ جيش إِسْلاميٍ لم يجتمعْ من ذيِ قبل إلا ما كان من غزوةِ الأحزابِ، فَلَمّا حَضَرَ خُرُوجُهُمْ وَدّعَ الْمُسْلِمُونَ أُمَرَاءَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَسَلّمُوا عَلَيْهِمْ وَكَانَ مِنْ دُعَائِهم: صَحِبَكُمُ اللهُ وَرَدَّكُمْ إِلَيْنَا صَالِحِينَ، وَدَفَعَ عَنْكُمْ.. وَكَانَ ﷺ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ: «اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَلَا امْرَأَةً وَلَا شَيْخًا كَبِيرًا وَلَا فَانِياً وَلَا مُنْعَزِلاً بِصَومَعَةٍ، وَلَا تَقْطَعُوا نَخْلاً وَلَا شَجَرةً وَلَا تَهْدِمُوا بِنَاءً..
ثُمّ مَضَوْا حَتّى نَزَلُوا مَعَانَ، مِنْ أَرْضِ الشّامِ، فَبَلَغَهُم أَنّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ، مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنْ الرّومِ، وَانْضَمّ إلَيْهِمْ مِنْ قبائلِ العربِ مِائَةُ أَلْفٍ فَأَقَامُوا عَلَى مَعَانَ لَيْلَتَيْنِ يُفَكّرُونَ فِي أَمْرِهِمْ وَقَالُوا: نَكْتُبُ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَنُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُوّنَا، فَإِمّا أَنْ يَمُدّنَا بِالرّجَالِ وَإِمّا أَنْ يَأْمُرَنَا بِأَمْرِهِ فَنَمْضِي لَهُ. فَشَجّعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ النّاسَ، وَقَالَ: يَا قَوْمِ وَاَللهِ إنّ الّتِي تَكْرَهُونَ لَلّتِي خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ الشّهَادَةَ وَمَا نُقَاتِلُ النّاسَ بِعَدَدِ وَلَا قُوّةٍ وَلَا كَثْرَةٍ مَا نُقَاتِلُهُمْ إلّا بِهَذَا الدّينِ الّذِي أَكْرَمَنَا اللهُ بِهِ فَانْطَلِقُوا فَإِنّمَا هِيَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إمّا ظُهُورٌ وَإِمّا شَهَادَةٌ؛ فَقَالَ النّاسُ قَدْ صَدَقَ وَاَللهِ ابْنُ رَوَاحَةَ؛ فَمَضَى النّاسُ.. حَتّى اقْتَرَبَتْ جُمُوعُ هِرَقْلَ مِنْ الرّومِ وَالْعَرَبِ، بِقَرْيَةِ مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ، ثُمّ دَنَا الْعَدُوّ، وَانْحَازَ الْمُسْلِمُونَ إلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا مُؤْتَةُ، ثُمّ الْتَقَى النّاسُ وَاقْتَتَلُوا، فَقَاتَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِرَايَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتّى شَاطَ فِي رِمَاحِ الْقَوْمِ.
ثُمّ أَخَذَ اللّوَاءَ جَعْفَرٌ فَقَاتَلَ بِهِ حَتّى إذَا أَلْحَمَهُ الْقِتَالُ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ، فَعَقَرَهَا ثُمّ قَاتَلَ الْقَوْمَ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا حَبّذَا الْجَنّةُ وَاقْـــــتِرَابُهَا ... طَيّـبَةٌ وَبَارِدٌ شَــــــــــــرَابُهَا
وَالرّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا ... كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا
عَلَيّ إنْ لَاقَيْتهَا ضِرَابُهَا
وكان يحمل اللّوَاءَ بِيَمِينِهِ فَقُطِعَتْ فَأَخَذَهُ بِشِمَالِهِ فَقُطِعَتْ فَاحْتَضَنَهُ بِعَضُدَيْهِ حَتّى قُتِلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَأَثَابَهُ اللهُ بِذَلِكَ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنّةِ يَطِيرُ بِهِمَا حَيْثُ شَاءَ.. وَيُقَالُ إنّ رَجُلًا مِنْ الرّومِ ضَرَبَهُ يَوْمَئِذٍ ضَرْبَةً فَقَطعه نِصْفَيْنِ..
فَلَمّا قُتِلَ جَعْفَرٌ أَخَذَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ الرّايَةَ ثُمّ تَقَدّمَ بِهَا، وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ فَجَعَلَ يَسْتَنْزِلُ نَفْسَهُ وَيَتَرَدّدُ بَعْضَ التّرَدّدِ ثُمّ قَالَ:
يَا نَفْسُ إلّا تُقْتَلِي تَمُوتِي ... هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيَتْ
وَمَا تَمَنّيْت فَقَدْ أُعْطِيَتْ ... إنْ تَفْعَلِي فِعْلَـــــــــــهُمَا هُدِيَتْ
يُرِيدُ صَاحِبَيْهِ زَيْدًا وَجَعْفَرًا ثُمّ نَزَلَ. فَلَمّا نَزَلَ أَتَاهُ ابْنُ عَمّ لَهُ بِعَظْمٍ مِنْ لَحْمٍ فَقَالَ: شُدَّ بِهَذَا صُلْبَك، فَإِنّك قَدْ لَقِيت فِي أَيّامِك هَذِهِ مَا لَقِيت، فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ ثُمّ انْتَهَسَ مِنْهُ نَهْسَةً ثُمّ سَمِعَ الْحَطْمَةَ فِي نَاحِيَةِ النّاسِ فَقَالَ: وَأَنْتَ فِي الدّنْيَا ثُمّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ ثُمّ أَخَذَ سَيْفَهُ فَتَقَدّمَ فَقَاتَلَ حَتّى قتل.. واستشهدَ الأمراءُ الثلاثةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم جميعاً وارْتَبكَ الناسُ واختَلَطُوا فتَقَدمَ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ أَخُو بَنِي الْعَجْلَانِ فَأَخَذَ الرّايَةَ ثُمّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ قَالُوا: أَنْتَ قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلِ. فَاصْطَلَحَ النّاسُ عَلَى تَأَمِيرِ الشَهْمِ البَاسِلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَخَذَ الرّايَةَ وَبِتَوفِيقِ اللهِ ثُمَ هِمَّتَهُ ومَهَارَتِهِ الحَربِيةِ حَمَى اللهُ هَذَا الجَيشَ مِنْ الضَيِاعِ إِذ مَا تَفْعَلُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ بِمِائتَي أَلفٍ.. وَقاتلَ يومَهُ ذلكَ قِتالاً شديداً. ودخَلَ الليلُ على المتَحاربِينَ، فكانَ هُدْنَةً مُؤقَتةً، فلَمَا طَلعَ الصُبحُ كانَ خالدٌ قَدْ أَعادَ تَنظِيمَ قُواتِهِ القلِيلةِ، وخالفَ ترتيبَ العسكرِ، فجعلَ المقدمَةَ ساقةً، والميمنةَ مَيسرةً، فظنَ الرومُ أنَّ المددَ جاءَ للمسلمين فرُعِبوا.
وجعلَ هدفَه مناوشةَ الرومانِ بحيثُ يُلحِقُ بِهم أفدحَ الخسائر، دون أنْ يُعرِّضَ كُتلَةَ الجيشِ لالتحامٍ عامٍ، وقد أَفْلحتْ هذه الخُطة في إنقاذِ الآلافِ القليلةِ التي معه، وإنقاذِ سُمعةِ المسلمينَ في أولِ معركةٍ لهم مع الدولةِ الكبرى.
ثم بدأَ خالدٌ يرجعُ بالجيشِ إلى الوراءِ حتى انحازَ إلى مؤتَةَ، ثم مكثَ يناوشُ الأعداءَ سبعةَ أيامٍ، ثم تحاجزَ الفريقان لأن الكُفَّارَ ظنوا أنَّ الأَمْدَادَ تتوالى للمسلمين، وخافُوا أن يجروهم إلى وسطِ الصحاريِ حيثُ لا يمكنُهم التخلُّصَ، وبذلك انقطع القتال.
والعجيبُ أنّ الرومانَ أعياهُم هذا القتال، وأصيبوا فيه بخسائرَ كبيرة؛ بل إنّ بعض فرقهم انكشف، وولّى مهزوما.. واكتفى خالدٌ بهذه النتيجة، وَانْصَرَفَ بِالنّاسِ. فرضي الله عنهم وأرضاهم وألحقنا بهم في جنات النعيم... وصلى الله وسلم..
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: وَلَمّا أُصِيبَ الْقَوْمُ نَقلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الحدثَ قَبلَ أَنْ يأتِيَ الخَبَرَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ» وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ: «ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ» وفي رواية: «حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» رواه البخاري وَفِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ فِيهِمْ فِي تِلْكَ الغَزْوَةِ، فَالْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَوَجَدْنَاهُ فِي القَتْلَى، فَعَدَدْتُ بِهِ خَمْسِينَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ لَيْسَ مِنْهَا شَيْء في دُبُرِهِ - يَعْنِي: في ظَهْرِهِ
وبعد أحبتي: معركةٌ عجيبةٌ غريبةٌ في دنيا الواقعِ، تشاهدُها الدنيا بالدهشةِ والحيرةِ، حيثُ يقفُ ثلاثةُ آلافِ مسلمٍ أمامَ مائتي ألفٍ من الرومِ وأحلافِهم..
معادلةٌ تستغربُها موازينُ البشرِ وتعجزُ عن إدراكِها العقولُ. ولكن لا عجبَ فإذا كان اللهُ عز شأنه مالكُ الملك ورب الأرباب مع المسلمين فمن يهزمهم.؟ وممن يخافون والناصرُ هو الله.؟ القائل: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160] حريٌ بالأمةِ أنْ تُرضِعَ هذه الحقيقةَ لأبنائِها معَ اللبَاءِ..