غدرُ الأفاعيِّ بالنبيِّ 1442/10/9هـ
يوسف العوض
الخطبة الأولى :
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : قالَ اللهُ تعالى : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُم لاَ يُؤمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدتَ مِنهُم ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهدَهُم فِي كُلِّ مَرَّةٍ, وَهُم لاَ يَتَّقُونَ } .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : الْمُتَأَمِّلَ لِتَارِيخِ الْيَهُودِ ، والمتتبعَ لِلْأَحْدَاثِ التَّارِيخِيَّةِ ، يَجِدُ أنَّ الْغَدْرَ مِنْ أَبْرَزِ الصِّفَاتِ الَّتِي اتَّصَفَت بِهَا الْأُمَّةُ الْيَهُودِيَّةُ ، فَقَد اِشْتَهَرُوا بِالْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ لِكُلِّ مِنْ يُخَالِفُهُم ، وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ قَد بيَّن لَنَا حَقِيقَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَسَرَدَ لَنَا الْأَحْدَاثَ الَّتِي تُبَيِّنُ تجذُّرَ هَذِهِ الصِّفَةِ الْقَبِيحَةِ فِيهِم ، وَقَد سَجَّلَ التَّارِيخُ طَرَفًا مِنْ غَدرِ الْيَهُودِ عَبْرَ تَارِيخِهِم الْمُظْلِم الْمَلِيء بالصفحاتِ السَّوْدَاءِ ، مُنْذ فَجْرِ الْإِسْلَامِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَمِنْ تِلْكَ الْمَوَاقِفِ المخزيةِ مايلي .. فبَعْدَمَا أُبرمتْ وَثِيقَةٌ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْيَهُودِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ، وتقوَّتْ دَوْلَةُ الْإِسْلَامِ وتجذَّرتْ ، بَدَأ الْيَهُودُ يتحيَّنون الفُرَصَ للغدرِ بِالْمُسْلِمِين ، فَكَان أوَّلُ مِنْ غَدَرَ مِنْهُمْ بَنُو قَيْنُقَاعَ عِنْدَمَا اعْتَدَوْا عَلَى حِجَابِ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ فِي سُوقِهِمْ وكَشَفُوا عَن عَوْرَتِهَا ، وَعِنْدَهَا حَاصَرَهُم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَيْشٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَجْلَاهُم عَنْ الْمَدِينَةِ ، وَأَبْعَدَهُم إلَى بِلَادِ الشَّامِ جَزْاءَ غَدْرِهِم وخيانتِهم لِلْعَهْد .
ثُمّ تلاهم فِي الْغَدْرِ بَنُو النّضِيرِ ، عِنْدَمَا دَبَّرُوا مُؤَامَرَةً لاغتيالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي دُورِهِمْ ، يُكَلِّمُهُم وَيَتَحَدَّثُ إلَيْهِم ، فدبَّروا خُطِّةً لِإِلْقَاءِ صَخْرَةٍ عَلَيْهِ مِنْ أَعْلَى السَّطْحِ ، فَكَشَفَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُمْ ، فَحَاصَرَهُم بِجَيْشٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، حَتَّى تَمَّ إجلاؤهم إلَى بِلَادِ الشَّامِ كَذَلِك .
وأخيرًا كَان الْغَدْرُ الْأَكْبَرُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ ، حَيْثُ تَجْمَّعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَائِرُ طَوَائِفِ الشِّرْكِ مَنْ الْقَبَائِلِ الْعَرَبِيّةِ ، فَلَمَّا رَأَى الْيَهُودُ الضِّيقَ وَالْحَرَجَ قَد استبدَّ بِالْمُسْلِمِين اهتبلوها فُرْصَةً ، وأعلنوا نَقْضَ الْعَهْدِ وَالاِلْتِحَامَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ ، وَكَشَفَ اللَُّهُ مَكْرَهُم ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ انْهَزَمَ الْأَحْزَابُ تَفَرَّغَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيَّ وَسَلَّم وَأَدَّبَ بِهِمْ مِنْ خَلْفَهُمْ ، وَكَانَت نِهَايَتُهُم أَنْ قَتْلَ مُقَاتِلَتَهُم وَسَبَي ذَرَارِيَّهُمْ وَأَمْوَالَهُم .
الخطبة الثانية :
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : يَقُولُ اللهُ تَعَالَى واصفاً اليهودَ:(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) وهذا مَا حَصلَ تَماماً مَع نبيِّنا، فلَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ خَبِير أَهْدَتْ لَهُ امْرَأَةٌ يَهُودِيَّةٌ شَاةً وَجَعَلَت فِيهَا سُمًّا ؛ فقال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ : اجمعوا لِي مِنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ يَهُودٍ فَجَمَعُوا لَهُ ، فقال : إني سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ ، فهل أَنْتُم صادقيَّ عَنْهُ فَقَالُوا : نعم ، قال لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ : من أَبُوكُم ؟ قالوا : فلانٌ فَقَال : كَذَبْتُم ، بل أَبُوكُمْ فُلانٌ ! قَالُوا : صدقتْ . قال : فهل أَنْتُم صادقيَّ عَنْ شَيْءٍ إنْ سَأَلْت عَنْهُ ؟ فقالوا : نعم يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا ، فقال لَهُم : من أَهْلُ النَّارِ قَالُوا : نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ، ثُمّ تَخلفونا فِيهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ اخْسَئُوا فِيهَا ، وَاَللَّهِ لَا نخلفُكُم فِيهَا أَبَدًا ، ثُمَّ قَال : هل أَنْتُم صادقيَّ عَنْ شَيْءٍ إنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْه ؟ ، فقالوا : نعم يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، قال : هل جَعَلْتُم فِي هَذِهِ سُمَّا ، قالوا : نعم ، قال : ما حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ ، قالوا : إن كُنْت كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ وَإِنْ كُنْت نَبِيًّا لَمْ يَضُرّكَ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : اليهودُ تعرِفُ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن كُتُبِهم، فكلامُهم هذا كَذِبٌ وما حَمَلهم على ذلك إلَّا الحَسَدُ والبَغْيُ ، فأَمَرَ بالمرأةِ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقُتِلَتْ بِبِشْرِ بن مَعْرُورٍ وأسْلَمَها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأَوْلِيَائِهِ فقَتَلُوها قِصَاصًا ، لأنَّه لا يَنْتَقِمُ لنفْسِه صلَّى الله عليه وسلَّم ثم قال صلَّى الله عليه وسلَّم في وَجَعِه الذي ماتَ فيه : (ما زِلْتُ أجِدُ مِن الأَكْلَةِ الَّتي أَكَلْتُ بخَيْبَرَ، فهذَا أوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي) "الأبْهَر" عِرْقٌ به الحَيَاةُ تَتَشَعَّبُ منه سائِرُ الشَّرَايينِ فإذا انقَطَع ماتَ صاحِبُه ، وقد كان صلَّى الله عليه وسلَّم يجِدُ أثَرَ هذا السُّمِّ بين الحِينِ والحِينِ، حتى جاء مَوْتُه، فجَمَع اللهُ تعالى له بين النُّبُوَّةِ ومَقَامِ الشَّهَادَةِ؛ فمَات نبيًّا شَهيدًا صلَّى الله عليه وسلَّم .