عواقب الذنوب الدنيوية (4) الربا

محمد بن إبراهيم النعيم
1440/06/30 - 2019/03/07 20:34PM

أيها الإخوة الأكارم

 لقد ذُكر لنا في كتاب ربنا وسنة نبينا  ، العديد من الذنوب التي يعاقب أصحابها في الدنيا؛ كي يبادر العبد للتوبة النصوح منها إذا وقع فيها.

ولقد عرضت لكم في خطب سابقة بعض المعاصي التي ذكرها النبي  بأن عقوبتها ستكون في الدنيا، والهدف من ذلك أن نعلم أن ما يصيبنا من مصائب ومحن في الدنيا ليس محض صدفة وإنما يرجع إلى امتحان وبلاء من الله لنا ليرفع درجاتنا، أو عقوبة لذنوب ارتكبناها لعلنا نتوب منها، قال في الحديث الذي رواه الترمذي (لا يُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إِلاَّ بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ) قَالَ وَقَرَأَ ]وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [ [الشورى30].

 فمن المعاصي الأخرى التي لها عواقب وخيمة في الدنيا ويجب الحذر منها: أكل الربا والعياذ بالله.

لقد اعتبر الإسلام الربا من أكبر الجرائم الاجتماعية والدينية، وشَنَّ عليه حربًا لا هَوَادَةَ فيها، وتوعد الله جل جلاله المتعاملين بالربا بالخسران في الدنيا كعقوبة معجلة، وبالعذاب الأليم في البرزخ ويوم القيامة إن لم يقلعوا عنه.

أما عن العقوبة المعجلة للمرابي فقد روى عبد الله بن مسعود  أن النبي  قال: «مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنَ الرِّبَا، إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ» رواه ابن ماجه، أي عقوبته في الدنيا أن تمحق أمواله، وجاء عنه  في رواية أخرى أن النبي  قال: «الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ، فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلٍّ» رواه الحاكم، أي أنه وإن كان زيادة في المال عاجلا؛ يؤول إلى نقص ومحق آجلا بما يُفتح على المرابي من المغارم والمهالك ثم يصبح هباء منثورا لقوله تعالى ]يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ[.

جاء عن ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- أن عَبْد الرَّزَّاق روى عَنْ مَعْمَر قَالَ : سَمِعْنَا أَنَّهُ لا يَأْتِي عَلَى صَاحِب الرِّبَا أَرْبَعُونَ سَنَةً حَتَّى يُمْحَقَ.

فانظروا إلى كثير من أهل المال والثراء كيف تهاووا جراء الأزمة المالية التي عصفت بكثير من الدول، فتلاشت أموالهم، وحُجر على بعضهم، بل أفلست بنوك عالمية كانت تمول دولا، إنه عاقبة الربا، والقروض الربوية. ]يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ[؛ لهذا قد ينتعش اقتصاد يقوم على الربا ولكنه انتعاش يحمل في طياته الهلاك والخسران وإن طال الزمن.

وإذا انتشر الربا في بلد ولم يتبِ الناسُ منه فهو علامة شر ودنو عذاب مقدر يعم المجتمع، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي r قال: (إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ، فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ) رواه الطبراني والحاكم، فانتشارهُ سببٌ لنزول عذابِ الله وسببٌ للعقوبات العاجلة في الدنيا قبل الآخرة، قال ابن مسعود: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله عز وجل بخرابها" رواه أبو يعلى.

ومن صور العذاب: محق البركة وحرمان التوفيق وفقدان السعادة وكثرة البلايا وفساد الاقتصاد وخراب البيوت.

لقد أخبر النبي  بأن الرِّبا أشدُ مِنَ الزِّنا، مما يدل على عظم بشاعته عند الله عز وجل، بينما يرى الناس عكس ذلك فقد روى عبد الله بن حنظلة  أن النبي  قال: : (دِرْهَمُ رِبا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وهو يَعْلَمُ أَشَدُّ عِنْدَ اللهِ مِنْ سِتَّةٍ وثَلاثينَ زَنْيَةً) رواه أحمد والطبراني، فإذا كانَ الدِّرْهمُ الواحدُ مِنَ الرِّبا أشدُ مِنْ جريمةِ الزِّنا وليس مرةً واحدةً بل ستا وثلاثين مرة، فماذا عن الذين يرابون بملايين الريالات؟

ولذلك فإن الوحيد الذي يبعث يوم القيامة من قبره كالمجنون أو المصروع آكل الربا قال الله تعالى] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ[

وأصحابُ الرِّبا كلُّهم مُهدَّدُونَ باللَّعنِ وهو الطرد من رحمة الله، يشترك في ذلك كل من له علاقة بالربا؛ شهادة أو كتابة أو أخذا أو إعطاء، فعَنْ جَابِرٍ  قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: (هُمْ سَوَاءٌ) رواه مسلم. وهذا الحديثُ حُجَّةٌ على كلِّ مَنْ ساعدَ أو شارك على أكلِ الرِّبا، فالرسولُ جعلَ اللَّعنَ على الجميعِ، وقال: (هُمْ سَواءٌ).

وانتشار الربا في اقتصاديات العالم اليوم هو من علامات الساعة حيث روى عبد الله بن مسعود  أن النبي قال: (بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ يَظْهَرُ الرِّبا والزِّنا والخَمْرُ) رواه الطبراني. ومعنى يظهر أي يفشو وينتشر.

فلنحذر كل الحذر من التعامل بأي نوع من أنواع الربا، فالربا له صور عديدة ومتنوعة حيث روى البراء بن عازب أن النبي قال: ( الربا اثنان وسبعون بابا، أدناها – أي أقلها إثما- مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) رواه الطبراني.

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عن سواك، اللهم إنا نسألك الهدى والتقوى والعفاف والغنى.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده عز وجل وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا. 

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى واحذروا مخالفة أمره، واعلموا أن عاقبة أكل الربا هي محق المال ولو بعد حين، فطهروا أموالكم من الربا ولا تودعوها في بنوك تتعامل بالربا فإن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، وقد أوجب الله علينا التعاون على البر والتقوى وحرم علينا التعاون على الإثم والعدوان.  

وإن دعاة الربا والمتعاملون بالربا يبررون قبيح أعمالهم بأن الربا إنما يحرُمُ في الأمور الاستهلاكية، وأما الأمور الإنتاجية فلا مانع من ذلك، كل هذا من الخطأ، فالربا محرم قليله وكثيره، فلا ينبغي الالتفات إلى هذه التصنيفات التي يظهر فيها التحايل.

 وقد يقول آخر: إني مضطر للقرض بربا كي أكمل عمارتي أو أوسع تجارتي، ولم أجد أحد يقرضني، وأن الضرورات تبيح المحظورات، فاعلموا أن ذلك ليس من الضرورة التي تبيح المحرمات. فاجتنبوا الحرام، واحذروا الآثام ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب.

فالربا كما سمعنا أحد المعاصي العظيمة التي لها عواقب في الدنيا فلنحذرها ولنقلع عنها لئلا نصاب بها. وقد قال : (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ)، والموبقاتُ أي: المُهلِكات، أي: أنَّ الرِّبا يُؤَدِّي بصاحبِه إلى الهلاكِ في الدُّنيا والآخِرة.

أيها الأخوة الحضور، هناك أنواع أخرى من الذنوب والمعاصي لها عواقب في الدنيا على الفرد والمجتمع أرجئ الحديث عنها في خطب قادمة إن شاء الله، جعلني وإياكم الذين يستمعون القول بيتبعون أحسنه.

اللهم وفقنا للطيبات، وجنبنا الربا والمحرمات، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأفعال والأقوال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر،اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداء الدين.... اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته...، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

 17/7/1430هـ

المشاهدات 1652 | التعليقات 0