عواقب الذنوب الدنيوية (3) ظاهرة التسول

محمد بن إبراهيم النعيم
1440/06/30 - 2019/03/07 18:31PM

أيها الإخوة الأكارم

 لقد ذُكر لنا في كتاب ربنا وسنة نبينا   العديد من الذنوب التي يعاقب أصحابها في الدنيا، كي ينتبه العبد من زلته ويستيقظ من غفلته. ولقد عرضت لكم في خطب سابقة بعض المعاصي التي ذكرها النبي r بأن عقوبتها ستكون في الدنيا، والهدف من ذلك أن نعلم أن ما يصيبنا من مصائب في الدنيا ليست محض صدفة، وإنما يرجع إلى امتحان وبلاء من الله لنا؛ ليرفع درجاتنا، أو عقوبة لذنوب ارتكبناها لعلنا نتوب منها، قال تعالى ]وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ[ [الشورى30]، ولهذا قال علي بن أبي طالب t: ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة.  

 فمن المعاصي الأخرى التي لها عواقب في الدنيا ويجب الحذر منها: سؤال الناس تكثرا وعند المرء ما يغنيه. فما عاقبة من فعل ذلك في الدنيا؟ وما عاقبته في الآخرة؟ ومتى تجوز المسالة؟ وما موقفنا من ظاهرة التسول؟ هذا ما أود عرضه باختصار على حضراتكم.

لقد حذر النبي  من سؤال الناس أموالهم من غير حاجة ماسة، وهُدد بالافتقار في الدنيا كل من سأل الناس تكثرا وعنده ما يغنيه،  فقد روى أبو هريرةأن النبي  قال: (وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلاَّ زَادَهُ الله تَعَالَى بِهَا قِلَّةً) رواه البيهقي، قال المناوي رحمه الله تعالى: (وما فتح رجل باب مسألة) أي طلب من الناس يريد بها كثرة في معاشه (إلا زاده الله تعالى بها قلة) بأن يمحق البركة منه ويحوجه حقيقة اهـ.

  وروى عبد الرحمن بن عوف  أن النبي قال: (ثلاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ مالٌ قَطُّ مِنْ صَدَقَةٍ فَتَصَدَّقُوا وَلَا عَفا رَجُلٌ عَن مَظْلِمَة ظُلِمَها إلاّ زَادَهُ الله تَعَالَى بِها عزًّا فاعْفُوا يَزِدْكُمْ الله عِزًّا وَلَا فَتَحَ رَجُلٌ على نَفْسِهِ بابَ مَسألَةٍ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلَّا فَتَحَ الله عَلَيْهِ بابَ فَقْرٍ) رواه ابن أبي الدنيا.

فهذه عاقبة من سأل الناس أموالهم وعنده ما يغنيه أن يفقره في الدنيا ولا يبارك في رزقه.

أما عاقبة سؤال الناس تكثرا يوم القيامة؛ فهي أنه لن يكون في وجهه مزعة لحم، وبعضهم سيكون في وجهه خدوش كعلامة تميزه بذنبه أمام الخلائق، فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي  قال: (لا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ تعالى وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ) متفق عليه. أما عقابه بعد الحساب فهو أكل الجمر، فقد روى أبو هريرة  أن النبي  قال: «مَنْ سَألَ النَّاسَ تَكَثُّراً فإنَّمَا يَسْألُ جَمْراً؛ فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» رواه مسلم.

لقد طلب رسول الله  أن يبايعه بعض أصحابه على عدم سؤال الناس شيئا، حيث روى عوف بن مالك الأشجعي  قال: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: «أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟» وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟» فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟» قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: «عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطِيعُوا - وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً - وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا» فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ. رواه مسلم.

متى تجوز المسألة؟

ينبغي للمسلم أن يتعفف ويستغني عن سؤال الناس؛ لأن المسألة في الأصل حرام، وإنما أبيحَت للحاجة والضرورة، ولا يحل سؤال الناس أموالهم إلا في ثلاث حالات جاءت في حديث رواه قبيصة بن المخارق أن النبي قال له: " يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ رَجُلٍ، تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ - وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ - فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا " رواه مسلم.

 ومعنى تحمّل حمالة هو الرجل الغني الذي يحاول أن يصلح بين قوم تشاجروا في الدماء والأموال فيتوسط بينهم ويضمن لهم ما يرضيهم من دية أو غرامة، فهذا الرجل يجوز له أن يسأل الناس كي يسدد ما ضمنه؛ لأنه فاعل خير.

وروى سمرة بن جندب  أن النبي قال: «الْمَسَائِلُ كُدُوحٌ يَكْدَحُ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، فَمَنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَى وَجْهِهِ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ ذَا سُلْطَانٍ، أَوْ فِي أَمْرٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا» رواه أحمد وأبو داود.   

والتسول ظاهرة لا يخلو أي مجتمع منها، بل أصبح التسول شبكات وشركات شبه منظمة، وتكثر في المواسم، وللتسول صور عديدة، منها التسول في المساجد وعند إشارات المرور، وفي الأسواق، يستخدمون أساليب في استعطاف الناس من ارتداء ملابس بالية أو حمل الأطفال، وإنّ هذا النوع من التسول قد يدفع الأطفال إلى التسرب من المدرسة ويعرضهم إلى مظاهر الاستغلال، بل إلى مخاطر الانحراف والإجرام، خصوصا إذا كان المتسول فتاة أو امرأة.

ونوع آخر من التسول الآثم يظهر في بعض الفقراء الذين اعتادوا أخذ الزكاة كل سنة في رمضان من بعض الأغنياء، وترى بعضهم يتحسن وضعه المادي، ولكنه يستمر في أخذ الزكاة.

ونوع ثالث من التسول الآثم يظهر في بعض الناس الذين يتقدمون إلى الجمعيات الخيرية فيسألون المساعدة وعندهم ما يغنيهم.

فكل أمثال هؤلاء مساكين لأنهم يدعون على أنفسهم بالفقر وعدم البركة في أرزاقهم ويفتحون لأنفسهم باب فقر عقوبة لجرمهم.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقوى والعفاف والغنى.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده عز وجل وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى واحذروا مخالفة أمره، واعلموا أن التسول ظاهرة سلبية في المجتمع اتخذها البعض مهنة، شَبُّوا وشابوا عليها ورَبَّوْا أولادَهم ومن تحت أيديهم على ذلك حتى صارت تلك عادتهم التي لا يستطيعون الخلاص منها.

وقد يقول قائل: تكاليف المعيشة قد زادت ولا يلام من اضطر إلى التسول؟ أقول: نحن ننادي الضمير الحي في المسلم؛ لأننا نخاف عليه العقوبة في الدنيا والآخرة طالما أن لديه ما يغنيه، وواجبنا تجاه المتسولين يتلخص في عدة أمور:

أولا: يجب أن لا نسيء الظن في كل متسول، وندعي أنه كاذب، فقد يكون صادقا في دعواه ووقعت عليه مصيبة اضطرته إلى السؤال.

ثانيا: أن لا ننهر أي سائل امتثالا لأمر الله عز وجل حيث قال: }وأما السائل فلا تنهر{، فإما أن تعطيه أو تتركه، ويمكن أن تبحث في أمره لترى صدقه من كذبه.

ثالثا: لو أعطيت السائل مالا وتبين كذبه؛ فلك أجرك كاملا إن شاء الله.

رابعا: أن تتحرى في صدقتك وزكاتك ولا تعطها كل سائل؛ لكثرة المتسولين الكاذبين، وكما يقال: (الكاذب خرَّب على الصادق).

أيها الأخوة في الله

 إننا إذ نحارب ظاهرة التسول شفقة بنا على هؤلاء المتسولين من العقوبة في الدنيا والآخرة، فعقوبتهم في الدنيا كما أسلفنا هو ملازمة الفقر لهم وعدم البركة في رزقهم. فلنحذر هؤلاء من هذا الأمر لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي  قال: " مَنْ فَتْحَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ مِنْ غَيْرِ فَاقَةٍ نَزَلَتْ بِهِ , أَوْ عِيَالٍ لَا يُطِيقُهُمْ , فَتْحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَاقَةٍ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ " رواه البيهقي.

هذه بعض المعاصي التي لها عواقب في الدنيا فلنحذرها ولنقلع عنها.

 أسال الله تعالى أن يعصمنا منها وللحديث بقية إن شاء الله.

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر،اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداء الدين.... اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته...، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

 4/7/1430هـ

المشاهدات 1185 | التعليقات 0