عواقب الأمور ودلالاتها

د. سلطان بن حباب الجعيد
1446/06/17 - 2024/12/19 22:14PM

 


الحمدُ للهِ القويِّ العزيزِ، جعلَ النصرَ والتمكينَ لعبادِهِ المؤمنين، والذلَّ والهوانَ للظالمينَ المستكبرينَ.

والصلاةُ والسلامُ على مَن أيده اللهُ بنصرِه، وجعلَ الصَّغارَ لِمَن خالفَ أمرَه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أيُّها المؤمنونَ، أوصيكم بتقوى اللهِ، فهي النَّجاةُ من مَقْتِه وعذابِه، في الدُّنيا والآخرة.

أمَّا بعدُ:

أيُّها الإخوةُ الفضلاءُ، مَن فَقَدَ معاييرَ ودلائلَ معرفةِ الحقِّ من الباطلِ، كان فريسةً ولابدَّ لكلِّ دعوةٍ باطلةٍ. ومعاييرُ التمييزِ بين الحقِّ وأهلِه والباطلِ وأهلِه كثيرةٌ، ومن أهمِّها وأعظمِها أثرًا، ما أرشدَ القرآنُ إليه، ونوَّهَ به، ودعا إلى إعمالِه والأخذِ به.

ومن تلكمُ المعاييرِ والدلائلِ التي أرشدَ إليها القرآنُ، في التفريقِ بين أهلِ الحقِّ والباطلِ؛ النظرُ في عواقبِ كلٍّ منهما.

فإنَّ العاقبةَ السيئةَ دليلٌ على سوءِ سبيلِ أصحابِها، وعملِهم.

والعاقبةُ الحسنةُ دليلٌ على حُسنِ سبيلِ أصحابِها، وعملِهم.

وإنَّكَ لتعجبُ من كثرةِ لفتِ القرآنِ أنظارَ المؤمنينَ إلى النظرِ لعواقبِ الأمورِ، ولا يكونُ هذا إلَّا لدليلٍ ومعيارٍ في غايةِ الدِّقَّةِ والأهميةِ، وينبغي أن نوليَه من العنايةِ مثلَ ما أولاهُ القرآنُ.

وقد نوَّعَ القرآنُ الأساليبَ في الإرشادِ إلى هذا المعيارِ والدليلِ.

ومنها: أنَّه قَصَّ علينا، ما أنزلَ اللهُ بالكافرينَ، والمكذِّبينَ، والفاسدينَ، والظالمينَ، من النكالِ والعذابِ، وكيف انتقمَ منهم ودمَّرَهم؟! وانتصرَ بذلك للحقِّ وأهلِه من المستضعفينَ والمظلومينَ.

فكلُّ أمَّةٍ من الأُمَمِ السابقةِ، حكاها القرآنُ لنا، بيَّن لنا عاقبتَها، وما أنزلَه اللهُ بهم.

قالَ تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٠].

وفي المقابلِ حكى لنا أيضًا عاقبةَ المؤمنينَ والمتقينَ، من النجاةِ من عذابِ اللهِ في الدنيا الذي حاقَ بالكافرينَ، كما أنجى اللهُ مَن آمنَ من ثمودَ من عذابِه وبطشِه، فقالَ: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۝ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [فصلت: ١٧-١٨].

وقال عن لوطٍ ومن آمنَ معَه: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ۝ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ۝ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾ [النمل: ٥٦-٥٨].

أو بالفتحِ والنصرِ والتمكينِ، كما فعل مع بني إسرائيل، فقد مكَّن لهم، بعد أن أهلكَ فرعونَ وقومَه، فقال: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ۝ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: ٥-٦].

ومن أساليبِ القرآنِ في الإرشادِ إلى هذا المعيارِ، الأمرُ المباشرُ بالنظرِ للعواقبِ، وعدمُ إهمالِها، وهذا كثيرٌ في القرآنِ، ومن ذلك قولهُ تعالى:

﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [الأنعام: ١١].

وقولهُ تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [النمل: ٦٩].

وقولهُ تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٧].

وقال عن عاقبةِ المتقينَ: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٨].

وقال عزَّ شأنُه: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: ٨٣].

فهذه هداياتُ القرآنِ، تُرشدُك لمعيارٍ من معاييرِ معرفةِ الحقِّ من الباطلِ، فلتكنْ عينُكَ مصوبةً لعواقبِ الأعمالِ ونتائجِها، وإيَّاكَ أن تغترَّ بانتفاشِ الباطلِ في بدايةِ أمرهِ وسطوتِه وقوتِه، فإنَّ عواقبَ أعمالِهم دائمًا في تَبابٍ وضياعٍ، لا يستقيمُ لهم أمرٌ، ولا يصلحُ لهم حالٌ.

ولكَ في سيرةِ نبيِّكَ وحبيبِكَ محمَّدٍ ﷺ عبرةٌ، فقد بدأ دعوتَه، وقريشٌ أكثرُ عددًا، وأعزُّ جندًا، وأوفرُ مالًا، وأطولُ يدًا، وأصدقُ حديثًا عن نفسِها وعن محمدٍ ودعوتِه عندَ سائرِ العرب.

فهم كما يقولون عن أنفسهم: ورثةُ إبراهيمَ عليهِ السلامُ، وعمَّارُ البيتِ، وأهلُ اللهِ وحماةُ حرَمِه. وما محمدٌ إلا صابئًا ومجنونًا، جاءَ ليُفرِّقَ جمعَهم، ويشتِّتَ أمرَهم، ويُفسدَ حالَهم.

وتمضي الأيامُ، فيقلُّون ويكثرُ محمدٌ ومن معه، ويضعفونَ ويقوى محمدٌ ومن معه، ويُكَذبُونَ ويُصدُقُ محمدٌ ومن معه، وتُنكَّسُ راياتُهم وكلمتُهم، وتَرتفعُ راياتُ محمدٍ وكلمتُه ومن معه، فتكونُ له الكلمةُ على سائرِ العربِ، فيأتونَ إليهِ من كلِّ فجٍّ مذعنينَ ومُصدِّقينَ ومُبايعينَ، فكانت العاقبةُ له بالنصرِ والفتحِ المبينِ.

 


أقولُ قولي هذا…

 


الخطبة الثانية:

أمَّا بعدُ:

أيها الإخوةُ الفضلاءُ، وكما تكونُ العاقبةُ معيارًا نُفرِّقُ به بين المُحقِّ من المُبطلِ، فكذلكَ هي عبرةٌ لمن أرادَ أن يعتبرَ.

ففي مصارعِ الظالمينَ عبرةٌ وأيُّ عبرةٍ، فحذارِ أن تمرَّ بنا الآياتُ العظيمةُ دونَ أن نعتبرَ، فالاعتبارُ من سماتِ أُولي الألبابِ، كما قالَ تعالى:

﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ [طه: ١٢٨].

في مصارعِهم عبرةٌ، تُذكِّرُ المسلمَ بقدرةِ اللهِ وسطوتِه، وأنَّه سريعُ العقابِ، وأنَّ الباطلَ مهما انتفشَ فإنَّ له يومًا يأخذُه اللهُ فيهِ ويكشفُه ويفضحُه:

﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: ١٠٢].

وتُذكِّرُه بأن لا يسلكَ سبيلَهم، ويتجنَّبَ أعمالَهم، وتأييدَهم، حتى لا تشملَه العقوبةُ التي تنزلُ بهم.

وتُذكِّرُه بأن لا يظلِمَ ولا يبغيَ على أحدٍ، حتى لا يُنزِلَ اللهُ به عقوبتَه، فإنَّه لا يأمنُ مكرَ اللهِ إلا القومُ الخاسرونَ.

وتُذكِّرُه أيضًا، بأنَّ نصرَ اللهِ قريبٌ من المظلومينَ المستضعفينَ، وأنَّ وعدَ اللهِ بإحقاقِ الحقِّ وإزهاقِ الباطلِ مُتحقِّقٌ، ولكنَّ الناسَ يستعجلونَ، فلا ييأسُ ولا يقنطُ، فإنَّه لا ييأسُ من روحِ اللهِ إلا القومُ الكافرونَ.

 


اللهمَّ اجعلنا من عبادِك المعتبرين، وجنِّبنا سبلَ الظالمين..

المشاهدات 24 | التعليقات 0