عواصف الثلج
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1435/02/08 - 2013/12/11 19:58PM
عَوَاصِفُ الثَّلْجِ
10/2/1435
الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ القَدِيرِ؛ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَكَانَ بِمَا خَلَقَ عَلِيمًا خَبِيرًا، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهُمُ الضَّرَاعَةَ وَالدُّعَاءَ، وَيُرْسِلُ النِّعَمَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا؛ لِيَمِيزَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ شَكُورًا وَمَنْ كَانَ كَفَّارًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، قَابَلَ النَّعْمَاءَ بِالشُّكْرِ، وَعَالَجَ الضَّرَّاءَ بِالرِّضَا وَالصَّبْرِ، فَكَانَ عَبْدًا صَبُورًا شَكُورًا، وَكَانَ رَاضِيًا مَرْضِيًّا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَفَكَّرُوا فِي خَلْقِهِ، وَتَدَبَّرُوا آيَاتِهِ، وَحَقِّقُوا عُبُودِيَّتَهُ؛ فَارْضَوْا بِمُرِّ القَضَاءِ، وَابْذُلُوا الشُّكْرَ فِي النَّعْمَاءِ، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ عَلَى الضَّرَّاءِ؛ فَإِنَّ الأَمْرَ للهِ تَعَالَى، وَالقَدَرَ قَدَرُهُ، وَلا خُرُوجَ لِأَحَدٍ عَنْ تَدْبِيرِهِ؛ {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2].
أَيُّهَا النَّاسُ: للهِ تَعَالَى تَدَابِيرُ فِي خَلْقِهِ لاَ يُحِيطُ بِهَا عِلْمًا وَحِكْمَةً غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، وَلَهُ عَزَّ وَجَلَّ أَفْعَالٌ تَمَسُّ أَفْرَادًا أَوْ دُوَلاً أَوْ أُمَمًا، وَقَدْ تَكُونُ وَاقِعَةً أَرْضِيَّةً، أَوْ ظَاهِرَةً فَلَكِيَّةً، فَتُصِيبُ مَنْ تُصِيبُ بِأَمْرِهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ؛ {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، وَكُلُّ مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ أَحْدَاثٍ فِي الأَرْضِ وَالكَوْنِ، وَتَغْيِيرَاتٍ فِي المُنَاخِ والجَوِّ فَهُوَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
وَالعَوَاصِفُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، يَأْمُرُهَا فَتَسِيرُ حَيْثُ شَاءَ، وَتُصِيبُ مَنْ يَشَاءُ، وَتَحْمِلُ مَا يَشَاءُ، فَقَدْ تَحْمِلُ الأَتْرِبَةَ فَتَكُونُ حَاصِبًا يَحْصِبُ النَّاسَ بِالحَصَى وَالتُّرَابِ؛ كَمَا أَهْلَكَ بِهِ قَوْمَ لُوطٍ؛ {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34]، وَخَوَّفَ سُبْحَانَهُ بِالحَاصِبِ عِبَادَهُ مِنْ أَنْ يَأْمَنُوا عَذَابَهُ؛ {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 17].
وَقَدْ تَكُونُ العَوَاصِفُ رَعْدِيَّةً تَحْمِلُ الأَمْطَارَ، فَتُفْزِعُ الخَلْقَ بِشِدَّةِ صَوْتِهَا حَتَّى كَأنَّ السَّمَاءَ تَنْشَقُّ، وَتُخِيفُهُمْ بِوَمِيضِ بَرْقِهَا الَّذِي يَكَادُ يَخْطَفُ الأَبْصَارَ مِنْ قُوَّتِهِ، وَتَنْهَمِرُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ بِأَمْطَارٍ تَمْلَأُ الأَرْضَ، وَقَدْ تُغْرِقُ الخَلْقَ.
وَمِنَ العَوَاصِفِ عَوَاصِفُ تَحْمِلُ الثَّلْجَ مِنْ جِبَالِ الجَلِيدِ فِي الأَرْضِ، فَلاَ تَمُرُّ بِبَلَدٍ إِلاَّ وَنَشَرَتْ فِيهِ الصَّقِيعَ، فَكَانَ شِتَاؤُهُ قَاسِيًا، وَكَانَ بَرْدُهُ شَدِيدًا، وَهُوَ مَا يَجِدُهُ النَّاسُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الدُّوَلِ هَذِهِ الأَيَّامَ؛ حَتَّى اكْتَسَتِ المُدُنُ بِالثُّلُوجِ، فَأَظْلَمَتْ سَمَاؤُهَا، وَيَبِسَتْ أَشْجَارُهَا، وَتَوَقَّفَتِ الحَرَكَةُ فِيهَا، وَاحْتَمَى النَّاسُ مِنَ الصَّقِيعِ بِبُيُوتِهِمْ.
وَهَذَا كَمَا يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الإِنْسَانِ الظَّلُومِ الجَهُولِ، وَلَوْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَطَالَ أَمَدَ العَوَاصِفِ الثَّلْجِيَّةِ، وَحَجَبَ الشَّمْسَ بِسُحُبِهَا وَضَبَابِهَا، وَعَمَّ بِهَا الأَرْضَ كُلَّهَا لَتَوَقَّفَتْ حَيَاةُ المَخْلُوقَاتِ عَلَى الأَرْضِ؛ وَقَدْ رَأَى النَّاسُ كَيْفَ تُشَلُّ الحَرَكَةُ فِي الدُّوَلِ الَّتِي تُصِيبُهَا تِلْكَ العَوَاصِفُ بِضْعَةَ أَيَّامٍ، وَكَثْرَةَ مَا تَسْتَهْلِكُهُ مِنَ الوَقُودِ وَالطَّاقَةِ لِلتَّدْفِئَةِ.
إِنَّ العَوَاصِفَ الثَّلْجِيَّةَ رِيَاحٌ، وَالرِّيَاحُ تَسِيرُ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى؛ {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [الروم: 48] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم: 46].
وَالرِّيَاحُ مِنْ جُنْدِ اللهِ تَعَالَى، فَإِمَّا أَرْسَلَهَا رَحْمَةً وَابْتِلاَءً، وَإِمَّا جَعَلَهَا عَذَابًا وَانْتِقَامًا؛ {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41- 42].
وَالرِّيحُ البَارِدَةُ سُلِّطَتْ عَلَى جَيْشِ الأَحْزَابِ لَمَّا حَاصَرَ المَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ، وَاشْتَدَّ الحِصَارُ، وَعَظُمَ الكَرْبُ، وَزَاغَتِ الأَبْصَارُ، وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ، فَكَانَتْ سَبَبًا فِي فَكِّ الحِصَارِ، وَتَشْتِيتِ الأَحْزَابِ؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9].
وَمَنْ طَالَعَ تَارِيخَ الفُتُوحِ وَالغَزْوِ يَجِدُ أَنَّ أَشَدَّ شَيْءٍ يَكُونُ عَلَى الجُنْدِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالعَوَاصِفِ الثَّلْجِيَّةِ، فَيَتَعَطَّلَ سَيْرُ الجَيْشِ، وَيَنْقَطِعَ عَنْهُ المَدَدُ، وَيَكْثُرَ فِيهِ الجُوعُ وَالمَرَضُ، حَتَّى يَكُونَ الانْسِحَابُ أَوِ العَطَبُ، وَوَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي التَّارِيخِ، فَكَانَتِ العَوَاصِفُ الثَّلْجِيَّةُ كَفِيلَةً بِتَغْيِيرِ مِيزَانِ قُوَى المُتَحَارِبِينَ، وَتَرْجِيحِ كِفَّةٍ عَلَى أُخْرَى، وَفَكِّ حِصَارٍ مُحْكَمٍ بِلاَ قِتَالٍ، وَللهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
وَفِي مَعَارِكِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لِلرُّومِ فِي بِلاَدِ الشَّامِ، كَانَ المُسْلِمُونَ يُحَاصِرُونَ دِمَشْقَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ لِلْهِجْرَةِ، وَطَالَ الحِصَارُ، وَدَخَلَ الشِّتَاءُ، وَشِتَاءُ الشِّامِ شِتَاءٌ؛ حَيْثُ شِدَّةُ الصَّقِيعِ وَالرِّيحُ البَارِدَةُ، وَالعَوَاصِفُ الثَّلْجِيَّةُ، وَجُيُوشُ المُسْلِمِينَ فِي العَرَاءِ، وَالنَّصَارَى فِي حُصُونِ دِمَشْقَ وَقِلاَعِهَا، فَلَمَّا أَذِنَ اللهُ تَعَالَى بِالفَتْحِ المُبِينَ شُغِلَ جُنْدُ النَّصَارَى بِاحْتِفَالٍ أَقَامَهُ كَبِيرُهُمْ، وَقَدْ أَمِنُوا المُسْلِمِينَ فَهُمْ فِي البَرْدِ وَالعَرَاءِ وَهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، وَفِي اللَّيْلِ تَرَكُوا الحُصُونَ وَالأَسْوَارَ، وَدَخَلُوا لِحُضُورِ الاحْتِفَالِ، فَوَجَدُوا الدِّفْءَ فَخَلَدُوا لَهُ، فَانْتَبَهُ لِذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَأَمَرَ المُقْتَحِمَةَ أَنْ يَقْتَحِمُوا الأَسْوَارَ بِالحِبَالِ، فَفَعَلُوا فِي غَفْلَةٍ مِنَ الرُّومِ، فَفَتَحُوا الأَبْوَابَ لِجَيْشِ المُسْلِمِينَ فَدَخَلُوهَا، فَقَلَبَ اللهُ تَعَالَى حَاصِبَ البَرْدِ مِنْ سَبَبٍ لِهَزِيمَةِ المُسْلِمِينَ وَفَكِّ الحِصَارَ عَنْ دِمَشْقَ إِلَى عَامِلِ نَصْرٍ بِإِخْلَادِ جُنْدِ النَّصَارَى إِلَى الدِّفْءِ وَتَرْكِ الحُصُونِ وَالأَسْوَارِ.
وَفِي التَّارِيخِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ عَمَّنْ هَلَكُوا فِي العَوَاصِفِ الثَّلْجِيَّةِ، وَلاَ سِيَّمَا مِنَ الجُيُوشِ الزَّاحِفَةِ فِي العَرَاءِ؛ لِانْقِطَاعِ المَدَدِ عَنْهَا، وَعَدَمِ قُدْرَتِهَا عَلَى مُقَاوَمَةِ البَرْدِ وَالجُوعِ، فَتَفْنَى جُمُوعٌ مِنَ الجُنْدِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَالمُسْلِمُونَ لَهُمْ تَارِيخٌ طَوِيلٌ مِنَ الغَزْوِ فِي البَرْدِ، وَالابْتِلاَءِ بِعَوَاصِفِ الثَّلْجِ، وَالسَّيْرِ عَلَى الجَلِيدِ، وَالإِقَامَةِ عَلَيْهِ اضْطِرَارًا، وَلَهُمْ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ، أَنْتَجَتْ أَحْكَامًا فِقْهِيَّةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَحْوَالِ؛ فَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ، حَبَسَهُ الثَّلْجُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ البَرْدِ، وَلَمْ يُرِدِ الإِقَامَةَ!
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَحُكِيَ عَنِ الحَسِنِ -يَعْنِي البَصْرِيَّ- جَوَازُ الصَّلاَةِ عَلَى الجَلِيدِ، وَمَعْنَاهُ: إِذَا جَمَدَ النَّهْرُ جَازَتِ الصَّلاَةُ فَوْقَهُ...، وَحَكَى البُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ صَلَّى عَلَى الثَّلْجِ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسُّجُودِ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ عَنْهُ حَرْبٌ قَالَ: يَبْسُطُ عَلَيْهِ ثَوْبًا وَيُصَلِّي، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ الثَّوْبُ الَّذِي عَلَى جَسَدِهِ؟ قَالَ: إِنْ أَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَيْهِ سَجَدَ، وَإِلاَّ أَوْمَأَ، قَالَ: وَإِذَا كَانَ الثَّلْجُ بَارِدًا فَإِنَّهُ عُذْرٌ، وَسَهَّلَ فِيهِ، قَالَ: وَسَمِعْتُ إِسْحَاقَ -يَعْنِي: ابْنَ رَاهَوَيْهِ- يَقُولُ: إِذَا صَلَّيْتَ فِي الثَّلْجِ أَوِ الرَّمْضَاءِ أَوْ البَرْدِ أَوِ الطِّينِ فَآذَاكَ، فَاسْجُدْ عَلَى ثَوْبِكَ، وَإِذَا اشْتَدَّ عَلَيْكَ وَضْعُ اليَدَيْنِ عَلَى الأَرْضِ فَضَعْهُمَا عَلَى ثَوْبِكَ، أَوْ أَدْخِلْهُمَا كُمَّيْكَ ثُمَّ اسْجُدْ كَذَلِكَ، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ -مَرَّةً أُخْرَى- يَقُولُ: إِنْ كُنْتَ فِي رَدْغَةٍ أَوْ مَاءٍ أَوِ الثَّلْجِ، لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْجُدَ، فَأَوْمِئْ إِيمَاءً، كَذَلِكَ فَعَلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا.
هَذِهِ الأَحْكَامُ -وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ- نَتَجَتْ بِسَبَبِ العَوَاصِفِ الثَّلْجِيَّةِ، وَاكْتِسَاءِ الأَرْضِ بِالجَلِيدِ، وَمُرَاعَاةِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي شِدَّةِ البَرْدِ مَعَ قِيَامِهِمْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فَالَّذِي قَدَّرَ العَوَاصِفَ الثَّلْجِيَّةَ هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا جَعَلَ عَلَى النَّاسِ مِنْ حَرَجٍ فِي دِينِهِمْ؛ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وَهُوَ الَّذِي يَأْجُرُ العِبَادَ عَلَى القِيَامِ بِفَرَائِضِهِ مَعَ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِمْ مِنَ المَكَارِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاة بَعْدَ الصَّلَاة، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: العَوَاصِفُ الثَّلْجِيَّةُ الَّتِي تَضْرِبُ بَعْضَ بِلاَدِ المُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ حَتَّى كَسَاهَا الجَلِيدُ، وَاشْتَدَّ فِيهَا الصَّقِيعُ هِيَ ابْتِلاَءٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِفُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ؛ إِذْ يُعَالِجُونَ الجُوعَ وَالبَرْدَ مَعَ قِلَّةِ ذَاتِ اليَدِ، وَهِيَ ابْتِلاَءٌ لِأَغْنِيَاءِ المُسْلِمِينَ أَيَسُدُّونَ حَاجَةَ إِخْوَانِهِمُ الفُقَرَاءِ، فَيُطْعِمُونَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَيُدَفِّئُونَهُمْ مِنْ بَرْدٍ، وَيُكِنُّونَهُمْ مِنْ عَرَاءٍ؟! كَانَ أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى إِذَا أَمْسَى تَصَدَّقَ بِمَا فِي بَيْتِهِ مِنَ الفَضْلِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مَنْ مَاتَ جُوْعًا فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بِهِ، وَمَنْ مَاتَ عُرْياً فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بِهِ.
وَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى بِشْرِ بنِ الحَارِثِ فِي الشِّتَاءِ فَوَجَدَهُ جَالِسًا يَرْعُدُ وَثَوْبُهُ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمِشْجَبِ، فَقَالَ لَهُ: فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ يُنْزَعُ الثَّوْبُ؟ فَقَالَ: يَا أَخِي، الْفُقَرَاءُ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ لِي طَاقَةُ مُوَاسَاتِهِمْ بِالثِّيَابِ فَأُوَاسِيهِمْ بِتَحَمُّلِ الْبَرْدِ كَمَا يَتَحَمَّلُونَ، وَبِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ صَوَابِ فِعْلِهِ مِنْ خَطَئِهِ، فَإِنَّ إِحْسَاسَهُ بِمُعَانَاةِ إِخْوَانِهِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِ.
وَفِي لَيْلَةٍ شَاتِيَةٍ تَصَدَّقَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ المَالِكِيُّ بِقِيمَةِ غَلَّةِ بُسْتَانِهِ كُلِّهَا - وَكَانَتْ مِئَةَ دِينَارٍ ذَهَبِيٍّ - وَقَالَ: مَا نِمْتُ اللَّيْلَةَ غَمًّا لِفُقَرَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالعَاصِفَةُ الثَّلْجِيَّةُ الَّتِي نَرَى شَيْئًا مِنْ أَثَرِهَا، وَنُحِسُّ بَعْضَ صَقِيعِهَا قَدْ خَيَّمَتْ فِي بِلاَدِ الشَّامِ، وَضَاعَفَتْ مُعَانَاةَ إِخْوَانِنَا اللاَّجِئِينَ فِي تُرْكِيَا وَلُبْنَانَ وَالأُرْدَنَ؛ إِذْ فَرَشَ الجَلِيدُ أَرْضَهُمْ، وَغَطَّتِ الثُّلُوجُ خِيَامَهُمْ، وَالبَرْدُ يَفْتَرِسُ أَجْسَادَهُمْ وَأَجْسَادَ أَطْفَالِهِمْ، وَلاَ طَعَامَ يَكْفِي لِيَمْنَحَ الدِّفْءَ وَالقُوَّةَ، وَلاَ كِسَاءَ أَوْ غِطَاءَ يُخَفِّفُ البَرْدَ، إِلاَّ شَيْئًا قَلِيلاً يُبْقِي عَلَى الحَيَاةِ، وَيَجْعَلُهَا عَذَابًا عَلَيْهِمْ، وَكَمْ يَمُوتُ مِنْ أَطْفَالِهِمْ مِنْ شِدَّةِ البَرْدِ!
يَقُولُ أَحَدُ أَطْفَالِهِمْ مُسْتَنْجِدًا بِالمُسْلِمِينَ: كُنْتُ لاَ أَنَامُ مِنْ صَوْتِ القَصْفِ، وَأَنَا الآنَ لاَ أَنَامُ مِنْ شِدَّةِ البَرْدِ، هَرَبُوا مِنَ الرَّصَاصِ فَمَاتُوا بِالبَرْدِ، وَأَكْثَرُ أَمْرَاضِ الأَطْفَالِ فِي المَلاَجِئِ هِيَ أَمْرَاضُ البَرْدِ وَالجُوعِ، وَأَمَّا فِي دَاخِلِ سُورْيَا فَخَوْفٌ وَجُوعٌ وَبَرْدٌ. وَقدْ تَنَاقَلَ النَّاسُ قَبْلَ يَوْمَينِ صُورَةَ رَضِيعٍ فِي الرَسْتَنِ قَدْ تَجَمَّدَ مِنَ البَرْدِ، وَيَدَاهُ مَمْدُودَتَانِ مُتَصَلِّبَتَانِ لا تَنْثَنِيَانِ، فَوَيلٌ لِلظَالِمِينَ مِنْ يَومِ الحِسَابِ.
وَقَبْلَ نَحْوِ شَهْرَينِ أَفْتَى العُلَمَاءُ المُحَاصَرِينَ فِي المَعْظَمِيَّةِ بِجَوَازِ أَكْلِ الحَمِيرِ وَالكِلَابِ وَالقِطَطِ لِلإِبْقَاءِ عَلَى حَيَاتِهِمْ.. وَوَضَعَتْ امرَأَةٌ طِفْلَهَا فَمَكَثَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَاتَ لِأَنَّهُ لَا حَلِيبَ فِي أُمِّهِ بِسَبَبِ جُوعِهَا، ثُمَّ مَاتَتْ أُمُّهُ جُوعًا بَعْدَ خَمْسِ لَيَالٍ مِنْ مَوتِهِ.
فَأَغِيثُوهُمْ بِالطَّعَامِ وَالكِسَاءِ، وَالدَّوَاءِ وَالإِيوَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ أَمَامَ اللهِ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ حَالَ أَطْفَالِهِمْ يُنْقَلُ إِلَيْكُمْ، قَدْ نَحَلَتْ أَجْسَادُهُمْ، وَشَحَبَتْ أَلْوَانُهُمْ، وَزَاغَتْ أَبْصَارُهُمْ، وَارْتَسَمَ البُؤْسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَعِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِصَّةٌ وَحِكَايَةٌ، تُقَطِّعُ القُلُوبَ الحَيَّةَ، وَتَسْتَدِرُّ العُيُونَ الرَّحِيمَةَ، وَتَبْعَثُ عَلَى البَذْلِ وَالعَطَاءِ، ارْحَمُوهُمْ كَمَا تَرْحَمُونَ أَطْفَالَكُمْ؛ فَإِنَّهُمْ أَوْلاَدُ إِخْوَانِكُمْ، وَأَجْزَاءٌ مِنْ جَسَدِ أُمَّتِكُمْ المُثْخَنَةَ بِالجِرَاحِ؛ «وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»، «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْض يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» «الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ».
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ.
10/2/1435
الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ القَدِيرِ؛ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَكَانَ بِمَا خَلَقَ عَلِيمًا خَبِيرًا، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهُمُ الضَّرَاعَةَ وَالدُّعَاءَ، وَيُرْسِلُ النِّعَمَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا؛ لِيَمِيزَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ شَكُورًا وَمَنْ كَانَ كَفَّارًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، قَابَلَ النَّعْمَاءَ بِالشُّكْرِ، وَعَالَجَ الضَّرَّاءَ بِالرِّضَا وَالصَّبْرِ، فَكَانَ عَبْدًا صَبُورًا شَكُورًا، وَكَانَ رَاضِيًا مَرْضِيًّا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَفَكَّرُوا فِي خَلْقِهِ، وَتَدَبَّرُوا آيَاتِهِ، وَحَقِّقُوا عُبُودِيَّتَهُ؛ فَارْضَوْا بِمُرِّ القَضَاءِ، وَابْذُلُوا الشُّكْرَ فِي النَّعْمَاءِ، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ عَلَى الضَّرَّاءِ؛ فَإِنَّ الأَمْرَ للهِ تَعَالَى، وَالقَدَرَ قَدَرُهُ، وَلا خُرُوجَ لِأَحَدٍ عَنْ تَدْبِيرِهِ؛ {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2].
أَيُّهَا النَّاسُ: للهِ تَعَالَى تَدَابِيرُ فِي خَلْقِهِ لاَ يُحِيطُ بِهَا عِلْمًا وَحِكْمَةً غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، وَلَهُ عَزَّ وَجَلَّ أَفْعَالٌ تَمَسُّ أَفْرَادًا أَوْ دُوَلاً أَوْ أُمَمًا، وَقَدْ تَكُونُ وَاقِعَةً أَرْضِيَّةً، أَوْ ظَاهِرَةً فَلَكِيَّةً، فَتُصِيبُ مَنْ تُصِيبُ بِأَمْرِهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ؛ {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، وَكُلُّ مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ أَحْدَاثٍ فِي الأَرْضِ وَالكَوْنِ، وَتَغْيِيرَاتٍ فِي المُنَاخِ والجَوِّ فَهُوَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
وَالعَوَاصِفُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، يَأْمُرُهَا فَتَسِيرُ حَيْثُ شَاءَ، وَتُصِيبُ مَنْ يَشَاءُ، وَتَحْمِلُ مَا يَشَاءُ، فَقَدْ تَحْمِلُ الأَتْرِبَةَ فَتَكُونُ حَاصِبًا يَحْصِبُ النَّاسَ بِالحَصَى وَالتُّرَابِ؛ كَمَا أَهْلَكَ بِهِ قَوْمَ لُوطٍ؛ {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34]، وَخَوَّفَ سُبْحَانَهُ بِالحَاصِبِ عِبَادَهُ مِنْ أَنْ يَأْمَنُوا عَذَابَهُ؛ {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 17].
وَقَدْ تَكُونُ العَوَاصِفُ رَعْدِيَّةً تَحْمِلُ الأَمْطَارَ، فَتُفْزِعُ الخَلْقَ بِشِدَّةِ صَوْتِهَا حَتَّى كَأنَّ السَّمَاءَ تَنْشَقُّ، وَتُخِيفُهُمْ بِوَمِيضِ بَرْقِهَا الَّذِي يَكَادُ يَخْطَفُ الأَبْصَارَ مِنْ قُوَّتِهِ، وَتَنْهَمِرُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ بِأَمْطَارٍ تَمْلَأُ الأَرْضَ، وَقَدْ تُغْرِقُ الخَلْقَ.
وَمِنَ العَوَاصِفِ عَوَاصِفُ تَحْمِلُ الثَّلْجَ مِنْ جِبَالِ الجَلِيدِ فِي الأَرْضِ، فَلاَ تَمُرُّ بِبَلَدٍ إِلاَّ وَنَشَرَتْ فِيهِ الصَّقِيعَ، فَكَانَ شِتَاؤُهُ قَاسِيًا، وَكَانَ بَرْدُهُ شَدِيدًا، وَهُوَ مَا يَجِدُهُ النَّاسُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الدُّوَلِ هَذِهِ الأَيَّامَ؛ حَتَّى اكْتَسَتِ المُدُنُ بِالثُّلُوجِ، فَأَظْلَمَتْ سَمَاؤُهَا، وَيَبِسَتْ أَشْجَارُهَا، وَتَوَقَّفَتِ الحَرَكَةُ فِيهَا، وَاحْتَمَى النَّاسُ مِنَ الصَّقِيعِ بِبُيُوتِهِمْ.
وَهَذَا كَمَا يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الإِنْسَانِ الظَّلُومِ الجَهُولِ، وَلَوْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَطَالَ أَمَدَ العَوَاصِفِ الثَّلْجِيَّةِ، وَحَجَبَ الشَّمْسَ بِسُحُبِهَا وَضَبَابِهَا، وَعَمَّ بِهَا الأَرْضَ كُلَّهَا لَتَوَقَّفَتْ حَيَاةُ المَخْلُوقَاتِ عَلَى الأَرْضِ؛ وَقَدْ رَأَى النَّاسُ كَيْفَ تُشَلُّ الحَرَكَةُ فِي الدُّوَلِ الَّتِي تُصِيبُهَا تِلْكَ العَوَاصِفُ بِضْعَةَ أَيَّامٍ، وَكَثْرَةَ مَا تَسْتَهْلِكُهُ مِنَ الوَقُودِ وَالطَّاقَةِ لِلتَّدْفِئَةِ.
إِنَّ العَوَاصِفَ الثَّلْجِيَّةَ رِيَاحٌ، وَالرِّيَاحُ تَسِيرُ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى؛ {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [الروم: 48] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم: 46].
وَالرِّيَاحُ مِنْ جُنْدِ اللهِ تَعَالَى، فَإِمَّا أَرْسَلَهَا رَحْمَةً وَابْتِلاَءً، وَإِمَّا جَعَلَهَا عَذَابًا وَانْتِقَامًا؛ {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41- 42].
وَالرِّيحُ البَارِدَةُ سُلِّطَتْ عَلَى جَيْشِ الأَحْزَابِ لَمَّا حَاصَرَ المَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ، وَاشْتَدَّ الحِصَارُ، وَعَظُمَ الكَرْبُ، وَزَاغَتِ الأَبْصَارُ، وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ، فَكَانَتْ سَبَبًا فِي فَكِّ الحِصَارِ، وَتَشْتِيتِ الأَحْزَابِ؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9].
وَمَنْ طَالَعَ تَارِيخَ الفُتُوحِ وَالغَزْوِ يَجِدُ أَنَّ أَشَدَّ شَيْءٍ يَكُونُ عَلَى الجُنْدِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالعَوَاصِفِ الثَّلْجِيَّةِ، فَيَتَعَطَّلَ سَيْرُ الجَيْشِ، وَيَنْقَطِعَ عَنْهُ المَدَدُ، وَيَكْثُرَ فِيهِ الجُوعُ وَالمَرَضُ، حَتَّى يَكُونَ الانْسِحَابُ أَوِ العَطَبُ، وَوَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي التَّارِيخِ، فَكَانَتِ العَوَاصِفُ الثَّلْجِيَّةُ كَفِيلَةً بِتَغْيِيرِ مِيزَانِ قُوَى المُتَحَارِبِينَ، وَتَرْجِيحِ كِفَّةٍ عَلَى أُخْرَى، وَفَكِّ حِصَارٍ مُحْكَمٍ بِلاَ قِتَالٍ، وَللهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
وَفِي مَعَارِكِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لِلرُّومِ فِي بِلاَدِ الشَّامِ، كَانَ المُسْلِمُونَ يُحَاصِرُونَ دِمَشْقَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ لِلْهِجْرَةِ، وَطَالَ الحِصَارُ، وَدَخَلَ الشِّتَاءُ، وَشِتَاءُ الشِّامِ شِتَاءٌ؛ حَيْثُ شِدَّةُ الصَّقِيعِ وَالرِّيحُ البَارِدَةُ، وَالعَوَاصِفُ الثَّلْجِيَّةُ، وَجُيُوشُ المُسْلِمِينَ فِي العَرَاءِ، وَالنَّصَارَى فِي حُصُونِ دِمَشْقَ وَقِلاَعِهَا، فَلَمَّا أَذِنَ اللهُ تَعَالَى بِالفَتْحِ المُبِينَ شُغِلَ جُنْدُ النَّصَارَى بِاحْتِفَالٍ أَقَامَهُ كَبِيرُهُمْ، وَقَدْ أَمِنُوا المُسْلِمِينَ فَهُمْ فِي البَرْدِ وَالعَرَاءِ وَهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، وَفِي اللَّيْلِ تَرَكُوا الحُصُونَ وَالأَسْوَارَ، وَدَخَلُوا لِحُضُورِ الاحْتِفَالِ، فَوَجَدُوا الدِّفْءَ فَخَلَدُوا لَهُ، فَانْتَبَهُ لِذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَأَمَرَ المُقْتَحِمَةَ أَنْ يَقْتَحِمُوا الأَسْوَارَ بِالحِبَالِ، فَفَعَلُوا فِي غَفْلَةٍ مِنَ الرُّومِ، فَفَتَحُوا الأَبْوَابَ لِجَيْشِ المُسْلِمِينَ فَدَخَلُوهَا، فَقَلَبَ اللهُ تَعَالَى حَاصِبَ البَرْدِ مِنْ سَبَبٍ لِهَزِيمَةِ المُسْلِمِينَ وَفَكِّ الحِصَارَ عَنْ دِمَشْقَ إِلَى عَامِلِ نَصْرٍ بِإِخْلَادِ جُنْدِ النَّصَارَى إِلَى الدِّفْءِ وَتَرْكِ الحُصُونِ وَالأَسْوَارِ.
وَفِي التَّارِيخِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ عَمَّنْ هَلَكُوا فِي العَوَاصِفِ الثَّلْجِيَّةِ، وَلاَ سِيَّمَا مِنَ الجُيُوشِ الزَّاحِفَةِ فِي العَرَاءِ؛ لِانْقِطَاعِ المَدَدِ عَنْهَا، وَعَدَمِ قُدْرَتِهَا عَلَى مُقَاوَمَةِ البَرْدِ وَالجُوعِ، فَتَفْنَى جُمُوعٌ مِنَ الجُنْدِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَالمُسْلِمُونَ لَهُمْ تَارِيخٌ طَوِيلٌ مِنَ الغَزْوِ فِي البَرْدِ، وَالابْتِلاَءِ بِعَوَاصِفِ الثَّلْجِ، وَالسَّيْرِ عَلَى الجَلِيدِ، وَالإِقَامَةِ عَلَيْهِ اضْطِرَارًا، وَلَهُمْ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ، أَنْتَجَتْ أَحْكَامًا فِقْهِيَّةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَحْوَالِ؛ فَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ، حَبَسَهُ الثَّلْجُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ البَرْدِ، وَلَمْ يُرِدِ الإِقَامَةَ!
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَحُكِيَ عَنِ الحَسِنِ -يَعْنِي البَصْرِيَّ- جَوَازُ الصَّلاَةِ عَلَى الجَلِيدِ، وَمَعْنَاهُ: إِذَا جَمَدَ النَّهْرُ جَازَتِ الصَّلاَةُ فَوْقَهُ...، وَحَكَى البُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ صَلَّى عَلَى الثَّلْجِ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسُّجُودِ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ عَنْهُ حَرْبٌ قَالَ: يَبْسُطُ عَلَيْهِ ثَوْبًا وَيُصَلِّي، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ الثَّوْبُ الَّذِي عَلَى جَسَدِهِ؟ قَالَ: إِنْ أَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَيْهِ سَجَدَ، وَإِلاَّ أَوْمَأَ، قَالَ: وَإِذَا كَانَ الثَّلْجُ بَارِدًا فَإِنَّهُ عُذْرٌ، وَسَهَّلَ فِيهِ، قَالَ: وَسَمِعْتُ إِسْحَاقَ -يَعْنِي: ابْنَ رَاهَوَيْهِ- يَقُولُ: إِذَا صَلَّيْتَ فِي الثَّلْجِ أَوِ الرَّمْضَاءِ أَوْ البَرْدِ أَوِ الطِّينِ فَآذَاكَ، فَاسْجُدْ عَلَى ثَوْبِكَ، وَإِذَا اشْتَدَّ عَلَيْكَ وَضْعُ اليَدَيْنِ عَلَى الأَرْضِ فَضَعْهُمَا عَلَى ثَوْبِكَ، أَوْ أَدْخِلْهُمَا كُمَّيْكَ ثُمَّ اسْجُدْ كَذَلِكَ، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ -مَرَّةً أُخْرَى- يَقُولُ: إِنْ كُنْتَ فِي رَدْغَةٍ أَوْ مَاءٍ أَوِ الثَّلْجِ، لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْجُدَ، فَأَوْمِئْ إِيمَاءً، كَذَلِكَ فَعَلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا.
هَذِهِ الأَحْكَامُ -وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ- نَتَجَتْ بِسَبَبِ العَوَاصِفِ الثَّلْجِيَّةِ، وَاكْتِسَاءِ الأَرْضِ بِالجَلِيدِ، وَمُرَاعَاةِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي شِدَّةِ البَرْدِ مَعَ قِيَامِهِمْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فَالَّذِي قَدَّرَ العَوَاصِفَ الثَّلْجِيَّةَ هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا جَعَلَ عَلَى النَّاسِ مِنْ حَرَجٍ فِي دِينِهِمْ؛ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وَهُوَ الَّذِي يَأْجُرُ العِبَادَ عَلَى القِيَامِ بِفَرَائِضِهِ مَعَ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِمْ مِنَ المَكَارِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاة بَعْدَ الصَّلَاة، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: العَوَاصِفُ الثَّلْجِيَّةُ الَّتِي تَضْرِبُ بَعْضَ بِلاَدِ المُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ حَتَّى كَسَاهَا الجَلِيدُ، وَاشْتَدَّ فِيهَا الصَّقِيعُ هِيَ ابْتِلاَءٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِفُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ؛ إِذْ يُعَالِجُونَ الجُوعَ وَالبَرْدَ مَعَ قِلَّةِ ذَاتِ اليَدِ، وَهِيَ ابْتِلاَءٌ لِأَغْنِيَاءِ المُسْلِمِينَ أَيَسُدُّونَ حَاجَةَ إِخْوَانِهِمُ الفُقَرَاءِ، فَيُطْعِمُونَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَيُدَفِّئُونَهُمْ مِنْ بَرْدٍ، وَيُكِنُّونَهُمْ مِنْ عَرَاءٍ؟! كَانَ أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى إِذَا أَمْسَى تَصَدَّقَ بِمَا فِي بَيْتِهِ مِنَ الفَضْلِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مَنْ مَاتَ جُوْعًا فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بِهِ، وَمَنْ مَاتَ عُرْياً فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بِهِ.
وَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى بِشْرِ بنِ الحَارِثِ فِي الشِّتَاءِ فَوَجَدَهُ جَالِسًا يَرْعُدُ وَثَوْبُهُ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمِشْجَبِ، فَقَالَ لَهُ: فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ يُنْزَعُ الثَّوْبُ؟ فَقَالَ: يَا أَخِي، الْفُقَرَاءُ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ لِي طَاقَةُ مُوَاسَاتِهِمْ بِالثِّيَابِ فَأُوَاسِيهِمْ بِتَحَمُّلِ الْبَرْدِ كَمَا يَتَحَمَّلُونَ، وَبِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ صَوَابِ فِعْلِهِ مِنْ خَطَئِهِ، فَإِنَّ إِحْسَاسَهُ بِمُعَانَاةِ إِخْوَانِهِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِ.
وَفِي لَيْلَةٍ شَاتِيَةٍ تَصَدَّقَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ المَالِكِيُّ بِقِيمَةِ غَلَّةِ بُسْتَانِهِ كُلِّهَا - وَكَانَتْ مِئَةَ دِينَارٍ ذَهَبِيٍّ - وَقَالَ: مَا نِمْتُ اللَّيْلَةَ غَمًّا لِفُقَرَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالعَاصِفَةُ الثَّلْجِيَّةُ الَّتِي نَرَى شَيْئًا مِنْ أَثَرِهَا، وَنُحِسُّ بَعْضَ صَقِيعِهَا قَدْ خَيَّمَتْ فِي بِلاَدِ الشَّامِ، وَضَاعَفَتْ مُعَانَاةَ إِخْوَانِنَا اللاَّجِئِينَ فِي تُرْكِيَا وَلُبْنَانَ وَالأُرْدَنَ؛ إِذْ فَرَشَ الجَلِيدُ أَرْضَهُمْ، وَغَطَّتِ الثُّلُوجُ خِيَامَهُمْ، وَالبَرْدُ يَفْتَرِسُ أَجْسَادَهُمْ وَأَجْسَادَ أَطْفَالِهِمْ، وَلاَ طَعَامَ يَكْفِي لِيَمْنَحَ الدِّفْءَ وَالقُوَّةَ، وَلاَ كِسَاءَ أَوْ غِطَاءَ يُخَفِّفُ البَرْدَ، إِلاَّ شَيْئًا قَلِيلاً يُبْقِي عَلَى الحَيَاةِ، وَيَجْعَلُهَا عَذَابًا عَلَيْهِمْ، وَكَمْ يَمُوتُ مِنْ أَطْفَالِهِمْ مِنْ شِدَّةِ البَرْدِ!
يَقُولُ أَحَدُ أَطْفَالِهِمْ مُسْتَنْجِدًا بِالمُسْلِمِينَ: كُنْتُ لاَ أَنَامُ مِنْ صَوْتِ القَصْفِ، وَأَنَا الآنَ لاَ أَنَامُ مِنْ شِدَّةِ البَرْدِ، هَرَبُوا مِنَ الرَّصَاصِ فَمَاتُوا بِالبَرْدِ، وَأَكْثَرُ أَمْرَاضِ الأَطْفَالِ فِي المَلاَجِئِ هِيَ أَمْرَاضُ البَرْدِ وَالجُوعِ، وَأَمَّا فِي دَاخِلِ سُورْيَا فَخَوْفٌ وَجُوعٌ وَبَرْدٌ. وَقدْ تَنَاقَلَ النَّاسُ قَبْلَ يَوْمَينِ صُورَةَ رَضِيعٍ فِي الرَسْتَنِ قَدْ تَجَمَّدَ مِنَ البَرْدِ، وَيَدَاهُ مَمْدُودَتَانِ مُتَصَلِّبَتَانِ لا تَنْثَنِيَانِ، فَوَيلٌ لِلظَالِمِينَ مِنْ يَومِ الحِسَابِ.
وَقَبْلَ نَحْوِ شَهْرَينِ أَفْتَى العُلَمَاءُ المُحَاصَرِينَ فِي المَعْظَمِيَّةِ بِجَوَازِ أَكْلِ الحَمِيرِ وَالكِلَابِ وَالقِطَطِ لِلإِبْقَاءِ عَلَى حَيَاتِهِمْ.. وَوَضَعَتْ امرَأَةٌ طِفْلَهَا فَمَكَثَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَاتَ لِأَنَّهُ لَا حَلِيبَ فِي أُمِّهِ بِسَبَبِ جُوعِهَا، ثُمَّ مَاتَتْ أُمُّهُ جُوعًا بَعْدَ خَمْسِ لَيَالٍ مِنْ مَوتِهِ.
فَأَغِيثُوهُمْ بِالطَّعَامِ وَالكِسَاءِ، وَالدَّوَاءِ وَالإِيوَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ أَمَامَ اللهِ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ حَالَ أَطْفَالِهِمْ يُنْقَلُ إِلَيْكُمْ، قَدْ نَحَلَتْ أَجْسَادُهُمْ، وَشَحَبَتْ أَلْوَانُهُمْ، وَزَاغَتْ أَبْصَارُهُمْ، وَارْتَسَمَ البُؤْسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَعِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِصَّةٌ وَحِكَايَةٌ، تُقَطِّعُ القُلُوبَ الحَيَّةَ، وَتَسْتَدِرُّ العُيُونَ الرَّحِيمَةَ، وَتَبْعَثُ عَلَى البَذْلِ وَالعَطَاءِ، ارْحَمُوهُمْ كَمَا تَرْحَمُونَ أَطْفَالَكُمْ؛ فَإِنَّهُمْ أَوْلاَدُ إِخْوَانِكُمْ، وَأَجْزَاءٌ مِنْ جَسَدِ أُمَّتِكُمْ المُثْخَنَةَ بِالجِرَاحِ؛ «وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»، «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْض يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» «الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ».
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ.
المرفقات
عواصف الثلج.doc
عواصف الثلج.doc
عَوَاصِفُ الثَّلْجِ.doc
عَوَاصِفُ الثَّلْجِ.doc
المشاهدات 4025 | التعليقات 4
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
الأخوان الكريمان: ميزان الاعتدال وشبيب القحطاني..
شكر الله تعالى لكما مروركما وتعليقكما على الخطبة وأسأل المولى أن ينفع بكما.
شكر الله تعالى لكما مروركما وتعليقكما على الخطبة وأسأل المولى أن ينفع بكما.
رفعتها لمناسبتها هذه الآيام
ميزان الاعتدال
أنار الله بصيرتك وأصلح سريرتك وجعل لك من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا .
لقد أجدت وأفدت
تعديل التعليق