عن العمى الاستراتيجي / فهمي هويدي

احمد ابوبكر
1436/02/01 - 2014/11/23 03:55AM
ربما كان مبكرا وصف ما استجد في العلاقات بين القاهرة والدوحة بأنه تهدئة أو هدنة أو مصالحة، وإن ظننت أنه إلى الأولى أقرب. مع ذلك فهو في كل أحواله يظل تطورا إيجابيا يوفر لنا فرصة لمراجعة بعض الرؤى الإستراتيجية الحاكمة لعلاقات مصر الخارجية، ورغم أن هناك نقصا في المعلومات المتعلقة بخلفيات التصالح المفاجئ الذي أعلن عنه في داخل البيت الخليجي أو الرسالة التي وجهها العاهل السعودي يوم 19/11 إلى الرئاسة والنخبة في مصر، إلا أن الشق الإيجابي في هذه الخطوة يتيح لنا أن نتطرق إلى موضوع الرؤى الإستراتيجية الذي يعنيني في اللحظة الراهنة. يشجعني على ذلك أن رسالة العاهل السعودي نوهت إلى أهمية «وحدة الصف والتوافق ونبذ الخلاف في مواجهة التحديات التي تواجه أمتنا العربية والإسلامية». صحيح أن المتحدثين الذين احتفوا بالرسالة أشاروا إلى الخطر الذي باتت تمثله جماعة «داعش» وتمددها في بلاد الشام وأماكن أخرى، ولم يذكروا الخطر الأكبر والمزمن المتمثل في عربدة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، إلا أنني قابل مؤقتا بالانطلاق من البيان من باب الرضا بنصف العمى الذي هو أفضل من العمى كله.

أيا كانت خلفيات ذلك التطور، فإن أهميته لا ينبغي أن تنكر من وجهة نظر الحسابات الإستراتيجية، مصريا وخليجيا وعربيا. ذلك أن أطرافا عدة راهنت على الانقسام واستثمرته، خصوصا إسرائيل التي ادعت أثناء عدوانها على غزة في الصيف الماضي أنها أصبحت جزءا من تحالف عربي مناهض للإرهاب. وما برح قادتها يرددون أن العرب أدركوا أخيرا أن إسرائيل ليست العدو أو الخطر الذي يهددهم، ولكنه الإرهاب في قول وإيران في قول آخر والاثنان في قول ثالث.

قبل أن أستطرد أرجو ألا أكون بحاجة للتنبيه إلى أن الرؤية الإستراتيجية التي أعنيها هي تلك التي تتعلق بالمصالح العليا للدولة والأمة في الحاضر والمستقبل. وأحسب أن أحد المفاتيح المهمة لضبط المصطلح يكمن في التفرقة بين النظام والدولة، وهي التفرقة التي يتجاهلها كثيرون سهوا أو عمدا بحيث يختزلون الدولة في النظام، في حين أن الدولة كل والنظام جزء. والأولى ثابتة والثاني متغير. هذا الاختزال يرتب نتيجة سلبية تتلخص في أن أي خلاف أو نقد للنظام يصبح عداء للدولة وسعيا إلى تقويضها، وهو تغليط يفسد الرؤية الإستراتيجية لأنه يورط السلطة في مواقف تتبنى فيها إجراءات تستهدف الدفاع عن النظام في حين أنها تضر المصالح العليا للدولة في المدى البعيد.

إن اختزال الدولة والوطن في النظام أو قيادته منطق ينتمي إلى مفهوم القبيلة وليس الدولة، فشرف القبيلة وكرامتها من كرامة شيخها الذي هو قدرها، أما الدولة فلها حسابات مختلفة، لأن ثمة مجتمعا يعيش على أرضها ومصالحه ليست مرتبطة بالضرورة بنظامه أو برئيسه الذي اختاره الناس ولهم أن يغيروه إن شاءوا. ومن المفارقات في هذا الصدد أننا نتعامل بمنطق القبيلة مع الأشقاء في حين نتحلى بسلوك الدولة مع الأغيار، لا أتحدث هنا عن حالة الاتفاق في وجهات النظر لكنني أتحدث عن كيفية إدارة الخلاف إذا تباينت أو تعارضت وجهات النظر.
النموذج الماثل أمامنا والذي يستحق الدراسة هو الكيفية التي أدير بها الخلاف بين مصر وبين كل من قطر وتركيا، ولست هنا في مقام الدفاع عن موقف الدولتين، بل أذهب إلى أن بعض ممارساتهما، سواء في بث قناة الجزيرة أو تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان، ذهبت إلى حدود لم تكن مضطرة إليها في خلافها مع النظام المصري، وأزعم أن إيران كان لها نفس الموقف المعارض، لكنها عبرت عنه بطريقة أكثر رصانة وحذرا، وبالمناسبة فإن الإدارة الأمريكية كان لها الموقف ذاته في البداية، لكنها غلبت مصالحها دون أن تغير موقفها من تكييف التغيير الذي حدث في مصر. وأنا هنا أتحدث عن الموقف الأساسي وليس الوقائع والممارسات التي تفرعت عنه.

المتابع للتجاذب والتراشق الذي ترتب على ذلك الخلاف يلاحظ أن الموقف المصري كان عنيفا وحادا على نحو أثر على المصالح المتبادلة مع كل من قطر وتركيا. ولكنه في حالة الولايات المتحدة كان حذرا وظل محصورا في المجال الإعلامي تقريبا. فالقبيلة كانت حاضرة في الحالة الأولى في حين أن الدولة كان لها وجودها في الحالة الثانية. بل إن حدَّة الاشتباك مع قطر وتركيا وصلت إلى حد هبوط مستوى التجاذب في وسائل الإعلام المصرية على نحو استهدف تجريح الرموز والقيادات ونحى جانبا موضوعات الخلاف. الأخطر من ذلك أن الممارسات التي تمت استهدفت قطع الأواصر والإضرار بالطرف الآخر. الأمر الذي من شأنه أن يؤثر سلبا على الحسابات الإستراتيجية المصرية. ولعل إجراءات الإضرار بالاقتصاد التركي والتحالف المصري مع اليونان وقبرص لتحدي تركيا يعد خير مثال على ذلك. وليس معروفا في الوقت الراهن أثر التوتر الحاصل مع قطر على وضع العمالة المصرية هناك أو على العلاقات الاقتصادية بين البلدين، لكن تلك الأضرار أكثر وضوحا في الحالة التركية سواء جراء قطع الطريق البحري الموصل بين البلدين أو محاولة الضغط السياسي الاستراتيجي على أنقرة بالتحالف سابق الذكر.

ثمة نموذج آخر على التفريط فيما هو استراتيجي لقاء تسجيل بعض النقاط المؤقتة لصالح النظام، يتمثل في الموقف من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية. ذلك أن لبعضنا موقفا ساذجا يعتبر الديمقراطيين أعداء لمصر بسبب انتقادهم للنظام القائم فيها، والذين يتبنون ذلك الموقف يحتفون بالجمهوريين ويهللون لهم رغم أن خطهم العام منحاز إلى غلاة الليكوديين في إسرائيل، وضد كل ما هو عربي أو إسلامي، علما بأن بينهم من لا يختلف مع الديمقراطيين في موقفهم من النظام المصري. أحدهم النائب جون ماكين الذي انتقد بشكل حاد ما جرى في مصر يوم 3 يوليو واعتبره انقلابا.

إن الهوى السياسي مفهوم وله حدوده التي قد يقبل فيها، ولكن حين يتحول إلى عمى استراتيجي فإنه يصبح كارثة كبرى ـ غدا بإذن الله أفصِّل فيما أجملته اليوم.

المصدر: الاسلام اليوم"
المشاهدات 1059 | التعليقات 0