عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ (مشكولة بالدعاء)
راشد بن عبد الرحمن البداح
الحمدُ للهِ بارئِ البرياتِ وعالمِ الخفياتِ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} أتتْهُ السماءُ والأرضُ طائعةً، وتطامنَتِ الجبالُ لعَظمتهِ خاشعةً، ووكَفَتِ السماءُ لأمرِهِ دامعةً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ نبيَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، خاتمُ الأنبياءِ، وأكرمُ ماشٍ تحتَ أديمِ السماءِ. اللهم صلِ وسلِّمْ على نبيِ الرحمةِ، وعلى خيرِ صحبٍ وآلٍ منْ خيرِ أمةٍ. أما بعدُ: فالتقوَى التقوَى فهيَ على النجاةِ أقوَى.
قبلَ الهجرةِ بسنتينِ قدمَ إلى مكةَ سيدٌ من ساداتِ اليمنِ وشعرائِها يقالُ لهُ: (الطفيلُ بنُ عمروٍ الدوسيُّ)، فما إنْ وصلَ مكةَ حتى استقبلتُه قريشٌ استقبالًا يليقُ بسيادتِه، ثم إنهم حذَروهُ منْ رجلٍ منْ بنيْ هاشمٍ اسمُهُ محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ e قائلينَ لهُ: إِنَّمَا قَوْلُهُ كالسحرِ، وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ، فَلَا تكلِمَنَّه وَلَا تَسمَعَنَّ منهُ شيئًا([1]).
فخافَ بالفعلِ وقررَ أنْ يَلتزمَ بالتحذيراتِ المشددةِ من وَزارةِ الإعلامِ القُرَشيةِ، لدرجةٍ جعلتِ الطفيلَ يحشوْ أذنَيهِ بالقُطنِ؛ حتى لا يَسمعَ شيئًا منْ ذلكَ الرجلِ!
قَالَ: فغدوْتُ إلَى المسجدِ، فَقُمْتُ مِنْهُ قَرِيبًا، فَأَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي بعضَ قولِه، فَسَمِعْتُ كَلَامًا حَسَنًا. فَمَكَثْتُ حَتَّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ e، حَتَّى إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، إنَّ قومَكَ ما بَرِحُوا يخوِّفُونَني أمرَكَ، حَتَّى سَددْتُ أُذُنَيَّ بكُرْسُفٍ؛ لِئَلَّا أَسمعَ قَوْلَكَ، ثُمَّ أَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُسمِعَني قولَك، فَسَمِعْتُهُ قَوْلًا حَسَنًا، فَاعْرِضْ عليَّ أمرَكَ. فَعَرَضَ عليهِ رَسُولُ اللَّهِ e الإسلامَ، وَتَلَا عليهِ الْقُرْآنَ. فأسلمَ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الحقِّ([2]).
ثمَ رجعَ الطفيلُ بنُ عمروٍ الدوسيُّ إلى قبيلتِهِ، وأخذَ يَدعوهمْ للإسلامِ. [ولكنهُ ما لبِثَ أنْ رَجعَ] عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، (فقالُوا: إِنّا للهِ وإنّا إِليهِ راجعونَ، هلكَتْ دَوسٌ ورَبِّ الكعبةِ)([3]) ولكنَّ نبيَكَ e وهوَ الرحمةُ المُهداةُ للعالَمينَ قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ»([4]).
فرَجعَ الطفيلُ بهمةِ المتفائلِ المتفاعلِ، وما هيَ إلا بضعُ سنواتٍ، حتى جاءتْ السَنَةُ السابعةُ للهجرةِ، فتفاجأَ المسلمونَ بمجيئِ الطفيلِ بسبعينَ عائلةً دَوسيةً يمنيةً أسلَمُوا كلُهمْ على يديهِ([5])!
وقدْ كانَ مِن بينِهمْ شابٌ نحيلٌ لمْ يَتجاوَزْ السادسةَ والعشرينَ منْ عُمُرِهِ تبدُو عليهِ ملامحُ الفقرِ المُدْقعِ، إنه شابٌ اسمُهُ: (عبدُ الرحمنِ بنُ صخرٍ الدَّوسيُ)، لا يَملكُ حتى قوتَ يومهِ، ولا يَملكُ إلا هرةً صغيرةً يحمِلُها معهُ، فأصبحتْ فيما بعدُ أشهَرَ هرةٍ خلقَها اللَّهُ، فلقد كَنّى الناسُ هذا الشابَ الفقيرَ بأبيْ هريرةَ، ولذلكَ استَثمَرَ جُلَ وقتهِ في صحبةِ النبيِ e، يدورُ معهُ حيثُ دارَ، فعَلِمَ ما لم يَعلمُوا، وسَمِعَ ما لم يَسمعُوا. فكانَ روايةَ الإسلامِ بلا مُنازعٍ! حيثُ لا يَخلُو كتابٌ شرعيٌ إلا وفيهِ "عنْ أبيْ هُريرةَ".
ولو تأملْنا أبا هريرةَ فإنه لم يَصحَبْ رسولَ اللهِ e إلا أربعَ سنواتٍ فقطْ، منْ أصلِ ثلاثٍ وعشرينَ سنةً هيَ عُمُرُ الدعوةِ المحمديةِ، وهوَ معَ ذلكَ أكثرُ مَنْ نَقَلَ الحديثَ منَ الصحابةِ!. فكيفَ نُفسرُ ذلكَ؟! إنهُ بركةُ الأعمارِ والأعمالِ.
فجزاكَ اللَّهُ كلَ خيرٍ يا أبا هريرةَ لما قَدمتَهُ للإسلامِ وللمسلمينَ، وهنيئًا لكَ الجنةُ والرضوانُ وصحبةُ نبيِكَ في الدنيا وفي الجنةِ أيُها الإمامُ اليمانيُ الحافظُ.
لنقِفْ قليلًا ولنَعُدْ إلى قصةِ إسلامِ السيدِ الإمامِ والداعيةِ الهُمامِ الطفيلِ بنِ عمروٍ الدوسيِ رضيَ اللَّهُ عنهُ، فإنَ الملاحظةَ المهمةَ هيَ أنَ الكفارَ شوّهوا صورةَ رسولِ اللَّهِ e ولكنَّ الحقَ أبلجٌ، وإنْ بَهْرَجَ الباطلُ ولجْلَجَ.
والعبرةُ أنَ التشويهَ صارَ سببًا لإسلامهِ، بل ربّما لو لمْ تَذكرْ له قريشٌ محمدًا، لَمَا استمعَ إليهِ أصلاً. وكأنَ هذهِ القصةَ تفسرُ قولَ اللَّهِ تعالَى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ولاحِظْ كلمةً "بِأَفْوَاهِهِمْ"، والفمُ هو مصدرُ الكلامِ والدعاياتِ، فما أشبهَ اليومَ بالأمسِ!
وأسلمَ الطفيلُ، ولكنَه لم يَكتفِ بإسلامهِ، بل نَذرَ نفسَهُ للدعوةِ والصبرِ على الأذَى، فأكرمَهُ اللهُ بإسلامِ قبيلةِ بأَسْرِها، ولكنَ الكرامةَ الأعظمَ له منَ اللهِ أن يكونَ سببًا لإسلامِ رجلٍ هوَ أكثرُ ملازمةً وروايةً وحفظًا لأحاديثِ النبيِ e: إنه رَاويةُ الإسلامٍ أبو هريرةَ -رضيَ اللهُ عنهما-، وإنا لَنَحْسِبُ أنَ أبا هريرةَ وأعمالَه في ميزانِ حسناتِ الطفيلِ بنِ عمروٍ، {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد29].
اللَّهُمَّ صُبَّ عَليْنا الخَيْر صَبَّا صَبَّا، ولا تَجْعَل عَيْشَنَا كَدَّا كَدَّا.
اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا خَيْرَ ما عِنْدَكَ بِشَرِّ ما عِنْدَنَا.
اللهم اهدِ شبابَنا وشبابَ المسلمين. اللهم قِهمْ فِتنَ الشبهاتِ والشهواتِ.
اللهم احفظْ بلادَنا وبلادَ المسلمينَ. اللهم احفظنا والمسلمينَ أجمعينَ. واكفِنا شرَ الوباءِ بقدرتِكَ، وارفعهُ برحمتِكَ.
اللهم إنا نعوذُ بك مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.
اللهم وفِّقْ وليَّ أمرِنا ووليَّ عهدِه لما تحبُّ وترضَى، وخُذْ بناصيتِهِما للبرِّ والتقوى. وارزقهمْ بِطانةَ الصلاحِ والفلاحِ.
اللهم احفظْ أبطالَ الأمنِ والصِّحةِ، وسددْ أبطالَ التعليمِ.
أستغفرُ اللهَ الحيَ القيومَ.. اللهم أسقِنا..
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ. وأقمِ الصلاةَ إنَّ الصلاةَ تَنهَى عنِ الفحشاءِ والمنكرِ، ولَذِكرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعونَ.
([1])سيرة ابن هشام ت طه عبد الرؤوف سعد (2/ 22)
المرفقات
أبِي-هُرَيْرَةَ
أبِي-هُرَيْرَةَ
أبِي-هُرَيْرَةَ-2
أبِي-هُرَيْرَةَ-2