عندما يخرس اللسان

[align=justify]عندما يخرس اللسان
الإنسان في هذه الدار يعمل ويبذل، وإذا خرج من دنياه حصد ما عمل، وجني ثمار ما فعل، فإن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر ، ومن هنا كان لازمًا على كل مؤمن أن يحاسب نفسه، ويراجع حاله، وينظر استقامته على شرع ربه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من دنياه، روى الإمامُ الترمذيُّ في جامعه بإسناده حديثًا وحَسَّنَهُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ) .
قال الإمام الترمذي: "وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَنْ دَانَ نَفْسَهُ يَقُولُ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ يَوْمَ القِيَامَةِ. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، قَالَ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا. وَيُرْوَى عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: لاَ يَكُونُ العَبْدُ تَقِيًّا حَتَّى يُحَاسِبَ نَفْسَهُ كَمَا يُحَاسِبُ شَرِيكَهُ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ وَمَلْبَسُهُ" .
فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، وما قدمناه مسجل في صحائفنا، وستعرض علينا أعمالنا ولا يظلم ربك أحدًا، (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
إخوة الإيمان، إذا علمنا أننا مطالبون بمحاسبة أنفسنا، فإن أولى ما ينبغي نقف معه من الجوارح: اللسان، وسبحان الله! عضلة صغيرة في الجسم غير أن تأثيرها جسيم، وأمرها عظيم، فهي إما أن ترفع من شأن الإنسان عند الله، وإما أن تورده المهالك؛ كما قال الصِّدِّيقُ رضي الله عنه حين رآه عمرُ "وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَهْ، غَفَرَ اللهُ لَكَ! فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ هذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ" . الله أكبر! إذا كان هذا حال الصِّدَّيق رضي الله عنه وأرضاه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من هو في الدين والفضل والسابقة يخاف من لسانه، فكيف بحالنا وحال ألسنتنا؟! نسأل الله تعالى اللطف .
لقد أدرك أبو بكر رضي الله عنه خطورة اللسان، وكيف لا يدرك وقدوته رسول الله؟! كيف لا يعرف ومعلمه خير خلق الله؟! وهذه سيرته صلى الله عليه وسلم تنطق بعفة لسانه وأدب بيانه فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ: (إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا) ، وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا، وَلاَ لَعَّانًا، وَلاَ سَبَّابًا .
فأين نحن يا عباد الله من أخلاق رسول الله صلى الله وسلم؟ وأين نحن ممن سَلَّطَ لسانه على خلق الله بالسب واللعن؟! وأين نحن ممن وطَّنَ لسانه على الكلام في الناس غيبة ونميمة؟! وأين نحن ممن يكذب ولا يصدق في حديثه؟! وأين نحن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وأين نحن من أمره جَلَّ جلاله (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة: 83]؟! وأمره صلى الله عليه وسلم كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ) ؟!
أيها المؤمنون: إن من وجد لذة الإيمان خاف في يوم الموقف من الملك الدَّيَّان، فلا تراه إلا مراقبًا للسانه؛ لأنه يعلم أنه محاسب على كل كلمة يتلفظ بها؛ كما قال سبحانه: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، فتجده لا يقول كلمة إلا بعد التفكر والتأمل؛ حتى لا يزل لسانه ويزل في نار جهنم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ) ، وفي رواية مسلم في صحيحه: (أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) . أرأيت يا عبد الله عاقبة من يلقى الكلام جُزَافًا بلا تأمل أو تدبر، فمن منا يستطيع أن يتحمل نار الدنيا؟! لا أحد، فكيف بنار الآخرة؟! إن غاية ما يتمناه الإنسان أن يزحزح عن النار، يدخل الجنة، وإن من أسباب ذلك: حفظ اللسان، روى سهل بن سعد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ) .
إخوة الإيمان: لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يخاف على أصحابه الكرام من انفلات اللسان وعدم ضبطه، وكان يحثهم على كفِّه، فهذا سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ الله، حدِّثني بأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: (قلْ: رَبِّيَ اللهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ)، قُلْتُ: يَا رسولَ اللهِ، مَا أخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ بِلِسانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: (هَذَا) .
وفي قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه الشهيرة حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار؟ فعدَّد الله النبي صلى الله عليه وسلم جملة من الأعمال ثُمَّ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟) قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: (كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا)، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟! فَقَالَ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ _أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ_ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) . نسأل الله السلامة والحفظ.
أيها المسلمون: هذه دعوة لنا لحفظ ألسنتنا عن كل ما حرم الله، وعن كل ما لا فائدة فيه، فنجاهد أنفسنا، ونبذل جهدنا في استقامة ألسنتنا، ولا نقل أن الأمر صعب عسير، بل علينا أن نستعن بالله ولا نعجز، فالخير كل الخير في ضبط ألسنتنا، وهو عين الورع وأشده، قال الحَسَنُ بنُ صَالِحٍ: "فَتَّشتُ الوَرَعَ، فَلَمْ أَجِدْهُ فِي شَيْءٍ أَقَلَّ مِنَ اللِّسَانِ" . وقال الفضيل: "أَشدُّ الوَرَعِ فِي اللِّسَانِ" .
عصم الله ألسنتنا من كل سوء، وجعلها بالخير ناطقة، وعن الفحش مجانبة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
لعظم أمر اللسان وخطورته جاء تحذير الأعضاء من انفلاته وعدم ضبطه، والتذكير من مغبته وعاقبة فعله، فهاهي تقول لنا في كل صباح كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَفَعَهُ، قَالَ: (إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ ، فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا) .
فأعضاؤنا تناشدنا في الدنيا قبل أن تشهدَ علينا في الآخرة، وتطلب منا أن نستقيم على شرع الله، ومنهج الله قبل أن تخرس ولا تنطق، وتشهد علينا جوارحنا بما فعلنا (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس:65]. وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ، فَقَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟) قَالَ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي، قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا، قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، قَالَ فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ) . نسأل الله السلامة والعافية.
إذا رُمْتَ أَنْ تَحْيَا سَلِيمًا مِنَ الأَذَى .. وَدِينُكَ مَوْفورٌ وعِرْضُكَ صَيِّنُ
لِسَانُكَ لا تَذْكُرْ بِهِ عَوْرَةَ امْرِئٍ .. فَكُلُّكَ عَوْرَاتٌ وللنَّاسِ أَلْسُنُ
وعَيْنَاكَ إنْ أَبْدَتْ إلَيْكَ مَعَايبًا .. فَدَعْهَا وَقُلْ يا عَيْنُ للنَّاسِ أَعْيُنُ
وعَاشِرْ بمَعْرُوفٍ وسَامِحْ مَنِ اعْتَدَى .. وَدَافِعْ وَلكنْ بالتِي هي أَحْسَنُ
رزقني الله وإياكم طهارة القلب، وسلامة اللسان.
أيها المسلمون: صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
[/align]
المرفقات

عندما يخرس اللسان.docx

عندما يخرس اللسان.docx

المشاهدات 1307 | التعليقات 0