" عندما تحلُّ السكينةُ في القلب"

عبدالمحسن بن محمد العامر
1444/05/01 - 2022/11/25 00:37AM

الحمدُ للهِ منزلِ السكينةِ في قلوبِ المؤمنينَ؛ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له؛ هَدَى مَنْ شاء وأصلحَ بالَهم، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومَنْ تبعهم بإحسانٍ واقتفى أثرهم ..

أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ؛ أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ، فتقوى اللهِ نورٌ وبصيرةٌ، وهي خيرُ الزادِ والذخيرةِ "وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ"

معاشرَ المؤمنين: عندما تحلّ السكينةُ في القلبِ؛ تأتي معها الطمأنينةُ، وبعدَها يتبصّرُ العقلُ ويستنيرُ، وتهدأ الجوارحُ، وينشرحُ الصدرُ، وتستقرُّ النفسُ.

السكينةُ في القلبِ؛ نعمةُ مِنْ اللهِ عُظْمى، يُنْزِلُها في قلوبِ مَنْ يشاءُ مِنْ عبادِه، ومنّةٌ كبرى يتفضّلُ بها على مَنْ يختارُ مِنْ خلقِه. قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ في شرحِ منزلةِ "السكينةِ" (هذه المنزلةُ مِنْ منازلِ المواهبِ، لا مِنْ منازلِ المكاسِبِ) ثمَّ قالَ ــ رحمهُ اللهُ ــ وأصلُ السَّكينةِ؛ هي الطمأنينةُ والوقارُ والسكونُ الذي يُنْزِلُه اللهُ في قلبِ عبدِه عندَ اضْطِرابِهِ مِنْ شِدّةِ المخاوُفِ، فلا ينزعجُ بعد ذلك لِمَا يَرِدُ عليه، ويوجبُ له زيادةَ الإيمانِ، وقوةَ اليقينِ، والثباتَ. ثُمَّ قالَ رحمه اللهُ: وفي الصحيحين عن البراءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنهما قالَ: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ينقلُ مِنْ ترابِ الخندقِ حتى وارى الترابُ جلْدةَ بطْنِه وهو يَرْتَجِزُ بكلمةِ عبدِ اللهِ بنِ رَوَاحَةَ رضي اللهُ عنه :

اللهمَّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلنْ سكينةً علينا ... وثبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقينا

إنَّ الأُلى قدْ بغوا علينا ... وإنْ أرادوا فتنةً أبينا

وقال رحمه اللهُ في موضعٍ آخر: (السَّكِينَةُ إذا نزلتْ على القلبِ اطمأنَ بها، وسكنتْ إليها الجوارحُ، وخشعتْ، واكتسبتْ الوَقَارَ، وأنطقتِ اللِّسانَ بالصَّوابِ والحِكْمةِ، وحالتْ بينَه وبينَ قولِ الخَنَا والفُحْشِ، واللَّغوِ والهَجْرِ وكلِّ باطلٍ( انتهى كلامُه رحمه الله

قالَ ابنُ عبّاسٍ رضي اللهُ عنهما: كلُّ سكينةٍ في القرآنِ فهي طمأنينةٌ، إلا التي في سورةِ البقرةِ.

نعم ــ عبادَ اللهِ ــ عندما تحلُّ السكينةُ في القلبِ، يحلُّ به الأمْنُ والأمانُ، ويَقِرُ به الأنسُ والسعادةُ، ويسكنُه الرضا والقناعة، وتهونُ عليه المصائبُ والشدائدُ، ويرحلُ عنه السُّخطُ والضجرُ، ويبعِدُ عنه الغلُّ والحقدُ والحسدُ، وتُجانِبُه الكراهيةُ والبغضاء، ويصْبغُه البياضُ والصفاءُ، وتكسوهُ السلامةُ والنقاءُ.

عبادَ اللهِ ــ أمرنا رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم بالسكينةِ عند مَجِيئنا للصلاةِ؛ فقالَ: "إذا سمعتُم الإقامةَ فامشُوا إلى الصلاةِ وعليكم السَّكينةُ والوقارُ ولا تُسرِعوا ، فما أدركتُم فصلُّوا ، وما فاتَكم فأتِمُّوا" رواه البخاريُّ ومسلمٌ

 فالإتيانَ والمجيئُ وسيلةٌ للصلاةِ، والوسائلُ لها أحكامُ المقاصدِ، والطمأنينةُ في الصلاةِ ركنٌ مِنْ أركانِها، والصلاةُ عمودُ الدِّيْنِ، كما قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "رأسُ الأمرِ الإسلامُ ، وعمودُهُ الصَّلاةُ ، وذِروةُ سَنامِهِ الجِهادُ" رواه الترمذيُّ وصححه الألبانيُّ، فإذا أدى العبدُ صلاته بسكينةٍ ووقارٍ، حلّتْ عليه الطمأنينةُ، في ديْنِه وفي حياتِه كلِّها، لأنَّ العمودَ اطمأنَّ وسَكَنَ، وسكونُ العمودِ ينعكسُ على سكونِ ما بُنيَ عليه، واضطرابُه واهتزازُه يُؤثرُ كذلك فيه، فلا غروَ إنْ اضطربتْ واهتزّتْ حالُ من ضيّع صلاتَه، وفارقتْ السكينةُ والطمأنينةُ قلبَه، وتنغّصتْ حياتُه.

وحينَ انصرفَ عليه الصلاةُ والسلامُ مِنْ عرفةَ سَمِعَ مِنْ ورائه زجراً شديداً وضرباً وصوتاً للإبلِ؛ "فأشَارَ بسَوطِهِ إليهمْ، وقالَ : أيُّها الناسُ، عليكم بالسَّكِينَةِ" رواه البخاريُّ

فالسكينةُ سلوكٌ قلبيٌّ ينعكسُ على ظاهرِ المؤمنِ في كلِّ أحوالِه؛ لا تثيرُه الجموعُ، ولا يَحْمِلُه التيّارُ نحو خَلْعِ جلبابِ السكينةِ؛ قالَ الله تعالى واصفاً حالَ المؤمنين في طريقةِ مشيهِم: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا" قالَ الطبريُّ رحمه الله: (بالحِلْمِ والسّكِيْنَةِ والوَقارِ؛ غيرَ مُسْتَكْبِرِيْنَ، ولا مُتَجَبِّرِيْنَ، ولا ساعِيْنَ فيها بالفسادِ ومعاصِي الله(

بارك الله لي ولكم بالكتابِ والسنةِ ونفعنا بما صرّف فيهما مِنْ العِبَرِ والحكمةِ ..

أقولُ ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ وليِّ المؤمنين، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له الإله الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين، وعلى الصحابَةِ والتابعين، وعلى مَنْ تبعهم إلى يومِ الدينِ..

أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا الله "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ"

معاشرَ المؤمنين: إنَّ الأمرَ الذي اجتمعَ عليه الناسُ جميعاً مؤمنُهم وكافرُهم، غنيُّهم وفقيرُهم، شريفهم و وضيعُهم، هو طلبُ الطمأنينةِ وتمني نزولِ السكينةِ في القلوبِ.

وهذا لا يتأتى إلا للمؤمنين المخلصين، الذينَ تعلقتْ قلوبُهم باللهِ، وعرفوا اللهَ في رخائهم، وأطاعوه في حالِ صحتِهم وعافيَتِهم، فهؤلاءِ يتحقَّقُ فيهم قولُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك" رواه الترمذي وقال حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

والمتأمّلُ في آياتِ السكينةِ في القرآنِ الكريمِ يجدْ أنَّ اللهَ أنزلها على رسولِه وعلى المؤمنين في حالِ شدّةٍ وضِيْقٍ، وفي موقِفِ انحسارٍ وانكسارٍ، وبهذا نعْلمُ أنَّ تِلْكُمُ السكينةَ لا تعني البرودَ والخمولَ، ولا تعني الكسلَ وعدمَ الشعورِ، ولا تعني التخديرَ والبلادةَ، لا؛ بل تعني الثباتَ والقوّة، والصمودَ والشجاعةَ، والتحمُّلَ والرسوخَ، ومِنْ ثَمَّ الفوزُ والنصرُ، قالَ اللهُ تعالى عن الذي جرى لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يومَ حنين: "ثمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ" قالَ القرطبيُّ: (أي: أنزلَ عليهم ما يسكِّنُهمْ ويُذْهِبُ خوفَهم، حتى اجترءوا على قتالِ المشركين بعدَ أنْ ولّوا (وقال تعالى عن رسولِه صلى الله عليه وسلم:" إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا" وقال تعالى عن المؤمنين "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ" قال الكلبيُّ: هذا في أمرِ الحُدِيْبِيَةِ حينَ صَدَقَ اللهُ رسولَه الرؤيا بالحقِّ .

وقالَ تعالى "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" قالَ ابنُ كثيرٍ رحمه اللهُ: (وهو ما أجرى اللهُ على أيديِهمْ مِنْ الصّلْحِ بينهم وبينَ أعدائهم، وما حصلَ بذلك مِنَ الخيرِ العامِّ المستمرِّ المتصلِ بفتحِ خيْبَرَ وفتحِ مكةَ، ثمَّ فتحِ سائرِ البلادِ والأقاليمِ عليهم، وما حصلَ لهمْ مِنَ العزِّ والنَّصْرِ والرِّفْعَةِ في الدنيا والآخرة)

قالَ ابنُ القيّمِ رحمه اللهُ ):ففي القلبِ شعثٌ: لا يلمُّه إلا الإقبالُ على اللهِ، وفيه وحشةٌ لا يُزِيْلُها إلا الأنسُ به في خلْوتِه، وفيه حزنٌ لا يُذْهِبُه إلا السّرورُ بمعرِفَتِهِ وصِدْقِ معامَلَتِه، وفيه قلقٌ لا يُسَكِّنُه إلا الاجتماعُ عليه والفرارُ مِنْهُ إليه، وفيه نِيْرَانُ حَسَرَاتٍ لا يُطْفِئُها إلا الرِّضا بأمْرِه ونهيِه وقضائِه ومعانَقَةِ الصَّبْرِ على ذلك إلى وقتِ لقائِه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقفُ دونَ أنْ يكونَ هو وحدُه المطلوبَ، وفيه فاقةٌ لا يَسُدُّها الا محبتُه ودوامُ ذِكْرِهِ والإخلاصِ له، ولو أُعطيَ الدنيا وما فيها لَمْ تُسَدَّ تلكَ الفاقةُ أبداً)

هذا وصلوا وسلموا ...

 

 

المشاهدات 1141 | التعليقات 0