عمل رمضان يُظهَر أم يُخفَى؟
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1435/09/13 - 2014/07/10 08:53AM
عمل رمضان يُظهَر أم يُخفَى؟
13/9/1435
الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ؛ يَعْلَمُ مَا فِي الْقُلُوبِ، وَمَا تُخْفِيهِ الصُّدُورُ، وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، نَحْمَدُهُ عَلَى رَحْمَتِهِ بِنَا، وَنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا، وَلُطْفِهِ فِينَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ مِنَحٌ وَعَطَايَا، وَهِبَاتٌ وَهَدَايَا لَا يَتَعَرَّضُ لَهَا إِلَّا الْمُوَفَّقُونَ، وَيُصْرَفُ عَنْهَا الْمَخْذُولُونَ، فَاللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمُوَفَّقِينَ، وَجَنِّبْنَا طُرُقَ الْمَخْذُولِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ «كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمُرُوا هَذِهِ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ بِطَاعَتِهِ، وَاشْتَغِلُوا بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ؛ فَإِنَّكُمْ تَسْتَقْبِلُونَ أَفْضَلَ اللَّيَالِي، فُضِّلَتْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يُعْطِي لَيْلَةً بِثَلَاثِينَ أَلْفَ لَيْلَةٍ إِلَّا الْجَوَّادُ الْكَرِيمُ، الرَّبُّ الرَّحِيمُ، وَحَرِيٌّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يُدْرِكَهَا وَهُوَ خَالِي الْقَلْبِ لَهَا، وَلَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ خَالِيًا لَهَا إِلَّا إِذَا اشْتَاقَ إِلَيْهَا، وَلَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مُشْتَاقًا إِلَيْهَا إِلَّا إِذَا تَطَهَّرَ مِنْ أَدْرَانِهِ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِتَرْوِيضِ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنَ الْآنَ، فَلَا تَأْتِي الْعَشْرُ عَلَى الْعَبْدِ إِلَّا وَشَوْقُهُ لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ شَدِيدٌ، وَرَغْبَتُهُ فِيهَا عَظِيمَةٌ، وَلَنْ يَخْذُلَ اللهُ تَعَالَى عَبْدًا مَا دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ إِلَّا وَهُوَ يَطْلُبُهَا، وَيَشْتَاقُ إِلَيْهَا، وَيُرَوِّضُ نَفْسَهُ الشَّهْرَ كُلَّهُ عَلَى إِدْرَاكِهَا وَالْعَمَلِ فِيهَا، وَلَوْ قِيلَ لِلْعَبْدِ: شَهْرٌ بِأَلْفِ شَهْرٍ لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الرِّبْحِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ لَيْلَةٍ، فَلْنُوَطِّنْ أَنْفُسَنَا عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنَ الْآنَ، وَنُجَانِبْ مَجَالِسَ اللَّهْوِ وَاللَّغْوِ وَالْخُسْرَانِ {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
أَيُّهَا النَّاسُ: صِيَامُ رَمَضَانَ شَعِيرَةٌ مِنَ الشَّعَائِرِ، وَالشَّعَائِرُ هِيَ الْأَعْلَامُ الظَّاهِرَةُ، وَظُهُورُ الْعِبَادَاتِ فِي رَمَضَانَ لَا يَخْفَى حَتَّى عَلَى الْكُفَّارِ؛ إِذْ يَعْلَمُ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِدُخُولِ رَمَضَانَ؛ لِمَا يَحْتَفَّ بِهِ مِنَ الشَّعَائِرِ، سَوَاءً فِي تَرَائِي الْهِلَالِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، أَوْ فِي مَظَاهِرِ الْإِفْطَارِ الْجَمَاعِيِّ، أَوْ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِهِ، أَوْ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ الَّتِي يَرَى النَّاسُ فِيهَا أَطْعِمَةَ الْفِطْرِ تَمْلَأُ الْأَسْوَاقَ.
وَكَوْنُ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادَاتِ رَمَضَانَ ظَاهِرًا أَوْجَدَ حَرَجًا فِي نُفُوسِ بَعْضِ الْمُخْلِصِينَ مِنْ إِظْهَارِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَ أَنَّ إِخْفَاءَهُ أَكْثَرُ إِخْلَاصًا، وَأَوْجَدَ أَيْضًا طَرِيقًا لِلْمُرَائِينَ بِمَا يَتَكَلَّفُونَهُ مِنْ إِظْهَارِ أَعْمَالِهِمْ وَإِحْسَانِهِمْ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي هَذَا الْبَابِ الْعَظِيمِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ يَجِدْ أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٍ يُظْهَرُ وَنَوْعٍ يُخْفَى، وَالنَّوْعُ الَّذِي يُظْهَرُ هُوَ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ الَّتِي قَصَدَ الشَّرْعُ إِظْهَارَهَا؛ تَعْظِيمًا للهِ تَعَالَى، وَتَكْبِيرًا لَهُ، وَهِيَ الْعِبَادَاتُ الَّتِي يُشْرَعُ الِاجْتِمَاعُ لَهَا سَوَاءً عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ كَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَوْ عَلَى وَجْهِ السُّنِّيَّةِ كَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، فَلَا يُهْجَرُ الْمَسْجِدُ بِحُجَّةِ أَنَّ هَاجِرَهُ يُرِيدُ أَنْ يُخْفِيَ عَمَلَهُ؛ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ يَسْتَوِي فِي إِظْهَارِهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ فِي مَنْزِلِهِ لِئَلَّا يُرَائِيَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا شَعِيرَةُ رَمَضَانَ الظَّاهِرَةُ، الَّتِي شَرَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الظُّهُورِ، وَأَحْيَاهَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ كُلُّ شَعِيرَةٍ ظَاهِرَةٍ يُجْتَمَعُ لَهَا. وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ.
وَيُشْرَعُ إِظْهَارُ الْعَمَلِ، وَقَدْ يَجِبُ أَوْ يُنْدَبُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ وَرَاءِ إِظْهَارِهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ؛ كَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِظْهَارِهِ وَإِفْشَائِهِ، وَكَشَخْصٍ يُقْتَدَى بِهِ لِمَنْزِلَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ فَيُظْهِرُ الْعَمَلَ لِيُقْتَدَى بِهِ فِي الْخَيْرِ. وَعَلَيْهِ إِذَا أَظْهَرَهُ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْإِخْلَاصِ فَإِنَّ مَدْخَلَ الشَّيْطَانِ هُنَا بِالرِّيَاءِ أَوْسَعُ مِنْ دُخُولِهِ عَلَيْهِ فِي الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ. وَضَابِطُ ذَلِكَ: أَنْ يَسْتَوِيَ فِي قَلْبِهِ عِلْمُ النَّاسِ بِعَمَلِهِ وَعَدَمُ عِلْمِهِمْ بِهِ. وَدَلِيلُ مَشْرُوِعِيَّةِ إِظْهَارِ الْعَمَلِ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» قَالَهُ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى التَّبَرُّعِ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِصُرَّةٍ كَبِيرَةٍ فَقَلَّدَهُ النَّاسُ وَتَتَابَعُوا عَلَى الصَّدَقَةِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ مِنَ الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ، وَلَا مَصْلَحَةَ فِي إِظْهَارِهِ؛ فَإِنَّ كَمَالَ الْإِخْلَاصِ فِي التَّخَفِّي بِهِ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] أَيْ: فَإِخْفَاؤُكُمْ إِيَّاهَا خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِعْلَانِهَا. وَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ أَوْصَافِ التَّخَفِّي بِالصَّدَقَةِ، وَهِيَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ غَنِيًّا، وَمُنْفِقًا فِي الْخَيْرِ كُلَّ أَوَانٍ، فَهَذَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ التَّخَفِّي بِالصَّدَقَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَقْصِدًا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَقَدْ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]، وَكَوْنُهُمْ يُنْفِقُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَسِرًّا وَعَلَانِيَةً يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ إِنْفَاقِهِمْ، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِخْفَاءَ كُلِّ إِنْفَاقِهِمْ مِنْ كَثْرَتِهِ. وَفِي آيَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} [الرعد: 22] [فاطر: 29، 30]، بَلْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} [إبراهيم: 31].
وَيُلَاحَظُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَقْدِيمُ إِنْفَاقِ السِّرِّ عَلَى إِنْفَاقِ الْعَلَانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ، فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْعَلَهُ أَصْلًا فِي نَفَقَاتِهِ، وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا لَا يَضُرُّهُ إِذَا لَمْ يُرَاءِ بِهِ.
وَلَيْسَ كُلُّ نَفَقَةٍ يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ أَنْ يُخْفِيَهَا؛ فَنَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ تَدْخُلُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَانِيَةً، وَمَدْخَلُ الرِّيَاءِ فِيهَا مَعْدُومٌ أَوْ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يُنْفِقُونَ عَلَى أَهْلِهِمْ وَعِيَالِهِمْ. كَمَا أَنَّ زَكَاةَ الْفَرْضِ مَدْخَلُ الرِّيَاءِ فِيهَا ضَعِيفٌ، وَكَذَلِكَ زَكَاةُ الْفِطْرِ.
وَفِي إِظْهَارِ الصَّدَقَةِ أَوِ النَّفَقَةِ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى وَالْجِيرَانِ وَعُمُومِ الْفُقَرَاءِ أَذًى لَهُمْ؛ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ فَاقَتَهُمْ، وَتُهْدِرُ كَرَامَتَهُمْ، وَتَدُلُّ النَّاسَ عَلَى ذُلِّهِمْ؛ فَكَانَ إِخْفَاؤُهَا مُتَأَكِّدًا؛ لِئَلَّا تَتَحَوَّلَ إِلَى صَدَقَةِ مَنٍّ وَأَذًى.
هَذَا؛ وَالْمُبَالَغَةُ فِي إِخْفَاءِ كُلِّ نَفَقَةٍ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ إِظْهَارِ نِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ، كَمَا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي إِظْهَارِهَا تُؤَدِّي إِلَى الرِّيَاءِ.
وَمِنْ آكَدِ أَعْمَالِ رَمَضَانَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالْأَصْلُ الِاسْتِخْفَاءُ بِهِ كَمَا جَاءَ عَنْ عَدَدٍ مِنَ السَّلَفِ، فَرَوى أَحْمَدُ عَنْ سُرِّيَّةِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، قَالَتْ: «كَانَ عَمَلُ الرَّبِيعِ كُلُّهُ سِرًّا، إِنْ كَانَ لَيَجِيءُ الرَّجُلُ وَقَدْ نَشَرَ الْمُصْحَفَ فَيُغَطِّيهِ بِثَوْبِهِ».
وَقَالَ الْأَعْمَشِ: كُنْتُ عِنْدَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ، فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ فَغَطَّى الْمُصْحَفَ، وَقَالَ: لَا يَظُنُّ أَنِّي أَقْرَأُ فِيهِ كُلَّ سَاعَةٍ.
فَإِذَا كَانَ يَسْتَطِيعُ الْقِرَاءَةَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ فَذَلِكَ أَخْلَصُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ خَلْوَتُهُ بِنَفْسِهِ تُصِيبُهُ بِالسَّأَمِ حَتَّى يَتْرُكَ الْقِرَاءَةَ؛ لَزِمَ الْمَسْجِدَ مَعَ النَّاسِ لِيَنْشَطَ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَلَا يَتْرُكَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ كَمَالَ الْإِخْلَاصِ فَيَتْرُكُ كُلَّ الْعَمَلِ، وَلُزُومُ الْمَسْجِدِ أَحْفَظُ لِلصَّائِمِ، وَأَنْشَطُ لَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ، كَمَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ يَلْزَمُونَ الْمَسْجِدَ وَيَقُولُونَ: نَحْفَظُ صِيَامَنَا.
وَمِنْ أَعْمَالِ رَمَضَانَ: صَلَاةُ التَّطَوُّعِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَنْزِلِ إِلَّا مَا شُرِعَ لَهُ الْجَمَاعَةُ كَالتَّرَاوِيحِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ: صَحِبتُ مُحَمَّدَ بنَ أَسْلَمَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِيْنَ سَنَةً لَمْ أَرَهُ يُصَلِّي حَيْثُ أَرَاهُ رَكْعَتَيْنِ مِنَ التَّطَوُّعِ إِلاَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَسَمِعتُهُ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً يَحْلِفُ: لَوْ قَدِرتُ أَنْ أَتَطَوَّعَ حَيْثُ لاَ يَرَانِي مَلَكَايَ لَفَعَلْتُ خَوْفًا مِنَ الرِّيَاءِ... وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخرُجَ غَسَلَ وَجْهَهُ، وَاكتَحَلَ، فَلاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ البُكَاءِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ مِنَ الصَّوَارِفِ مَا يَصْرِفُهُ عَنِ التَّطَوُّعِ بِالصَّلَاةِ، فَيُصَلِّي مَا شَاءَ مِنْ تَطَوُّعٍ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ إِظْهَارَ الْعَمَلِ مَعَ الِاجْتِهَادِ فِي الْإِخْلَاصِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ خَوْفًا مِنَ الرِّيَاءِ، قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ».
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا الْإِخْلَاصَ فِي أَعْمَالِنَا كُلِّهَا، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ فِي عَمَلِنَا شَيْئًا لِأَحَدٍ سِوَاهُ، وَأَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ فِي قُبَالَةِ عَشْرٍ مُبَارَكَةٍ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ»، وَكَانَ يَخُصُّهَا بِالِاعْتِكَافِ تَحَرِّيًا لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَحَقُّهَا أَنْ يَتَفَرَّغَ الْمُؤْمِنُ لَهَا تَفَرُّغًا كَامِلًا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الِاعْتِكَافِ فَهُوَ الْأَفْضَلُ، وَإِلَّا قَضَى أَكْثَرَ وَقْتِهِ فِي مَسْجِدِهِ، فَنَشَرَ مُصْحَفَهُ، وَأَسْبَلَ دَمْعَهُ، وَأَلَحَّ فِي دَعْوَتِهِ، وَعَلَّقَ قَلْبَهُ بِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَنْتَشِرُ فِي رَمَضَانَ مَظَاهِرُ الْإِحْسَانِ، وَيَتَسَابَقُ النَّاسُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى التَّرَاوِيحِ، وَلَكِنْ يَشُوبُ بَعْضَ أَعْمَالِهِمْ شَوَائِبُ يُخْشَى عَلَى الْعَمَلِ مِنْهَا:
فَأُنَاسٌ يُفَاخِرُونَ بِمَوَائِدِ إِفْطَارِهِمُ الَّتِي يَمُدُّونَهَا، وَرُبَّمَا وَضَعُوا عَلَيْهَا لَافِتَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا قَدْ يُنَافِي الْإِخْلَاصَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ مَصْلَحَةٌ، وَقَدْ يُصَاحِبُهَا سَرَفٌ فِي تَقْدِيمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى إِهْدَارِ النِّعَمِ وَرَمْيِهَا؛ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَنْ تَنْقَلِبَ مَوَائِدُ الْإِفْطَارِ مِنْ مَجَالِ الْإِحْسَانِ إِلَى الرِّيَاءِ وَالْكُفْرَانِ.
وَآخَرُونَ يُفَاخِرُونَ بِعَدَدِ خَتَمَاتِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَيُخْبِرُونَ غَيْرَهُمْ بِهَا تَصْرِيحًا أَوْ تَلْمِيحًا، مَعَ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ، وَالْقَارِئُ يَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ للهِ تَعَالَى لَا لِلنَّاسِ. وَرُبَّمَا كَانَتْ قَِرَاءَتُهُ هَذًّا لَا خُشُوعَ فِيهَا وَلَا تَدَبُّرَ، وَهَؤُلَاءِ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ.
وَآخَرُونَ يَتَلَمَّسُونَ الصَّلَاةَ مَعَ مَشَاهِيرِ الْقُرَّاءِ، لَا طَلَبًا لِلْخُشُوعِ وَالتَّدَبُّرِ، وَإِنَّمَا لِيُخْبِرَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ فُلَانٍ، وَتَمُرُّ عَلَيْهِ لَيَالِي رَمَضَانَ وَهُوَ لَمْ يَسْمَعِ الْقُرْآنَ مِنْ قَارِئٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لَهُ مَسْجِدٌ.
وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُخْفِيَ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، وَأَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهَا، وَأَنْ يَتَرَقَّى فِي دَرَجَاتِ الْإِخْلَاصِ حَتَّى يَسْتَوِيَ فِي قَلْبِهِ عِلْمُ النَّاسِ بِعَمَلِهِ وَعَدَمُ عِلْمِهِمْ بِهِ، وَيَتَرَقَّى أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ حَتَّى يَبْلُغَ دَرَجَةً مِنَ الْإِخْلَاصِ يَسْتَوِي فِي نَفْسِهِ مَدْحُ النَّاسِ وَذَمُّهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُعَامِلُ اللهَ تَعَالَى وَلَا يُعَامِلُ الْخَلْقَ، وَيَرْجُو أَجْرَهُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لَا مِنْهُمْ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] .
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
13/9/1435
الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ؛ يَعْلَمُ مَا فِي الْقُلُوبِ، وَمَا تُخْفِيهِ الصُّدُورُ، وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، نَحْمَدُهُ عَلَى رَحْمَتِهِ بِنَا، وَنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا، وَلُطْفِهِ فِينَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ مِنَحٌ وَعَطَايَا، وَهِبَاتٌ وَهَدَايَا لَا يَتَعَرَّضُ لَهَا إِلَّا الْمُوَفَّقُونَ، وَيُصْرَفُ عَنْهَا الْمَخْذُولُونَ، فَاللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمُوَفَّقِينَ، وَجَنِّبْنَا طُرُقَ الْمَخْذُولِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ «كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمُرُوا هَذِهِ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ بِطَاعَتِهِ، وَاشْتَغِلُوا بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ؛ فَإِنَّكُمْ تَسْتَقْبِلُونَ أَفْضَلَ اللَّيَالِي، فُضِّلَتْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يُعْطِي لَيْلَةً بِثَلَاثِينَ أَلْفَ لَيْلَةٍ إِلَّا الْجَوَّادُ الْكَرِيمُ، الرَّبُّ الرَّحِيمُ، وَحَرِيٌّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يُدْرِكَهَا وَهُوَ خَالِي الْقَلْبِ لَهَا، وَلَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ خَالِيًا لَهَا إِلَّا إِذَا اشْتَاقَ إِلَيْهَا، وَلَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مُشْتَاقًا إِلَيْهَا إِلَّا إِذَا تَطَهَّرَ مِنْ أَدْرَانِهِ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِتَرْوِيضِ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنَ الْآنَ، فَلَا تَأْتِي الْعَشْرُ عَلَى الْعَبْدِ إِلَّا وَشَوْقُهُ لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ شَدِيدٌ، وَرَغْبَتُهُ فِيهَا عَظِيمَةٌ، وَلَنْ يَخْذُلَ اللهُ تَعَالَى عَبْدًا مَا دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ إِلَّا وَهُوَ يَطْلُبُهَا، وَيَشْتَاقُ إِلَيْهَا، وَيُرَوِّضُ نَفْسَهُ الشَّهْرَ كُلَّهُ عَلَى إِدْرَاكِهَا وَالْعَمَلِ فِيهَا، وَلَوْ قِيلَ لِلْعَبْدِ: شَهْرٌ بِأَلْفِ شَهْرٍ لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الرِّبْحِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ لَيْلَةٍ، فَلْنُوَطِّنْ أَنْفُسَنَا عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنَ الْآنَ، وَنُجَانِبْ مَجَالِسَ اللَّهْوِ وَاللَّغْوِ وَالْخُسْرَانِ {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
أَيُّهَا النَّاسُ: صِيَامُ رَمَضَانَ شَعِيرَةٌ مِنَ الشَّعَائِرِ، وَالشَّعَائِرُ هِيَ الْأَعْلَامُ الظَّاهِرَةُ، وَظُهُورُ الْعِبَادَاتِ فِي رَمَضَانَ لَا يَخْفَى حَتَّى عَلَى الْكُفَّارِ؛ إِذْ يَعْلَمُ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِدُخُولِ رَمَضَانَ؛ لِمَا يَحْتَفَّ بِهِ مِنَ الشَّعَائِرِ، سَوَاءً فِي تَرَائِي الْهِلَالِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، أَوْ فِي مَظَاهِرِ الْإِفْطَارِ الْجَمَاعِيِّ، أَوْ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِهِ، أَوْ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ الَّتِي يَرَى النَّاسُ فِيهَا أَطْعِمَةَ الْفِطْرِ تَمْلَأُ الْأَسْوَاقَ.
وَكَوْنُ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادَاتِ رَمَضَانَ ظَاهِرًا أَوْجَدَ حَرَجًا فِي نُفُوسِ بَعْضِ الْمُخْلِصِينَ مِنْ إِظْهَارِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَ أَنَّ إِخْفَاءَهُ أَكْثَرُ إِخْلَاصًا، وَأَوْجَدَ أَيْضًا طَرِيقًا لِلْمُرَائِينَ بِمَا يَتَكَلَّفُونَهُ مِنْ إِظْهَارِ أَعْمَالِهِمْ وَإِحْسَانِهِمْ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي هَذَا الْبَابِ الْعَظِيمِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ يَجِدْ أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٍ يُظْهَرُ وَنَوْعٍ يُخْفَى، وَالنَّوْعُ الَّذِي يُظْهَرُ هُوَ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ الَّتِي قَصَدَ الشَّرْعُ إِظْهَارَهَا؛ تَعْظِيمًا للهِ تَعَالَى، وَتَكْبِيرًا لَهُ، وَهِيَ الْعِبَادَاتُ الَّتِي يُشْرَعُ الِاجْتِمَاعُ لَهَا سَوَاءً عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ كَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَوْ عَلَى وَجْهِ السُّنِّيَّةِ كَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، فَلَا يُهْجَرُ الْمَسْجِدُ بِحُجَّةِ أَنَّ هَاجِرَهُ يُرِيدُ أَنْ يُخْفِيَ عَمَلَهُ؛ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ يَسْتَوِي فِي إِظْهَارِهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ فِي مَنْزِلِهِ لِئَلَّا يُرَائِيَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا شَعِيرَةُ رَمَضَانَ الظَّاهِرَةُ، الَّتِي شَرَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الظُّهُورِ، وَأَحْيَاهَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ كُلُّ شَعِيرَةٍ ظَاهِرَةٍ يُجْتَمَعُ لَهَا. وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ.
وَيُشْرَعُ إِظْهَارُ الْعَمَلِ، وَقَدْ يَجِبُ أَوْ يُنْدَبُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ وَرَاءِ إِظْهَارِهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ؛ كَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِظْهَارِهِ وَإِفْشَائِهِ، وَكَشَخْصٍ يُقْتَدَى بِهِ لِمَنْزِلَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ فَيُظْهِرُ الْعَمَلَ لِيُقْتَدَى بِهِ فِي الْخَيْرِ. وَعَلَيْهِ إِذَا أَظْهَرَهُ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْإِخْلَاصِ فَإِنَّ مَدْخَلَ الشَّيْطَانِ هُنَا بِالرِّيَاءِ أَوْسَعُ مِنْ دُخُولِهِ عَلَيْهِ فِي الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ. وَضَابِطُ ذَلِكَ: أَنْ يَسْتَوِيَ فِي قَلْبِهِ عِلْمُ النَّاسِ بِعَمَلِهِ وَعَدَمُ عِلْمِهِمْ بِهِ. وَدَلِيلُ مَشْرُوِعِيَّةِ إِظْهَارِ الْعَمَلِ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» قَالَهُ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى التَّبَرُّعِ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِصُرَّةٍ كَبِيرَةٍ فَقَلَّدَهُ النَّاسُ وَتَتَابَعُوا عَلَى الصَّدَقَةِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ مِنَ الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ، وَلَا مَصْلَحَةَ فِي إِظْهَارِهِ؛ فَإِنَّ كَمَالَ الْإِخْلَاصِ فِي التَّخَفِّي بِهِ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] أَيْ: فَإِخْفَاؤُكُمْ إِيَّاهَا خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِعْلَانِهَا. وَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ أَوْصَافِ التَّخَفِّي بِالصَّدَقَةِ، وَهِيَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ غَنِيًّا، وَمُنْفِقًا فِي الْخَيْرِ كُلَّ أَوَانٍ، فَهَذَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ التَّخَفِّي بِالصَّدَقَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَقْصِدًا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَقَدْ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]، وَكَوْنُهُمْ يُنْفِقُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَسِرًّا وَعَلَانِيَةً يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ إِنْفَاقِهِمْ، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِخْفَاءَ كُلِّ إِنْفَاقِهِمْ مِنْ كَثْرَتِهِ. وَفِي آيَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} [الرعد: 22] [فاطر: 29، 30]، بَلْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} [إبراهيم: 31].
وَيُلَاحَظُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَقْدِيمُ إِنْفَاقِ السِّرِّ عَلَى إِنْفَاقِ الْعَلَانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ، فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْعَلَهُ أَصْلًا فِي نَفَقَاتِهِ، وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا لَا يَضُرُّهُ إِذَا لَمْ يُرَاءِ بِهِ.
وَلَيْسَ كُلُّ نَفَقَةٍ يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ أَنْ يُخْفِيَهَا؛ فَنَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ تَدْخُلُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَانِيَةً، وَمَدْخَلُ الرِّيَاءِ فِيهَا مَعْدُومٌ أَوْ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يُنْفِقُونَ عَلَى أَهْلِهِمْ وَعِيَالِهِمْ. كَمَا أَنَّ زَكَاةَ الْفَرْضِ مَدْخَلُ الرِّيَاءِ فِيهَا ضَعِيفٌ، وَكَذَلِكَ زَكَاةُ الْفِطْرِ.
وَفِي إِظْهَارِ الصَّدَقَةِ أَوِ النَّفَقَةِ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى وَالْجِيرَانِ وَعُمُومِ الْفُقَرَاءِ أَذًى لَهُمْ؛ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ فَاقَتَهُمْ، وَتُهْدِرُ كَرَامَتَهُمْ، وَتَدُلُّ النَّاسَ عَلَى ذُلِّهِمْ؛ فَكَانَ إِخْفَاؤُهَا مُتَأَكِّدًا؛ لِئَلَّا تَتَحَوَّلَ إِلَى صَدَقَةِ مَنٍّ وَأَذًى.
هَذَا؛ وَالْمُبَالَغَةُ فِي إِخْفَاءِ كُلِّ نَفَقَةٍ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ إِظْهَارِ نِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ، كَمَا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي إِظْهَارِهَا تُؤَدِّي إِلَى الرِّيَاءِ.
وَمِنْ آكَدِ أَعْمَالِ رَمَضَانَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالْأَصْلُ الِاسْتِخْفَاءُ بِهِ كَمَا جَاءَ عَنْ عَدَدٍ مِنَ السَّلَفِ، فَرَوى أَحْمَدُ عَنْ سُرِّيَّةِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، قَالَتْ: «كَانَ عَمَلُ الرَّبِيعِ كُلُّهُ سِرًّا، إِنْ كَانَ لَيَجِيءُ الرَّجُلُ وَقَدْ نَشَرَ الْمُصْحَفَ فَيُغَطِّيهِ بِثَوْبِهِ».
وَقَالَ الْأَعْمَشِ: كُنْتُ عِنْدَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ، فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ فَغَطَّى الْمُصْحَفَ، وَقَالَ: لَا يَظُنُّ أَنِّي أَقْرَأُ فِيهِ كُلَّ سَاعَةٍ.
فَإِذَا كَانَ يَسْتَطِيعُ الْقِرَاءَةَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ فَذَلِكَ أَخْلَصُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ خَلْوَتُهُ بِنَفْسِهِ تُصِيبُهُ بِالسَّأَمِ حَتَّى يَتْرُكَ الْقِرَاءَةَ؛ لَزِمَ الْمَسْجِدَ مَعَ النَّاسِ لِيَنْشَطَ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَلَا يَتْرُكَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ كَمَالَ الْإِخْلَاصِ فَيَتْرُكُ كُلَّ الْعَمَلِ، وَلُزُومُ الْمَسْجِدِ أَحْفَظُ لِلصَّائِمِ، وَأَنْشَطُ لَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ، كَمَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ يَلْزَمُونَ الْمَسْجِدَ وَيَقُولُونَ: نَحْفَظُ صِيَامَنَا.
وَمِنْ أَعْمَالِ رَمَضَانَ: صَلَاةُ التَّطَوُّعِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَنْزِلِ إِلَّا مَا شُرِعَ لَهُ الْجَمَاعَةُ كَالتَّرَاوِيحِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ: صَحِبتُ مُحَمَّدَ بنَ أَسْلَمَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِيْنَ سَنَةً لَمْ أَرَهُ يُصَلِّي حَيْثُ أَرَاهُ رَكْعَتَيْنِ مِنَ التَّطَوُّعِ إِلاَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَسَمِعتُهُ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً يَحْلِفُ: لَوْ قَدِرتُ أَنْ أَتَطَوَّعَ حَيْثُ لاَ يَرَانِي مَلَكَايَ لَفَعَلْتُ خَوْفًا مِنَ الرِّيَاءِ... وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخرُجَ غَسَلَ وَجْهَهُ، وَاكتَحَلَ، فَلاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ البُكَاءِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ مِنَ الصَّوَارِفِ مَا يَصْرِفُهُ عَنِ التَّطَوُّعِ بِالصَّلَاةِ، فَيُصَلِّي مَا شَاءَ مِنْ تَطَوُّعٍ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ إِظْهَارَ الْعَمَلِ مَعَ الِاجْتِهَادِ فِي الْإِخْلَاصِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ خَوْفًا مِنَ الرِّيَاءِ، قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ».
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا الْإِخْلَاصَ فِي أَعْمَالِنَا كُلِّهَا، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ فِي عَمَلِنَا شَيْئًا لِأَحَدٍ سِوَاهُ، وَأَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ فِي قُبَالَةِ عَشْرٍ مُبَارَكَةٍ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ»، وَكَانَ يَخُصُّهَا بِالِاعْتِكَافِ تَحَرِّيًا لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَحَقُّهَا أَنْ يَتَفَرَّغَ الْمُؤْمِنُ لَهَا تَفَرُّغًا كَامِلًا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الِاعْتِكَافِ فَهُوَ الْأَفْضَلُ، وَإِلَّا قَضَى أَكْثَرَ وَقْتِهِ فِي مَسْجِدِهِ، فَنَشَرَ مُصْحَفَهُ، وَأَسْبَلَ دَمْعَهُ، وَأَلَحَّ فِي دَعْوَتِهِ، وَعَلَّقَ قَلْبَهُ بِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَنْتَشِرُ فِي رَمَضَانَ مَظَاهِرُ الْإِحْسَانِ، وَيَتَسَابَقُ النَّاسُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى التَّرَاوِيحِ، وَلَكِنْ يَشُوبُ بَعْضَ أَعْمَالِهِمْ شَوَائِبُ يُخْشَى عَلَى الْعَمَلِ مِنْهَا:
فَأُنَاسٌ يُفَاخِرُونَ بِمَوَائِدِ إِفْطَارِهِمُ الَّتِي يَمُدُّونَهَا، وَرُبَّمَا وَضَعُوا عَلَيْهَا لَافِتَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا قَدْ يُنَافِي الْإِخْلَاصَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ مَصْلَحَةٌ، وَقَدْ يُصَاحِبُهَا سَرَفٌ فِي تَقْدِيمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى إِهْدَارِ النِّعَمِ وَرَمْيِهَا؛ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَنْ تَنْقَلِبَ مَوَائِدُ الْإِفْطَارِ مِنْ مَجَالِ الْإِحْسَانِ إِلَى الرِّيَاءِ وَالْكُفْرَانِ.
وَآخَرُونَ يُفَاخِرُونَ بِعَدَدِ خَتَمَاتِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَيُخْبِرُونَ غَيْرَهُمْ بِهَا تَصْرِيحًا أَوْ تَلْمِيحًا، مَعَ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ، وَالْقَارِئُ يَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ للهِ تَعَالَى لَا لِلنَّاسِ. وَرُبَّمَا كَانَتْ قَِرَاءَتُهُ هَذًّا لَا خُشُوعَ فِيهَا وَلَا تَدَبُّرَ، وَهَؤُلَاءِ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ.
وَآخَرُونَ يَتَلَمَّسُونَ الصَّلَاةَ مَعَ مَشَاهِيرِ الْقُرَّاءِ، لَا طَلَبًا لِلْخُشُوعِ وَالتَّدَبُّرِ، وَإِنَّمَا لِيُخْبِرَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ فُلَانٍ، وَتَمُرُّ عَلَيْهِ لَيَالِي رَمَضَانَ وَهُوَ لَمْ يَسْمَعِ الْقُرْآنَ مِنْ قَارِئٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لَهُ مَسْجِدٌ.
وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُخْفِيَ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، وَأَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهَا، وَأَنْ يَتَرَقَّى فِي دَرَجَاتِ الْإِخْلَاصِ حَتَّى يَسْتَوِيَ فِي قَلْبِهِ عِلْمُ النَّاسِ بِعَمَلِهِ وَعَدَمُ عِلْمِهِمْ بِهِ، وَيَتَرَقَّى أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ حَتَّى يَبْلُغَ دَرَجَةً مِنَ الْإِخْلَاصِ يَسْتَوِي فِي نَفْسِهِ مَدْحُ النَّاسِ وَذَمُّهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُعَامِلُ اللهَ تَعَالَى وَلَا يُعَامِلُ الْخَلْقَ، وَيَرْجُو أَجْرَهُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لَا مِنْهُمْ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] .
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
عمل رمضان يظهر أم يخفى.doc
عمل رمضان يظهر أم يخفى.doc
عمل رمضان يُظهَر أم يُخفَى.doc
عمل رمضان يُظهَر أم يُخفَى.doc
المشاهدات 2593 | التعليقات 2
أشكرك يا شيخ شبيب على مرورك وتعليقك
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق