عمل المرأة والحل البديل
1432/01/10 - 2010/12/16 17:40PM
الخطبة الأولى:
معاشر المسلمين: لقد ندب الإسلام المرأة للمشاركة الفاعلة في المجتمع لأداء دورها في الإصلاح، بما يتناسب مع طبيعتها البشرية وقدراتها، ووفق ما تقتضيه نصوص الشريعة السمحة.
والاختلافات في الحقوق والتكاليف بينها وبين الرجل لا تتعدى مسائل محدودة؛ نظرًا لما بينهما من اختلاف في الطبيعة والخلقة التي جبلهما الله تعالى عليها؛ قال –عز وجل-: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) [مريم: 36]، فما يليق بالمرأة من مهام وتبعات قد لا يليق أداؤه بالرجال؛ وذلك لما في النِّساء من رقة الطبع وحنو العاطفة وسرعة الانفعال، وما في الرجال من شدة وقوة وبطء الاستجابة والانفعال، والعكس صحيح؛ فإن للرجل اختصاصات خصّه الله تعالى بها تتناسب وقوة بدنه واحتماله للشدائد والصعاب ما لا تستطيعه النِّساء، فهما ليسا متماثلين في الطبيعة الجسدية أولاً، ولا في الطبيعة النفسية ثانيًا؛ حيث لكل منهما طريقته في النظر إلى الأمور والحوادث والتعامل مع المشكلات، ولا في الطبيعة العقلية الدماغية ثالثًا؛ حيث أثبتت الأبحاث الحديثة أن طبيعة دماغ المرأة يختلف اختلافًا جذريًا عن طبيعة دماغ الرجل.
أيها الإخوة الأحباب: من هنا يمكن فهم الاختلافات التي أقرَّتها الشريعة في بعض التكاليف بين الرجال والنساء وردها إلى الاختلاف في الطبيعة البشرية، وعلى أساسه يمكن أيضًا فهم تباين كلا الدورين في المجتمع والنهوض به ودفع عجلة التنمية والمشاركة الفاعلة في الإصلاح، حيث تقوم في الأساس على مبدأ تقاسم الأدوار وتكاملها لا الصراع والندية كما يحلو للبعض أن يصوِّره؛ فمن البديهي أنه لا يستطيع كائن من كان أن يؤدي كل الأدوار والتكاليف الحياتية في الوقت نفسه، فالرجل مثلاً لا يمكنه العمل نهارًا والقيام مساءً بالأعمال المنزلية والتركيز بصورة أساسية على تربية أبنائه وتعهدهم بالرعاية والعناية، فهذا من المستحيلات حسًّا وعقلاً، وكذلك المرأة لا يمكنها القيام بكل هذه الأعباء معًا؛ من أجل ذلك قسَّم الله تعالى هذه الأدوار على الزوجين، وراعت الشريعة الإسلامية والجبلة الخلقية أن تمنح لكلا الجنسين كفاءات وقدرات تتناسب مع وظيفته الأساسية لم تُمنح للآخر.
فالمرأة مثلاً منحها الله تعالى زيادة في العاطفة تتناسب ودورها في التربية المنزلية، كما روى ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا"، فقد منحها الله تعالى صبرًا في القيام بشؤون المنزل والتعامل مع الطفل لم يمنحه للرجل، فطبيعة الرجل لا تتيح له التعاطي مع هذه النوعية من الأعمال مهما أوتي من صبر، إلا في حالات فردية لا تخرق القاعدة بل تؤكدها، وكذلك الرجال منحهم الله تعالى بسطة في الجسم تتيح لهم مزاولة الأعمال البدنية الشاقة أو الإرهاق الفكري المستمر، وذلك على حساب العاطفة التي لم يرزق منها القدر الذي يتيح له التعامل مع الطفل خلال مراحل عمره المتقدمة.
أيها المسلمون: إن فهم هذه الإشكالية النفسية والبدنية من شأنه أن يفسِّر كثيرًا من التناقضات، ويزيل الوهم عن كثير من المشكلات التي نعاني منها الآن فيما يتعلق بالمشاركة بين الجنسين في الأعمال.
فإذا تقرر لدينا -أيها الأحباب- هذا المبدأ الأساس استطعنا أن نتلمس مواضع الخلل في مسألة عمل المرأة خارج المنزل، وتخليها عن أسمى مهمة يضطلع بها إنسان، وهي مهمة تربية الجيل وإعداده لحمل أمانة النهوض بالأمة والخروج بها من أوحال التخلف والانحطاط، فمَنْ لهذه المهمة إن تخلت عنها النساء؟! من يربي أبناءنا ويخرجهم رجالاً يافعين مجاهدين في سبيل رفع هذا الدين والنهوض بهذه الأمة؟! مَنْ يربي بناتنا على العفاف ويخرجهن أمهات صالحات ليكملن مسيرة أمهاتهن؟!
إن الخلط -أيها المسلمون- بين الواجبين هو ما أدى بنا إلى ما نعيشه من حالٍ تفلتت فيه القيم، وتبدلت فيه المبادئ والمفاهيم، واستغنت الأسر باللقمة والكسوة عن التربية الحقيقية والتوجيه للأطفال، فخرج لنا جيل مزعزع العقيدة، ضائع الهوية، ممسوخ الثقافة، وما ذلك إلا لمناطحة نساء المجتمع رجاله في أعمالهم وخصائص شؤونهم، حتى صاروا كفرسيْ رهان، يسعى كل منهما لسبق صاحبه والحصول على أكبر قدر من المكاسب –التي يظنها مكاسب-، دون النظر إلى مصلحة الأسرة، أو مستقبل الأبناء، أو تقدم المجتمع.
إن من بيننا -أيها الإخوة الكرام- من استعمر الغربُ عقولَهم، وسيطر على تفكيرهم، فصار قبلتهم الأولى، أينما يمموا وجوههم فهو أمامهم، يستلهمون منه المبادئ، ويستقون منه المعايير، وينظرون بنظارة الغرب إلى كل شؤون حياتهم، ضاربين عرض الحائط بمبادئ الإسلام وقيمه وروحه التي تعلو بنفس الإنسان ومشاعره فوق ارتكاسات المادية الزائفة. ومن ذلك -أيها المسلمون- ما بات يعرف بـ"المرأة العاطلة"، أو "بطالة النساء"، وهما مصطلحان يطلقهما الغرب ومن لفَّ لفَّه على ربة المنزل، التي لا عمل لها خارج بيت أسرتها وأبنائها، وهو مصطلح فيه ما فيه من الإجحاف والظلم لمربية الأجيال وزارعة القيم والفضائل، فهي ليست عاطلة، ولا تمارس بطالة، وإنما تقوم بدورٍ لو تمالأت عليه مؤسسات رجال العالم جميعًا لم تقم به، (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30]، فما يمارسه الغرب في هذا المضمار هو ضرب للفطرة، ومعارضة لصبغة الله تعالى الذي قسَّم الأدوار وحدد لكل جنس ما يليق به من الأعمال التي يؤديها بكفاءة لا نظير لها.
إن الغرب ينظر إلى المرأة باعتبارها أداة من أدوات الإنتاج، ووسيلة من وسائل جلب المال إلى خزينة الدول، شأنها في ذلك شأن الرجل، وشأنهما في ذلك شأن أية آلة حديدية ملقاة في مخزن أو مصنع، ناسين أو متناسين الفطرة الربانية، وما قد ينشأ عن ذلك من أثر سلبي على المجتمع وأطفاله وقيمه ومبادئه، المهم في ذلك "دفع عجلة التنمية"، و"المشاركة المجتمعية"، وما إلى ذلك من المصطلحات والمفاهيم المطاطية الموهمة التي تحمل من الشر أضعاف أضعاف ما فيها من الخير.
إن خروج المرأة لمزاولة أعمال الرجال يتضمن تعطيلاً لطاقة من أعظم طاقات المجتمع، وهي طاقة التوجيه والتربية، طاقة الإصلاح وإنشاء الجيل، طاقة يستحيل على ذوي الشوارب أن يجاهدوا في سبيل تحقيقها، وهذا مصداق عدل الله تعالى وقَسْمِه المهامَّ بين جنسيْ هذه الدنيا: (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [النساء: 32]. وفي المقابل تعطيل لطاقة أخرى هي طاقة البذل والسعي والضرب في مناكب الأرض، وهي مما اختص به الرجال الأقوياء ذوو البنية.
ومن التناقض الفج أن يطالب البعض بتشغيل النساء في المجتمع وإتاحة الفرصة لهن لتحقيق ذواتهن باعتبارهن قوة معطلة في المجتمع!! في حين يضج المجتمع ببطالة الرجال الذين أنيطت بهم في الأساس مسؤولية الإنفاق والتعهد المالي: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [النساء: 34]، فالمرأة غير مطالبة من حيث الأصل بالإنفاق على أبنائها ولا حتى بالإنفاق على نفسها، فهي في عهدة زوجها أو أبيها أو أخيها أو أعمامها أو أخوالها أو إخوة زوجها، فبالله مَنْ الأولى بتوفير فرص العمل؟! أهو الرجل صاحب اليد العليا في النفقة أم المرأة التي هي شاغرة الذمة أصلاً من الإنفاق؟!
ثم ما تحقيق الذات -أيها المسلمون- حينما تعمل المرأة بائعة في متجر؟! وما تحقيق الذات في أن تعمل سكرتيرة أو نادلة في مقهى أو حتى تاجرة؟! ما تحقيق الذات في أن تعمل طوال اليوم خارج المنزل ثم تعود مرهقة لا تعرف زوجًا ولا ولدًا ولا بيتًا؟! أيُّ تحقيق للذات في ضياع الذات؟! وأي تحقيق للذات في هلاك أسرتها وانحراف أبنائها الذي هو نتيجة حتمية لغيابها عن بيتها كل هذا الوقت؟!
إن المرأة العفيفة الروح، النظيفة القلب، السليمة الفطرة، لا تستريح لمزاحمة الرجال، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة، ولا تستريح لنبذ أبنائها في يد خادمة تحل محلَّ أمهم، فتأسر قلوبهم، ولربما كانت سببًا في تخليهم عن دينهم، وتحللهم من أخلاقهم، بل وربما آذتهم في أبدانهم وأجسامهم، والصحف ملأى كل يوم بمآسي الخادمات وفضائحهن.
ليس اليتيم من انتهى أبواه مِنْ *** همّ الحيـاة وخلّفاه ذليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى لـه *** أمًّا تخلّـت أو أبًا مشغولاً
عباد الله: إننا نتحدث هنا عن وضع قد يتيح للمرأة أن لا تخالط الرجال ولا تظهر زينتها التي أمرها الله تعالى بسترها، فما بالكم إن كانت تعمل في بيئة تشجع هي الأخرى على الفساد؟! بيئة تشجع على الاختلاط بالرجال والتلاحم معهم، بيئة تشجع على كشف العورات والسفور والتبرج، بيئة لا تزيد المرأة إلا تفسخًا وبعدًا عن ربها وشريعتها الغراء، فهذا والله هو الشر المستطير، والبلاء المبين، فهي -من ناحية- أفسدت بيتها وأسرتها وأبناءها، ومن ناحية أخرى أهلكت نفسها، وركبت الأهوال والمصاعب لتزيد نأيًا عن بارئها وخالقها، وتفسد أخلاقها، ومن ناحية ثالثة أفسدت المجتمع وأضلته ووضعت في سبيل تقدمه العقبات التي كان أغنى ما يكون عنها؛ فقد أثبتت إحدى الدراسات الحديثة أن وجود النساء في بيئة العمل المختلطة وتزينهن من شأنه أن يعطل الأعمال؛ وذلك بسبب انشغال الرجال بالنظر إليهن ومحاولة استمالتهن على حساب العمل.
أيها المسلمون: إننا نستطيع ببساطة أن نتلمس في واقعنا المعيش أن أكثر البيوت استقرارًا، وأقلها في حجم المشكلات الناشبة بين الزوجين، وأشدها تمسكًا بالأخلاق والمبادئ بين أبنائها، وأكثر الأطفال تحصيلاً علميًا وتوازنًا نفسيًا، هي البيوت التي راعت الفطرة الربانية، والجينات الدينية، التي تقضي بتقاسم الأدوار بين الأمهات والآباء، فالأم تعتني بمنزلها وزوجها وأبنائها تربيةً وتعليمًا واهتمامًا، والأب بما أتاحه الله تعالى له من عمل وسعي وضرب في مناكب الأرض، ثم يلتقيان آخر اليوم على طاولة التربية وتلاقح الأفكار وحل المشكلات الطارئة للأبناء، هذه هي الصورة المثالية للأسرة المسلمة، وهي الصورة المثالية للمجتمع المسلم الذي هي مجموعة من الأسر التي تعيش حياة صحيَّة سليمة.
أيها الأحباب: لقد أنتجت الحضارة الغربية المعاصرة والثقافة الغربية التي بدأت تغزو بلاد المسلمين نساءً ممسوخات، لا هن نساء بالمعنى المعروف ولا هن رجال، وإنما هن مسخ مشوَّه لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، مصارعات في ثياب نساء، يتعاملن مع الرجل بندِّية، ولا يخلو تعاملهن من خشونة وعنف، سواء في طريقة التعامل، أم في الألفاظ والمصطلحات الخارجة التي يستخدمنها، فتشعرك إحداهن وأنت تعاملها أنك تعامل رجلاً حديديًا، رغم ما قد تكون عليه من جمال خلاب، وحُسْنٍ ظاهري، إلا أن خروجها للعمل ومخالطتها للرجال -الذين يعاملونها هناك على أساس أنها مثلهم- أَلْزَمَهَا بأن تنشب لها أظفار، وتنبت لها أنياب؛ لتستطيع مقاتلتهم؛ لتظفر منهم بقطعة لحم تأكل منها وتطعم منها جياعها، وهو الأمر الذي يغنيها عنه العقل والشرع بإلزام الرجل بالإنفاق عليها وعلى أولادها، سواء أكان زوجًا أم أبًا أم أخًا أم غير ذلك.
إن الانفتاح بين الرجل والمرأة، والاختلاط الزائد عن الحد الشرعي، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، كل ذلك من شأنه أن يخل بالتركيبة الفطرية للتباين والتمايز بين الجنسين، وهو ما ينتج عنه بعد ذلك كائنات مشوهة، الأمر الذي دفع الغرب للحديث عما يسمى "الجندر"، أي النوع البشري، وهو بالفعل ما يعبر عن الواقع الحالي في الغرب، حيث سلبوا من الجنسين صفة الأنوثة والذكورة ليدورا من جديد في دائرة مفرغة من اللا هويَّة الإنسانية.
وهذا -يا عباد الله- هو نفسه ما بدأنا نلاحظه في مجتمعاتنا الإسلامية بكل أسف، فقد تغوَّلت بعض النساء في بلادنا بحكم ما يمارسنه من معارك يومية خلال عملية البيع والشراء والمخالطة الفجة بينهن وبين الرجال، ناهيك عن المؤتمرات والندوات والمعارك الأدبية التي يعقدنها، كل هذا بلا رقيب أو نكير..
أسال الله تعالى أن يصلح أحوال نسائنا...
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: إن الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن يكون عليه المجتمع المسلم لا يدفع المرأة دفعًا ولا يسوقها سوقًا نحو العمل والتكسب، إلا أنه أحيانًا تُضطر بعض النساء إلى العمل نظرًا لعدم وجود العائل أو وفاته أو تخلي المجتمع عن أداء دوره تجاههن، لذلك فقد كفلت لهن الشريعة –لا سيما مع سهولة وسائل الاتصال الحديثة وتعددها- العمل من منزلها، وهو ما بتنا نطلق عليه "العمل عن بعد"، وهو أجدى بكثير وأنسب لطبيعة المرأة من بقية الأعمال التي لا تخلو من محظورات شرعية، ونتائج سلبية عليها وعلى أسرتها على مجتمعها.
ومما يسعد القلب ويبعث على الحمد أن أكثر من 96% من النساء المشارِكات في ندوة "البيئة التشريعية والتنظيمية للعمل الجزئي والعمل عن بُعْد للمرأة في المملكة العربية السعودية"، التي نظمها كرسي بحث المرأة السعودية ودورها في تنمية المجتمع بجامعة الملك سعود، بالتعاون مع مجلس الغرف الصناعي، عبَّرن عن تأييدهن للفكرة، وذكرن من ضمن أسباب هذا التأييد إتاحة فرصة التوازن للمرأة لرعاية كافة شؤون أسرتها وممارسة مهام عملها من المنزل، وتوفير فرص جديدة للمرأة تكفل لها العمل في بيئة بعيدة عن الاختلاط، بالإضافة إلى أنه ملائم لطبيعة المرأة ووضعها الاجتماعي، وكذا التخلص من زحام المواصلات في العمل العادي، بالإضافة إلى زيادة دخل الأسرة.
وعلى الرغم من هذه النتيجة المبهرة التي تدل فيما تدل على وجود شريحة كبيرة من النساء العفيفات يرفضن العمل في بيئات مختلطة، إلا أنه من المتوقع أن يثير ذلك حفيظة وسخرية الكتاب الليبراليين والعلمانيين، فهم لا يسعون لعفة المرأة، ولا لتكسبها النظيف، ولا لاستقرارها المادي والأسري كما يزعمون، وإنما يسعون لإخراجها وضرب عفتها في مقتل، وإنما هم بذلك ينفِّذون أجندة غربية عنوانها: "كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات".
إن عمل المرأة عن بُعْد من شأنه أن يقضي على بطالة النساء –إذا صحَّ هذا التعبير- دون المساس بوظائف الرجال، وهو ما يحقق التوازن ويسد الفجوة بين عدم وجود عائل لبعض النساء في المجتمع وقعود الكثير من الرجال عن العمل، فمئات الآلاف من الرجال العاطلين هم أحوج ما يكونون إلى ما يسد به جوعهم وجوع نسائهم، فإذا وُظِّفت النساء في وظائف الرجال فسوف تزداد البطالة وقعًا، لاسيما والنساء تكثر إجازاتهن ما بين مرض الولادة وتعب النفاس وأيام الرضاع، وهذا ولا شك مهدر لكثير من الطاقات الإنتاجية في المجتمع.
إن هذه النوعية من الأعمال تتناسب أكثر مع طبيعة المرأة ومكثها في المنزل وأمرها بالقرار فيه؛ قال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) [الأحزاب: 33]، وعن عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صَلاَةُ الْمَرْأَةِ فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهَا فِي بَيْتِهَا، وَصَلاَتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهَا فِي حُجْرَتِهَا". فهي مأمورة بلزوم بيتها حتى في صلاتها، وخروجها للعمل كل يوم منافٍ لهذا الأمر؛ لذا كان من الأنسب أن تعمل من منزلها، وذلك في مجالات كثيرة منها على سبيل المثال: التسويق، إدارة المواقع والمنتديات الإلكترونية، التصميم، مهام الصحافة الإلكترونية، أعمال الحاسب الآلي، الإعلانات، طباعة الأبحاث، النشر الالكتروني، أعمال الترجمة، البرمجة، المحاسبة، الأعمال البنكية، إدخال البيانات، ممارسة الأعمال الإدارية، تقديم الاستشارات الأسرية والاجتماعية، التدقيق اللغوي، الأعمال المكتبية... وغير ذلك كثير. وهو بالتأكيد أرفق بأبنائها وزوجها، ويتيح لها فرصة الاعتناء بهم وعدم التقصير في أداء حقوقهم.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ نساء وبنات المسلمين، وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم، إنه خير مأمول وأكرم مسؤول..
معاشر المسلمين: لقد ندب الإسلام المرأة للمشاركة الفاعلة في المجتمع لأداء دورها في الإصلاح، بما يتناسب مع طبيعتها البشرية وقدراتها، ووفق ما تقتضيه نصوص الشريعة السمحة.
والاختلافات في الحقوق والتكاليف بينها وبين الرجل لا تتعدى مسائل محدودة؛ نظرًا لما بينهما من اختلاف في الطبيعة والخلقة التي جبلهما الله تعالى عليها؛ قال –عز وجل-: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) [مريم: 36]، فما يليق بالمرأة من مهام وتبعات قد لا يليق أداؤه بالرجال؛ وذلك لما في النِّساء من رقة الطبع وحنو العاطفة وسرعة الانفعال، وما في الرجال من شدة وقوة وبطء الاستجابة والانفعال، والعكس صحيح؛ فإن للرجل اختصاصات خصّه الله تعالى بها تتناسب وقوة بدنه واحتماله للشدائد والصعاب ما لا تستطيعه النِّساء، فهما ليسا متماثلين في الطبيعة الجسدية أولاً، ولا في الطبيعة النفسية ثانيًا؛ حيث لكل منهما طريقته في النظر إلى الأمور والحوادث والتعامل مع المشكلات، ولا في الطبيعة العقلية الدماغية ثالثًا؛ حيث أثبتت الأبحاث الحديثة أن طبيعة دماغ المرأة يختلف اختلافًا جذريًا عن طبيعة دماغ الرجل.
أيها الإخوة الأحباب: من هنا يمكن فهم الاختلافات التي أقرَّتها الشريعة في بعض التكاليف بين الرجال والنساء وردها إلى الاختلاف في الطبيعة البشرية، وعلى أساسه يمكن أيضًا فهم تباين كلا الدورين في المجتمع والنهوض به ودفع عجلة التنمية والمشاركة الفاعلة في الإصلاح، حيث تقوم في الأساس على مبدأ تقاسم الأدوار وتكاملها لا الصراع والندية كما يحلو للبعض أن يصوِّره؛ فمن البديهي أنه لا يستطيع كائن من كان أن يؤدي كل الأدوار والتكاليف الحياتية في الوقت نفسه، فالرجل مثلاً لا يمكنه العمل نهارًا والقيام مساءً بالأعمال المنزلية والتركيز بصورة أساسية على تربية أبنائه وتعهدهم بالرعاية والعناية، فهذا من المستحيلات حسًّا وعقلاً، وكذلك المرأة لا يمكنها القيام بكل هذه الأعباء معًا؛ من أجل ذلك قسَّم الله تعالى هذه الأدوار على الزوجين، وراعت الشريعة الإسلامية والجبلة الخلقية أن تمنح لكلا الجنسين كفاءات وقدرات تتناسب مع وظيفته الأساسية لم تُمنح للآخر.
فالمرأة مثلاً منحها الله تعالى زيادة في العاطفة تتناسب ودورها في التربية المنزلية، كما روى ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا"، فقد منحها الله تعالى صبرًا في القيام بشؤون المنزل والتعامل مع الطفل لم يمنحه للرجل، فطبيعة الرجل لا تتيح له التعاطي مع هذه النوعية من الأعمال مهما أوتي من صبر، إلا في حالات فردية لا تخرق القاعدة بل تؤكدها، وكذلك الرجال منحهم الله تعالى بسطة في الجسم تتيح لهم مزاولة الأعمال البدنية الشاقة أو الإرهاق الفكري المستمر، وذلك على حساب العاطفة التي لم يرزق منها القدر الذي يتيح له التعامل مع الطفل خلال مراحل عمره المتقدمة.
أيها المسلمون: إن فهم هذه الإشكالية النفسية والبدنية من شأنه أن يفسِّر كثيرًا من التناقضات، ويزيل الوهم عن كثير من المشكلات التي نعاني منها الآن فيما يتعلق بالمشاركة بين الجنسين في الأعمال.
فإذا تقرر لدينا -أيها الأحباب- هذا المبدأ الأساس استطعنا أن نتلمس مواضع الخلل في مسألة عمل المرأة خارج المنزل، وتخليها عن أسمى مهمة يضطلع بها إنسان، وهي مهمة تربية الجيل وإعداده لحمل أمانة النهوض بالأمة والخروج بها من أوحال التخلف والانحطاط، فمَنْ لهذه المهمة إن تخلت عنها النساء؟! من يربي أبناءنا ويخرجهم رجالاً يافعين مجاهدين في سبيل رفع هذا الدين والنهوض بهذه الأمة؟! مَنْ يربي بناتنا على العفاف ويخرجهن أمهات صالحات ليكملن مسيرة أمهاتهن؟!
إن الخلط -أيها المسلمون- بين الواجبين هو ما أدى بنا إلى ما نعيشه من حالٍ تفلتت فيه القيم، وتبدلت فيه المبادئ والمفاهيم، واستغنت الأسر باللقمة والكسوة عن التربية الحقيقية والتوجيه للأطفال، فخرج لنا جيل مزعزع العقيدة، ضائع الهوية، ممسوخ الثقافة، وما ذلك إلا لمناطحة نساء المجتمع رجاله في أعمالهم وخصائص شؤونهم، حتى صاروا كفرسيْ رهان، يسعى كل منهما لسبق صاحبه والحصول على أكبر قدر من المكاسب –التي يظنها مكاسب-، دون النظر إلى مصلحة الأسرة، أو مستقبل الأبناء، أو تقدم المجتمع.
إن من بيننا -أيها الإخوة الكرام- من استعمر الغربُ عقولَهم، وسيطر على تفكيرهم، فصار قبلتهم الأولى، أينما يمموا وجوههم فهو أمامهم، يستلهمون منه المبادئ، ويستقون منه المعايير، وينظرون بنظارة الغرب إلى كل شؤون حياتهم، ضاربين عرض الحائط بمبادئ الإسلام وقيمه وروحه التي تعلو بنفس الإنسان ومشاعره فوق ارتكاسات المادية الزائفة. ومن ذلك -أيها المسلمون- ما بات يعرف بـ"المرأة العاطلة"، أو "بطالة النساء"، وهما مصطلحان يطلقهما الغرب ومن لفَّ لفَّه على ربة المنزل، التي لا عمل لها خارج بيت أسرتها وأبنائها، وهو مصطلح فيه ما فيه من الإجحاف والظلم لمربية الأجيال وزارعة القيم والفضائل، فهي ليست عاطلة، ولا تمارس بطالة، وإنما تقوم بدورٍ لو تمالأت عليه مؤسسات رجال العالم جميعًا لم تقم به، (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30]، فما يمارسه الغرب في هذا المضمار هو ضرب للفطرة، ومعارضة لصبغة الله تعالى الذي قسَّم الأدوار وحدد لكل جنس ما يليق به من الأعمال التي يؤديها بكفاءة لا نظير لها.
إن الغرب ينظر إلى المرأة باعتبارها أداة من أدوات الإنتاج، ووسيلة من وسائل جلب المال إلى خزينة الدول، شأنها في ذلك شأن الرجل، وشأنهما في ذلك شأن أية آلة حديدية ملقاة في مخزن أو مصنع، ناسين أو متناسين الفطرة الربانية، وما قد ينشأ عن ذلك من أثر سلبي على المجتمع وأطفاله وقيمه ومبادئه، المهم في ذلك "دفع عجلة التنمية"، و"المشاركة المجتمعية"، وما إلى ذلك من المصطلحات والمفاهيم المطاطية الموهمة التي تحمل من الشر أضعاف أضعاف ما فيها من الخير.
إن خروج المرأة لمزاولة أعمال الرجال يتضمن تعطيلاً لطاقة من أعظم طاقات المجتمع، وهي طاقة التوجيه والتربية، طاقة الإصلاح وإنشاء الجيل، طاقة يستحيل على ذوي الشوارب أن يجاهدوا في سبيل تحقيقها، وهذا مصداق عدل الله تعالى وقَسْمِه المهامَّ بين جنسيْ هذه الدنيا: (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [النساء: 32]. وفي المقابل تعطيل لطاقة أخرى هي طاقة البذل والسعي والضرب في مناكب الأرض، وهي مما اختص به الرجال الأقوياء ذوو البنية.
ومن التناقض الفج أن يطالب البعض بتشغيل النساء في المجتمع وإتاحة الفرصة لهن لتحقيق ذواتهن باعتبارهن قوة معطلة في المجتمع!! في حين يضج المجتمع ببطالة الرجال الذين أنيطت بهم في الأساس مسؤولية الإنفاق والتعهد المالي: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [النساء: 34]، فالمرأة غير مطالبة من حيث الأصل بالإنفاق على أبنائها ولا حتى بالإنفاق على نفسها، فهي في عهدة زوجها أو أبيها أو أخيها أو أعمامها أو أخوالها أو إخوة زوجها، فبالله مَنْ الأولى بتوفير فرص العمل؟! أهو الرجل صاحب اليد العليا في النفقة أم المرأة التي هي شاغرة الذمة أصلاً من الإنفاق؟!
ثم ما تحقيق الذات -أيها المسلمون- حينما تعمل المرأة بائعة في متجر؟! وما تحقيق الذات في أن تعمل سكرتيرة أو نادلة في مقهى أو حتى تاجرة؟! ما تحقيق الذات في أن تعمل طوال اليوم خارج المنزل ثم تعود مرهقة لا تعرف زوجًا ولا ولدًا ولا بيتًا؟! أيُّ تحقيق للذات في ضياع الذات؟! وأي تحقيق للذات في هلاك أسرتها وانحراف أبنائها الذي هو نتيجة حتمية لغيابها عن بيتها كل هذا الوقت؟!
إن المرأة العفيفة الروح، النظيفة القلب، السليمة الفطرة، لا تستريح لمزاحمة الرجال، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة، ولا تستريح لنبذ أبنائها في يد خادمة تحل محلَّ أمهم، فتأسر قلوبهم، ولربما كانت سببًا في تخليهم عن دينهم، وتحللهم من أخلاقهم، بل وربما آذتهم في أبدانهم وأجسامهم، والصحف ملأى كل يوم بمآسي الخادمات وفضائحهن.
ليس اليتيم من انتهى أبواه مِنْ *** همّ الحيـاة وخلّفاه ذليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى لـه *** أمًّا تخلّـت أو أبًا مشغولاً
عباد الله: إننا نتحدث هنا عن وضع قد يتيح للمرأة أن لا تخالط الرجال ولا تظهر زينتها التي أمرها الله تعالى بسترها، فما بالكم إن كانت تعمل في بيئة تشجع هي الأخرى على الفساد؟! بيئة تشجع على الاختلاط بالرجال والتلاحم معهم، بيئة تشجع على كشف العورات والسفور والتبرج، بيئة لا تزيد المرأة إلا تفسخًا وبعدًا عن ربها وشريعتها الغراء، فهذا والله هو الشر المستطير، والبلاء المبين، فهي -من ناحية- أفسدت بيتها وأسرتها وأبناءها، ومن ناحية أخرى أهلكت نفسها، وركبت الأهوال والمصاعب لتزيد نأيًا عن بارئها وخالقها، وتفسد أخلاقها، ومن ناحية ثالثة أفسدت المجتمع وأضلته ووضعت في سبيل تقدمه العقبات التي كان أغنى ما يكون عنها؛ فقد أثبتت إحدى الدراسات الحديثة أن وجود النساء في بيئة العمل المختلطة وتزينهن من شأنه أن يعطل الأعمال؛ وذلك بسبب انشغال الرجال بالنظر إليهن ومحاولة استمالتهن على حساب العمل.
أيها المسلمون: إننا نستطيع ببساطة أن نتلمس في واقعنا المعيش أن أكثر البيوت استقرارًا، وأقلها في حجم المشكلات الناشبة بين الزوجين، وأشدها تمسكًا بالأخلاق والمبادئ بين أبنائها، وأكثر الأطفال تحصيلاً علميًا وتوازنًا نفسيًا، هي البيوت التي راعت الفطرة الربانية، والجينات الدينية، التي تقضي بتقاسم الأدوار بين الأمهات والآباء، فالأم تعتني بمنزلها وزوجها وأبنائها تربيةً وتعليمًا واهتمامًا، والأب بما أتاحه الله تعالى له من عمل وسعي وضرب في مناكب الأرض، ثم يلتقيان آخر اليوم على طاولة التربية وتلاقح الأفكار وحل المشكلات الطارئة للأبناء، هذه هي الصورة المثالية للأسرة المسلمة، وهي الصورة المثالية للمجتمع المسلم الذي هي مجموعة من الأسر التي تعيش حياة صحيَّة سليمة.
أيها الأحباب: لقد أنتجت الحضارة الغربية المعاصرة والثقافة الغربية التي بدأت تغزو بلاد المسلمين نساءً ممسوخات، لا هن نساء بالمعنى المعروف ولا هن رجال، وإنما هن مسخ مشوَّه لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، مصارعات في ثياب نساء، يتعاملن مع الرجل بندِّية، ولا يخلو تعاملهن من خشونة وعنف، سواء في طريقة التعامل، أم في الألفاظ والمصطلحات الخارجة التي يستخدمنها، فتشعرك إحداهن وأنت تعاملها أنك تعامل رجلاً حديديًا، رغم ما قد تكون عليه من جمال خلاب، وحُسْنٍ ظاهري، إلا أن خروجها للعمل ومخالطتها للرجال -الذين يعاملونها هناك على أساس أنها مثلهم- أَلْزَمَهَا بأن تنشب لها أظفار، وتنبت لها أنياب؛ لتستطيع مقاتلتهم؛ لتظفر منهم بقطعة لحم تأكل منها وتطعم منها جياعها، وهو الأمر الذي يغنيها عنه العقل والشرع بإلزام الرجل بالإنفاق عليها وعلى أولادها، سواء أكان زوجًا أم أبًا أم أخًا أم غير ذلك.
إن الانفتاح بين الرجل والمرأة، والاختلاط الزائد عن الحد الشرعي، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، كل ذلك من شأنه أن يخل بالتركيبة الفطرية للتباين والتمايز بين الجنسين، وهو ما ينتج عنه بعد ذلك كائنات مشوهة، الأمر الذي دفع الغرب للحديث عما يسمى "الجندر"، أي النوع البشري، وهو بالفعل ما يعبر عن الواقع الحالي في الغرب، حيث سلبوا من الجنسين صفة الأنوثة والذكورة ليدورا من جديد في دائرة مفرغة من اللا هويَّة الإنسانية.
وهذا -يا عباد الله- هو نفسه ما بدأنا نلاحظه في مجتمعاتنا الإسلامية بكل أسف، فقد تغوَّلت بعض النساء في بلادنا بحكم ما يمارسنه من معارك يومية خلال عملية البيع والشراء والمخالطة الفجة بينهن وبين الرجال، ناهيك عن المؤتمرات والندوات والمعارك الأدبية التي يعقدنها، كل هذا بلا رقيب أو نكير..
أسال الله تعالى أن يصلح أحوال نسائنا...
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: إن الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن يكون عليه المجتمع المسلم لا يدفع المرأة دفعًا ولا يسوقها سوقًا نحو العمل والتكسب، إلا أنه أحيانًا تُضطر بعض النساء إلى العمل نظرًا لعدم وجود العائل أو وفاته أو تخلي المجتمع عن أداء دوره تجاههن، لذلك فقد كفلت لهن الشريعة –لا سيما مع سهولة وسائل الاتصال الحديثة وتعددها- العمل من منزلها، وهو ما بتنا نطلق عليه "العمل عن بعد"، وهو أجدى بكثير وأنسب لطبيعة المرأة من بقية الأعمال التي لا تخلو من محظورات شرعية، ونتائج سلبية عليها وعلى أسرتها على مجتمعها.
ومما يسعد القلب ويبعث على الحمد أن أكثر من 96% من النساء المشارِكات في ندوة "البيئة التشريعية والتنظيمية للعمل الجزئي والعمل عن بُعْد للمرأة في المملكة العربية السعودية"، التي نظمها كرسي بحث المرأة السعودية ودورها في تنمية المجتمع بجامعة الملك سعود، بالتعاون مع مجلس الغرف الصناعي، عبَّرن عن تأييدهن للفكرة، وذكرن من ضمن أسباب هذا التأييد إتاحة فرصة التوازن للمرأة لرعاية كافة شؤون أسرتها وممارسة مهام عملها من المنزل، وتوفير فرص جديدة للمرأة تكفل لها العمل في بيئة بعيدة عن الاختلاط، بالإضافة إلى أنه ملائم لطبيعة المرأة ووضعها الاجتماعي، وكذا التخلص من زحام المواصلات في العمل العادي، بالإضافة إلى زيادة دخل الأسرة.
وعلى الرغم من هذه النتيجة المبهرة التي تدل فيما تدل على وجود شريحة كبيرة من النساء العفيفات يرفضن العمل في بيئات مختلطة، إلا أنه من المتوقع أن يثير ذلك حفيظة وسخرية الكتاب الليبراليين والعلمانيين، فهم لا يسعون لعفة المرأة، ولا لتكسبها النظيف، ولا لاستقرارها المادي والأسري كما يزعمون، وإنما يسعون لإخراجها وضرب عفتها في مقتل، وإنما هم بذلك ينفِّذون أجندة غربية عنوانها: "كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات".
إن عمل المرأة عن بُعْد من شأنه أن يقضي على بطالة النساء –إذا صحَّ هذا التعبير- دون المساس بوظائف الرجال، وهو ما يحقق التوازن ويسد الفجوة بين عدم وجود عائل لبعض النساء في المجتمع وقعود الكثير من الرجال عن العمل، فمئات الآلاف من الرجال العاطلين هم أحوج ما يكونون إلى ما يسد به جوعهم وجوع نسائهم، فإذا وُظِّفت النساء في وظائف الرجال فسوف تزداد البطالة وقعًا، لاسيما والنساء تكثر إجازاتهن ما بين مرض الولادة وتعب النفاس وأيام الرضاع، وهذا ولا شك مهدر لكثير من الطاقات الإنتاجية في المجتمع.
إن هذه النوعية من الأعمال تتناسب أكثر مع طبيعة المرأة ومكثها في المنزل وأمرها بالقرار فيه؛ قال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) [الأحزاب: 33]، وعن عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صَلاَةُ الْمَرْأَةِ فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهَا فِي بَيْتِهَا، وَصَلاَتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهَا فِي حُجْرَتِهَا". فهي مأمورة بلزوم بيتها حتى في صلاتها، وخروجها للعمل كل يوم منافٍ لهذا الأمر؛ لذا كان من الأنسب أن تعمل من منزلها، وذلك في مجالات كثيرة منها على سبيل المثال: التسويق، إدارة المواقع والمنتديات الإلكترونية، التصميم، مهام الصحافة الإلكترونية، أعمال الحاسب الآلي، الإعلانات، طباعة الأبحاث، النشر الالكتروني، أعمال الترجمة، البرمجة، المحاسبة، الأعمال البنكية، إدخال البيانات، ممارسة الأعمال الإدارية، تقديم الاستشارات الأسرية والاجتماعية، التدقيق اللغوي، الأعمال المكتبية... وغير ذلك كثير. وهو بالتأكيد أرفق بأبنائها وزوجها، ويتيح لها فرصة الاعتناء بهم وعدم التقصير في أداء حقوقهم.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ نساء وبنات المسلمين، وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم، إنه خير مأمول وأكرم مسؤول..