عمرة القضاء: استراتيجية الدعوة والقتال.. أ.شريف عبد العزيز- عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1440/11/04 - 2019/07/07 12:01PM

نهاية محرقة وبداية مشرقة

كان مشهداً كئيباً اكتست فيه وجوه أبطاله بالحزن والأسى، فالقلوب منفطرة غيظاً وكمداً، والنفوس مشحونة ألماً وغماً، والضيق هو سيد الموقف، حتى همّ بعضهم بالشك والريب من ضراوة المفاجأة على عقولهم، ووصل بهم الحال للتباطؤ في تنفيذ الأوامر العليا رغم عصمة وقدسية مصدرها.

 

هذا وهو ملخص حال الصحابة يوم الحديبية في شهر ذي القعدة من العام السادس من الهجرة، فبعد أن تهيأوا لدخول بلد الله الحرام، فأحرموا وساقوا الهدى واستعدوا لمناسك العمرة من سعي وطواف، وتهيأت قلوبهم ونفوسهم وعيونهم لتكتحل برؤية الكعبة والمشاهد، إذا بالمشركين يصدوهم عن أسمى أمانيهم وأغلى أهدافهم، وجرت الأحداث متلاحقة لتؤكد عزمهم على الدخول ولو بالقوة بعد بيعة الرضوان، ولكن سرعان ما تبخرت أحلامهم بعد عقد اتفاقية صلح الحديبية.

 

فقد ظن كثير من المسلمين لأول وهلة، أن شروط صلح الحديبية فيها كثير من الغبن والضيم على المسلمين، حتى راجع عمر أبا بكر في ذلك، فقال له أبو بكر: الزم غَرزَه - أي رسول الله - فإني أشهد أنه رسول الله، وراجع عمر رسول الله، وقال له: علام نعطي الدَّنِيَّة في ديننا؟! فقال له: "أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيَّعني".

 

كان من ضمن شروط صلح الحديبية التي أحزنت المسلمين –غير ردّ من جاء من مكة من المسلمين المستضعفين– منع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من الصحابة من الاعتمار في هذا العام، على أن يعودوا العام المقبل، فإذا كان العام القادم، خرجت قريش من مكة ثلاثة أيام، ثم يدخلها المسلمون، فيقيمون بها ثلاثة أيام ليس معهم إلا سلاح الراكب: السيوف في القرب.

أولاً: روعة الاستجابة وقوة الشوق

لم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا لأحد من المهاجرين أن يصبر على فراق أهله ومسقط رأسه، وبلده التي ترعرع فيها، واشتم نسيمها، خالط دمه ريحها، وتخلدت ذكريات الحياة بطولها فيها، فإنها ذكريات عميقة تبعث من النفس الشجون والأحزان، لذلك لم يكد العام يستدير حتى استعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من معه للخروج إلى الاعتمار حسب بنود صلح الحديبية.

 

في ذي القعدة في السنة السابعة من الهجرة خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة قاصدًا العمرة، كما اتفق مع قريش في صلح الحديبية، فدعا بالمسلمين جميعاً خاصة من شهد الحديبية لئن يخرج للعمرة، فكانت الاستجابة عجيبة وفريدة، حيث بلغ عدد من شهد عمرة القضاء ألفين سوى النساء والصبيان، ولم يتخلف من أهل الحديبية إلا من استُشهد في خيبر أو مات قبل عمرة القضاء.

 

وقد اتجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام من المدينة باتجاه مكة المكرمة في موكب مهيب يشق طريقه عبر القرى والبوادي، وكان كلما مر الموكب النبوي بمنازل قوم من الذين يسكنون على جانبي الطريق بين مكة والمدينة خرجوا وشاهدوا منظرًا لم يألفوه من قبل، حيث المسلمون بزي واحد من الإحرام، وهم يرفعون أصواتهم بالتلبية، ويسوقون هديهم في علاماته وقلائده، في مظهر بهي لم تشهد المنطقة له مثيلاً، كان له أبعد الأثر في نفوس سكان البوادي والقبائل بين مكة والمدينة.

 

لقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- أكثر الناس استجابة لأمر الله ورسوله، فهم لم يتخلفوا عنه -صلى الله عليه وسلم- في أي موطن، وما كان حزنهم يوماً على دنيا يصيبونها أو غنائم يأخذونها، بل كان على الدين وشئونه، والآخرة وأمورها، لذلك استحق كل من يؤذيهم ويخوض في أعراضهم اللعن والذم والإثم العظيم.

 

ثانياً: سبب التسمية

كان هذا الخروج في ذي القعدة سنة سبع من الهجرة، وقد اختلف في سبب تسميتها بعمرة القضاء، فقيل: المراد ما وقع من المقاضاة بين المسلمين والمشركين من الكتاب الذي كتب بينهم بالحديبية، فالمراد بالقضاء الفصل الذي وقع عليه الصلح، ولذلك يقال لها: عمرة القضية، وقال السهيلي: سميت عمرة القضاء؛ لأنه قاضى فيها قريشاً، لا لأنها قضاء عن العمرة التي صد عنها، لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها بل كانت عمرة تامة، ولهذا عدوا عُمَر النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعاً، وقال آخرون: بل كانت قضاء عن العمرة الأولى، وعدت عمرة الحديبية في العمر لثبوت الأجر لا لأنها كملت، قال ابن هشام: ويقال لها: عمرة القصاص؛ لأنهم صدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ست، فاقتص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم، فدخل مكة في ذي القعدة في الشهر الحرام الذي صدوه فيه من سنة سبع، وعن ابن عباس أنه قال: فأنزل الله في ذلك (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ)[البقرة 194 ]، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: فتحصل من أسمائها أربعة: القضاء، والقضية، والصلح والقصاص.

 

ثالثاً: استراتيجية الحيطة والحذر

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد تعاهد مع قريش في الحديبية على القدوم لأداء العمرة، وأن تترك له قريش مكة ثلاثة أيام، وألا يدخل المسلمون ومعهم سلاح، إلا السيوف في أغمادها. ومع ذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخوف من غدر مشركي قريش، فقد تأخذهم العزة بالإثم، ويحاولون منع المسلمين مرة أخرى من دخول بلد الله الحرام، فاستعد هذه المرة استعداداً كاملاً، فاصطحب معه عتاده الحربي من رماح ودروع وخيل، وأحرم من باب المسجد، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه فقيل: يا رسول الله حملت السلاح وقد شرطوا أن لا ندخلها عليهم بسلاح إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا ندخل عليهم الحرم بالسلاح ولكن يكون قريبا منا، فإن هاجنا هيج من القوم كان السلاح قريبا منا "، فمضى بالخيل محمد بن مسلمة -رضي الله عنه- واستقر خارج الحرم في كوكبة من الصحابة الأشداء استعداداً لأول إشارة النبي -صلى الله عليه وسلم- للتدخل السريع.

 

نما خبر الموكب النبوي الضخم، وما معه من عتاد وسلاح وعدد كبير من الصحابة، ففزعت قريش وقالوا: ما أحدثنا حدثا، وإنا على كتابنا ومدتنا ففيم يغزونا محمد في أصحابه. فبعثت قريش مكرز بن حفص في نفر من قريش إليه، فقالوا: والله يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر، تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت عليهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب، فقال عليه الصلاة والسلام: إني لا أدخل عليهم بسلاح، فقال مكرز: هو الذي تعرف به البرّ والوفاء، ثم رجع مكرز إلى مكة سريعا وقال: إن محمدا لا يدخل بسلاح وهو على الشرط الذي شرط لكم.

 

هذه العمرة ليست من الغزوات، وإنما ذكرها البخاري فيها، لأنه خرج مستعدا بالسلاح للمقاتلة خشية أن يقع من قريش غدر، وليس من لازم الغزو وقوع المقاتلة، ومن ثم قيل لها غزوة الأمن.

 

الحذر والحيطة خلق إسلامي أصيل طبقه النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة في مواطن كثيرة، وهذا مقتضى أمر الله (خذوا حذركم)، والإبداع النبوي في التطبيق أنه -صلى الله عليه وسلم- جمع بين أخذ الحذر والوفاء بالعهد، وهذا ما لا يحسنه المعاصرون اليوم، لأن غالباً من يحتاط أو يأخذ الحذر فإنه يلجأ للمكر والخداع ونكث العهود، وبذلك علم النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمة ورباها على الأخذ بالأسباب وعدم الاتكالية والتراخي في مواطن المواجهة، وترك الاستسهال والسذاجة في مواجهة أعداء الأمة الذين لا يرقبون في مؤمن ألا ولا ذمة.

 

رابعاً: الدخول المبهر

مشهد عمرة القضاء من أوله وحتى آخره كان مشهداً للإبهار وإظهار عزة الدين وقوة أتباعه وحجمهم الحقيقي. كان دخوله -صلى الله عليه وسلم- مع ألفين من أصحابه مبلين مهللين مظهرًا دعويًّا مؤثرًا تهتز له القلوب، وترتج له النفوس، ويذهب بالعيون لأبعد أثر، خاصة عندما بدأ الموكب النبوي الكريم يقترب من بيوت مكة المكرمة، وأبنيتها شاقًّا طريقه باتجاه الكعبة المشرفة، وهم في مظهرهم المهيب، وأصواتهم تشق عنان السماء بالتلبية، والمسلمون حول النبي -صلى الله عليه وسلم- متوشحون سيوفهم محدقون به كل جانب، يسترونه من المشركين مخافة أن يؤذوه بشيء، وأصواتهم تعج بالتلبية لله العلي الكبير، هذه التلبية الجماعية التي تعج أصوات المسلمين بها، والتي لم تنقطع منذ أن أحرموا واستمرت حتى دخلوا مكة، فقد كان للتلبية مغزى ومعنى، فهي تعلن التوحيد وترفع شعاره، وتعني إبطال الشرك وإسقاط رايته، وتعلن الحمد والثناء على الله الذي مكنهم من أداء هذا النسك.

 

وللقارئ أن يذهب بهذا المشهد في ذاكرة الدعوة لسبع سنوات فقط خلت، ليقارن بين حالين في غاية التناقض، فمنذ سبع سنوات خرج أهل مكة موتورين يبحثون عن رسول الله الذي خرج من بين أظهرهم مهاجراً في كل بقعة ليقتلوه، والآن خرج أهل مكة جميعًا، ولكن خرجوا إلى جبال مكة وأوديتها؛ ليفسحوا الطريق لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ليدخل مكة معتمرًا وملبيًا ورافعًا رأسه ومحاطًا بكوكبة من المسلمين المسلحين بالسيوف في وضح النهار وأمام أعين من حاولوا قتله قبل سنوات سبع، وفي أعظم تشريفة رأتها مكة في كل تاريخها، اكتفى أهل مكة بالمراقبة له ولأصحابه ، وهم يؤدون مناسك العمرة، رافعين شعار التوحيد ونبذ الشرك والأوثان، وهكذا ستمضي على الطريق الأمة إن أصابها ضعف أو نزلت بها نازلة أو تراجعت أمام أعدائها، فسوف يأتي الزمان الذي تعود فيه الأمة لقيادة الركب، وهداية البشرية، وهذا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، وسنته الماضية في الكون، فالعاقبة دائماً للمتقين، والنصر على الدوام حليف المؤمنين.

 

خامساً: استراتيجية إظهار القوة

لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخطط في عمرة القضاء لما هو أبعد من تأدية مناسك وشعائر يمكن أداؤها في سويعات قليلة، لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يخطط للدعوة ونشر الإسلام وإظهار القوة وإرسال العديد من الرسائل لخصومه داخل مكة وخارجها، فقوة الدين من قوة أتباعه واعتزازهم بهذا الدين، كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- حريصًا تمام الحرص على إظهار قوة المسلمين أمام أهل مكة قدر المستطاع، ليس بقوة مادية أو جسدية فقط، بل أيضا معنوية وغير مباشرة، وكان من مظاهرها ما يلي:

1 – ضخامة عدد المسلمين حيث جاوز عددهم الألفين واصطحبوا معهم الأطفال والنساء، بعد أن أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ألا يتخلف أحد عن الرحلة.

 

2 – استصحاب العتاد الحربي كاملاً استعداداً لأي مواجهة، وردعاً لكل من تسول له نفسه مجرد التفكير في الغدر بالمسلمين، وعسكرة جزء من المسلمين بسلاح الفرسان خارج الحرم استعداداً للميل على المشركين حال غدرهم.

 

3 – الدخول الرئاسي المبهر القوي لموكب النبي -صلى الله عليه وسلم- راكبًا ناقته القصواء، والمسلمون حوله يُشهِرون سيوفهم لحمايته يحيطون به من كل جانب، كما يحيط السِّوار بالمعصم حماية له من المشركين، أو من غدر قريش، فكان ذلك منظرًا مهيبًا جدًّا.

 

4- استخدام أدوات التخويف النفسي والحرب الدعائية على المشركين، فقد تقدم صفوف المسلمين عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- وهو ينشد الشعر، بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا نستغرب أن يقول الشعر في مثل هذا الموقف؛ لأن الشعر عند العرب هو وسيلة الإعلام الأولى، فإذا قيل الشعر وقف الجميع ليستمع، وعبد الله بن رواحة كان يعرف هذا الموقف، واختار من الشعر ما يناسب إظهار القوة، ومما قاله في شعره، كما في الترمذي والنسائي عن أنس -رضي الله عنه- -والحديث حسن صحيح- قال:

خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِـهِ *** الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ

ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَـنْ مَقِيلِهِ *** وَيُذْهِلُ الْخَلَيِلَ عَنْ خَلِيلِهِ

 

وفي الأبيات تهديد ووعيد صريح بقتال المشركين لم تكن قريش تسمح بمثله من قبل ،ومن غرابة المشهد وقوة الأبيات وشدة تأثيرها، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: يا بن رواحة، بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي حرم الله تقول الشعر؟! لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كان يقدر ما يفعله عبد الله بن رواحة، ومدرك لعقلية العرب عامة وعقلية قريش خاصة، فقال له: " خل عنه، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل " أي أشد عليهم من رمي النبل والسهام، فكانت هذه الأبيات من أقوى الأسلحة التي وجِّهت لقريش، لأنها تعلم أن الشعر ستسير به الركبان، ويتناقل بين الناس، وسيصل إلى مسامع العرب جميعاً ؛ أن قوة محمد وأتباعه قد بلغت حد تهديد قريش سادة العرب في قلب دارهم.

 

5- أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحابة -رضوان الله عليهم- بإظهار القوة البدنية والاستعداد الجسدي لأي مواجهة، بعد أن نمت إليه الأخبار بأن مشركي قريش يتناقلون شائعة مفاداها أن المسلمين قد أوهنتهم حمى يثرب ونالت من قوتهم المعروفة عن أهل قريش، لذلك أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصحابة بأمرين أثناء تأدية مناسك العمرة:

الأول: أن يَرْمُلُوا في الأشواط الثلاثة الأولى؛ أي يُسرِعوا في الجري في أول ثلاثة أشواط من العمرة، وقد أصبح هذا الأمر سُنَّة دائمة، وكان ذلك لإظهار قوة المسلمين.

 

الثاني: أن يظهروا أكتافهم اليمنى من خلال ملابس الإحرام، فيكشفوا عن سواعدهم الشديدة؛ حتى ترى قريشٌ قوتهم العضلية، وقد حفزهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ذلك بقوله: "رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة".

 

وقد آتت تلكم السياسة الذكية أكلها، فلما رأى المشركون قوة المسلمين وعضلات المسلمين وسرعتهم، قالوا: "هؤلاء الذين زعمتم أن الحُمَّى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا ". وترك ذلك أثرًا كبيرًا في المشركين. قال الحافظ ابن حجر: "ويؤخذ من ذلك جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابا لهم، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم، وفيه جواز المعاريض بالفعل كما يجوز بالقول، وربما كان بالفعل أولى.. وقد قصد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما أمر به أصحابه من الاضطباع والسعي والتلبية أن يرهب قريشا، وأن يظهر لهم قوة المسلمين، وكان لذلك الأثر البالغ في نفوس المشركين".

 

إن المسلم مطالب بإظهار قوته أمام أعداء الإسلام، ويستحب له ذلك، فعندها تكون قوته مقرونة بعزته ومصدرها استعلائه بدينه وعقيدته، ولكن يراعى أن إظهار القوة أمام المسلمين والضعفاء والاختيال عليهم والتباهي أمامهم مكروه، ويبغضه الله -تعالى- من عباده المؤمن، وفي حديث أبي دجانة سماك بن خرشة يوم أحد عندما تبختر في مشيته يوم أحد بالسيف الذي أعطاه إياه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: " إنها لمشية يبغضها الله -عز وجل- إلا في مثل هذا الموضع"، وإن كان الحديث فيه ضعف إلا إن معناه صحيح وله شواهد.

 

6- رفع شعار الإسلام والتوحيد في قلب دار المشركين، فقد أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلال بن رباح أن يؤذن من فوق الكعبة، وكانت هزة نفسية عميقة للمشركين، وهم يرون بلالاً الحبشي الذي كان يباع ويشترى، بل يعذب في شوارع وصحراء مكة، وكانوا يربطون الحبل به، ويسيرون به في شوارع مكة يسخرون منه، ويعذب بالصخرة العظيمة على ظهره، هذا الرجل الذي لاقى الأمَرَّينِ من أهل مكة وزعماء مكة، هو الآن يصعد فوق الكعبة، فوق أعظم مكان في الأرض، بعد أن أعزَّه الله -تعالى- بالإسلام، يرفع أذان المسلمين، فهذا الأمر قد هزَّ قريشًا بشدة من الأعماق.

 

7 – مكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحابة في مكة ثلاثة أيام، يظهرون شعائر الإسلام، يقيمون الصلاة جماعة خمس مرات في مشهد مهيب، حيث لك أن تتخيل اصطفاف قرابة الألفين من الرجال والنساء في صلاة الجماعة خلف رسول الله، مكث المسلمون ثلاثة أيام يتصرفون تصرف المقيم صاحب الدار، مما زاد في ثقتهم ويقينهم بأن لهم تارة وعودة لهذا البلد الحرام.

 

وأخيراً ختم الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الصورة البهيَّة القوية بزواجه من السيدة ميمونة بنت الحارث -رضي الله عنها-، وفي هذا الزواج دليل على أنه يعيش حياة طبيعية في مكة؛ فالرسول ليس خائفًا ولا مترقبًا، بل يتزوج ويحتفل ويقيم العرس، بل إنه في بساطة شديدة لا تخلو من حكمة سياسية رائعة دعا المشركين لحضور الحفل وللأكل من الوليمة، ولكن المشركين رفضوا ولم يقبلوا ذلك، وفهموا رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأنه يتصرف في مكة وكأنها بلده، وليست بلدهم، فأصروا على أن يكون عرسه خارج مكة.

 

وكان اختيار السيدة ميمونة بنت الحارث -رضي الله عنها- في غاية الحكمة، فهي من قبيلة عريقة من أرقى قبائل العرب؛ قبيلة بني عامر، وقبيلة بني عامر كانت تفتخر على العرب أنها من القبائل القليلة التي لم يُسب منها امرأة واحدة، ولم يؤخذ منها أسير، فهذا زواج سياسي اجتماعي دعوي حكيم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي توقيت في قمة الحكمة.

 

وفي نهاية العمرة وقعت حادثة كان في تشريع محكم وفوائد جمة. فعن البراء بن عازب قال: لما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- الخروج من مكة بعد أدائه للعمرة، تبعته ابنة حمزة تنادي يا عم، يا عم، فتناولها علي، فأخذ بيدها وقال لفاطمة -رضي الله عنها-: دونك ابنة عمك، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر -رضي الله عنهم-، فقال علي: أنا أخذتها وهي بنت عمي، وقال جعفر: هي ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي فقضى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- لخالتها، وقال: "الخالة بمنزلة الأم "، وقال لعلي: "أنت مني وأنا منك"، وقال لجعفر: "أشبهت خَلقي وخُلقي"، وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا.. " ويؤخذ من ذلك: أن الخالة بمنزلة الأم، وتقدم في الحضانة على سائر الأقارب بعد الأبوين.

 

سادساً: الآثار الاستراتيجية لعمرة القضاء

عمرة القضاء رغم أنها في لا تحتل في سجل السيرة النبوية الممتد لثلاثة وعشرين عاماً ،سوى ثلاثة أيام !إلا إنها كانت من أعظم أحداثها وأبعدها أثراً ،ولا نكون مبالغين إذا قلنا أن عمرة القضاء كانت نقطة فاصلة بين عهدين في الصراع بين المسلمين والمشركين، فلقد أثرت العمرة بأحداثها والسياسة الحكيمة التي اتبعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها من تكتيكات الدعوة والقتال في نفوس العرب عامة وقريش خاصة، حتى أن قريشاً قد ألقت بخلاصة رجالها وأنجاد أبطالها بعد عمرة القضاء، حيث أسلم ثلاثة من كبار رجالات قريش وقادتها ؛ خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة -رضي الله عنهم-، والأهم من ذلك أن الكثيرين ممن كان يستخفي بإسلامه داخل مكة بدأ في الجهر بدينه وممارسة شعائره في العلن دون خوف أو نكير، فقد دخل الخوف في قلوب المشركين بعد أن رأوا قوة الإسلام وأتباعه، ومما يروى في ذلك، أن أبا رافع -رضي الله تعالى عنه- كان مبعوث النبي -صلى الله عليه وسلم- ووكيله في زواجه من ميمونة بنت الحارث، فلما رفض المشركين أن يبني بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مكة لانقضاء الأجل، فتحرك الرسول مع المسلمين وأمر أبا رافع أن يلحقه به مع ميمونة بعد أن تتهيأ للعرس، فلما خرج بها اعترضه سفهاء قريش وشبابهم المتحمس. قال أبو رافع: "لقينا عناء من أهل مكة من سفهاء المشركين من أذى ألسنتهم للنبي ولميمونة، فقلت لهم: ما شئتم، هذه والله الخيل والسلاح ببطن ناجح، وأنتم تريدون نقض العهد والمدة، فولوا راجعين منكسين".

 

لقد كشفت عمرة القضاء وما جرى فيها من أحداث، أن المسلمين أصبحوا يشكلون قوة متماسكة، وصفا واحدا كالبنيان المرصوص، وهذا ما جعل قريش تشعر بخطورتهم، وتفقد الأمل في التغلب عليهم، وتدرك أن الخلاص يكمن في الانضمام إلى المعسكر الإسلامي عاجلا أم آجلا، ومن ثم كانت هذه العمرة المباركة، تمهيدا للفتح الكبير الذي جاء من بعدها بشهور قليلة، فقبل أن يستدير العام كان المسلمون قد فتحوا مكة في رمضان 8 ه، فكانت عمرة القضاء سببا لفتح قلوب أهل مكة قبل فتح أبوابها.

المشاهدات 428 | التعليقات 0