عمرانُ الأوقاتِ واغتنامُ الفرصِ (مختصرةٌ مشكولةٌ)
عبدالرحمن المهيدب
الحمدُ للهِ وكفى, وصلاةٌ وسلامٌ على النبي المصطفى, وعلى آله وصحبِه وتابعيه, ومن اهتدى. أما بعدُ ...
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون )
( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون )
- دخلَ السجنَ, فوجدَ فيه من لا يوحدُ اللهَ , فبادرَ لدعوتِهم إلى توحيدِ الله فقال: ( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ ؟ أم الله الواحد القهار )نعم إنه نبيُ اللهِ يوسفُ عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلام استغلَ فرصةَ وجودِهم معه وسؤالهم إياه ليكون طريقاً لدعوتِهم وتنويرَ بصيرتهم.
هذهِ حالُ العاقلِ الفَطِن, الذي ينتبه لدقائقِ عُمُرِه وثوانيه : " نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصحةٌ والفراغ"
قال أحدُ السلفِ: " إذا فُتِح لأحدكم بابُ خيرٍ فليُسرِع, فإنه لا يدري متى يُغلق عنه".
نَسيرُ إلى الآجال في كل لحظةٍ ** وأيامُنا تُطوى, وهُنّ مَراحلُ
وما أقبحَ التفريط في زمَنِ الصِبا ** فكيف به والشيبُ للرأس شامِلُ ؟
ترحَّل من الدنيا بزادٍ من التقى ** فعُمرُكَ أيامٌ وهنّ قلائلُ
عِبادَ الله؛ لقد كان أصحابُ رسولِ الله –صلى الله عليه وسلم- والصالحون من بعدهم يتنافسون في اغتنامِ الفرصِ والأعمارِ, مطبقين حديثَ رسولِ اللهِ –صلى الله عليه وسلم-: " اغتنِم خمسًا قبل خمسًا: شبابَك قبل هرمِك, وصحتَك قبل سقمِكَ, وغناكَ قبل فقرِك, وفراغَك قبل شُغلِك, وحياتَك قبل موتِك"
عبادَ الله؛ لنا في رسولِ الله –صلى الله عليه وسلم- أسوةٌ حسنةٌ, فقد كان –صلى الله عليه وسلم- مثالًا يحتذى به في يقْظته الدائمةِ, وبصيرتِه المستنيرةِ في اغتنام الفرصِ, يحثُّ على طاعةِ, ويحفّزُ لعبادة, يوجّهُ ويربي –صلوات ربي وسلامه عليه-.
ففي يومٍ من الأيامٍ ركِبَ ابنُ عباسٍ–رضي الله عنهما- وهو صغيرٌ رِدف النبي عليه السلام فقال له: " يا غُلام؛ إني أُعَلِّمُك كلماتٍ, احفظِ الله تجده تُجاهَكَ, إذا سألتَ فاسألِ الله, وإذا استعنتَ فاستعِنْ بالله " مستغلاً النبيُ ذلك الموقف .
ولمّا رأى يدَ عمرَ بن أبي سَلَمة تطيشُ في الصَّحفة, وجَّهَهُ, فقالَ لهُ: " يا غلامْ؛ سمِّ الله, وكُلْ بيمينِك, وَكُلْ مما يَلِيك" وصورُ استغلالِ النبيِ عليه السلام للفرصِ أكثرُ من أن تُحصر .
فرِسالةٌ إلى كُل ابنٍ؛ أنِ اغْتنِم فُرصةَ وُجودِ والديكَ, أحدُهما أو كِلاهما, فهما بابٌ إلى الجنةِ عَظيمٌ, مَن حُرِم برَّهما فقد حُرِم الخير كله. ألم تقرأْ قولَ اللهِ –تعالى- في عيسى –عليهِ السلام- عندمَا قال: ( وَبرًا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا شَقِيًّا ) ؟ فقَد نفى عنهُ الشقاءَ لِبِرِّهِ.
واغتنم أيها الأب وجودَكَ بين أبْناءِك, فأعطِهِم من وقتِكَ الكَثِير, وكُنْ لهمْ خَيْر صديقٍ وَصَاحِب.
وَيَا أيها المعلم .. اغتَنِم قربك من طلابك , كن لهم قدوة حسنة, تخلَّق بالخُلُق الحَسَن, وازرعِ الخيرَ في كلِّ فرصةٍ تلوحُ لك , وعلِّمهم ما ينفعهُم, وأخْلِص و جُدْ, يجودُ اللهُ عليكَ.
ويا شبابَ الأمةِ ورجالاتها ؛ سخِّروا طاقاتِكم لخدمةِ الإسْلامِ وأهلِهِ, وكُونُوا مُبارَكينَ أينما كُنتُم, اُطلبوا العِلْم, سَاعِدُوا الضّعفَاء, أطعِموا الفقراءَ, أسعِدُوا البؤساءَ, وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا.
إنّ الفُرَص الثمينةَ –معشرَ الإخوةِ- تمرُّ بسرعةٍ؛ فهي محدودةُ الأجلِ سريعةُ الانقضاءِ, وكلُّ فُرصةٍ مغنَم, مهما قلَّ وزنُها في نَظَرِكَ فَهِيَ مَكسَب, " فلا تحقرنّ من المعروفِ شيئًا ولوْ أنْ تَلْقَى أخاكَ بوجهٍ طَلِق". ويقولُ النبيُّ -عليه الصلاة والسلام-: " إنّ العبدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضوانِ اللهِ لا يُلقي لها بَالًا يرفَعه اللهُ بها درجات". هذا هو حالُ المسلم .. ينتهزُ كُلّ فرصةٍ للعطاءِ مهما كانَ قَليلًا, وَيَبذلُ كُلَّ جهدٍ مَهما كانَ يسيرًا. جَعَلَني اللهُ وإياكم مُباركِينَ أينما كُنا, وحيثُما حَللنا.
أقولُ قَوْلِي هَذَا, وَأستَغفِرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي وَلَكُم وَلِسَائِرِ المسلِمينَ مِنْ كُلِّ ذنْبٍ, فَاستغفِرُوهُ وتُوبُوا إليه, إنَّهُ هُوَ الغفورُ الرَّحِيم.
------------------------
الحمدُ للهِ واسعِ العَطَايَا والِهبَاتِ, غافرِ الذُّنوبِ والزلات, وَأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ذو المكرُمَاتِ, وعلى آلهِ وصحبِهِ أُولي الخيرِ والنفَحَات .. أما بعدُ ..
فإن المواسمَ الفاضِلةَ –ياعبادَ الله- فُرَصٌ متجدِّدَة, وهِباتٌ عَظيمة, يهَبُهَا اللهُ لِعِبادِهِ, فالموفّقُ مَنِ استَغَلّهَا, والمحرومُ مَنْ سَوَّفَ وأجَّلَ وَلَم يَعمُرها بما ينفَعُه.
فهَا نحنُ نَطوِي الْيَوْمَ الثّالِثَ مِنْ هَذِهِ العَشرِ الفَاضِلَةِ, فماذَا قدَّمنا فيمَا مَضَى؟ وعَلَى أيِّ شيءٍ عزَمْنا في استِغلالِ ما بقي؟
عبادَ الله إنّ مِن خيرِ أيّامِ هذهِ الْعشرِ: يَوْمُ عَرَفَة, خيرُ يومٍ طلَعَت فيهِ الشمسُ, يباهِي فيهِ اللهُ –تعالى- بعبادهِ الملائكة, وَيُعطِي فيهِ كلَّ ذِي سُؤلٍ سُؤلَهُ .. فأيّ غافلٍ وأيّ محرومٍ هَذا الذي يَمُرُّ عليهِ يومُ عرفةَ كسائرِ الأيامْ !!
قال –صلى الله عليه وسلم-: " صِيامُ يوم عرفة أحْتَسِبُ على الله أنْ يكفِّرَ السنةَ التي قبلهُ والسنةَ التي بعدَهُ " قال ابنُ بازٍ –رحمه الله-: ما اجتُنِبَت الكبائر .
فمن رحمةِ الله بِنا أنْ هَيَّأ لَنَا -ونحنُ الضعفاءُ المذنِبون- مثلَ هذهِ العطايا, فتصومُ يومَ عرفة عبادةً لله ورغبةً في أجرِهِ العَظِيم, يُكَفِّرُ اللهُ لكَ بهِ ذُنُوبَ سنةٍ خَلَتْ وَسَنَةٍ أتَتْ.
وقال –صلى الله عليه وسلم-: " خيرُ الدُّعاءِ دعاءُ يومِ عرفة, وَخَير ما قلتُ أنا والنبيُّونَ مِن قَبلِي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير" .
وَمِنْ رَحمتِهِ –سبحانه- أنْ أمدَّ فِي أعْمَارِنَا حَتّى أدْرَكْنَا هذهِ الأيام, فالحمدُ للهِ كما ينبغي لجَلالِ وَجْههِ وَعظيمِ سُلطانِه ..
اللهم أعِنا على ذكرك, وشكرك, وحسن عبادتك .. اللهم ارزقنا لسانًا ذاكرًا, لكَ شاكرًا, وقلبًا خاشعًا, وعينًا من خشيتك دامعة.
اللهم أنت رب الأولين والآخرين .. أصلِح شأن أمة الإسلام, اللهم ولّ علينا خيارنا, واكفنا شرارنا, واهدِنا سبل السلام. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى, وخذ بناصيته للبر والتقوى .. اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين, ونفس كرب المكروبين, واقض الدين عن المدينين, واهدِ ضال المسلمين بهدايتك يا أرحم الراحمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.