عمارة المساجد (2) تطهير المساجد وتوقيرها - خطبة الشيخ إبراهيم الحقيل

الفريق العلمي
1439/07/11 - 2018/03/28 15:04PM

عمارة المساجد (2) تطهير المساجد وتوقيرها

الشيخ د. إبراهيم الحقيل

13 / 7 / 1439هـ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ؛ جَعَلَ الْمَسَاجِدَ بُيُوتَ عِبَادَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِتَطْهِيرِهَا لِلذَّاكِرِينَ وَالْمُصَلِّينَ ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الْحَجِّ: 26]، نَحْمَدُهُ فَهُوَ أَهْلُ الْحَمْدِ كُلِّهِ، وَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، عَلَانِيَتُهُ وَسِرُّهُ، فَأَهْلٌ أَنْ يُحْمَدَ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَوَعَدَ الطَّائِعِينَ جَنَّتَهُ، وَأَوْعَدَ الْعَاصِينَ عَذَابَهُ ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النِّسَاءِ: 13 - 14]. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَهَدَى بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَقَدِّمُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا تَجِدُونَهُ أَمَامَكُمْ، فَإِنَّ الْمَوْعِدَ قَرِيبٌ، وَإِنَّ الْحِسَابَ شَدِيدٌ، وَإِنَّ الْكِتَابَ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، وَلَا يَدْرِي الْعَبْدُ مَتَى يَقْدُمُ عَلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الْحَجِّ: 77].

أَيُّهَا النَّاسُ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ كَثِيرَةٌ، وَأَبْوَابُ الْخَيْرِ عَدِيدَةٌ، لَا يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ فَقْرٌ وَلَا شُغْلٌ وَلَا عَجْزٌ مَهْمَا كَانَ، فَمَنْ أَرَادَ الْخَيْرَ وَجَدَهُ. وَعِبَادَةُ اللِّسَانِ الذِّكْرُ، وَهِيَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى جُهْدٍ إِلَّا تَحْرِيكَ اللِّسَانِ، وَعِبَادَةُ الْقَلْبِ التَّفَكُّرُ، وَهِيَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى حَرَكَةٍ أَبَدًا، وَالذِّكْرُ وَالتَّفَكُّرُ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ وَأَفْضَلِهَا.

وَتَطْهِيرُ الْمَسَاجِدِ وَتَنْظِيفُهَا وَتَطْيِيبُهَا وَاحْتِرَامُهَا مِنْ عِمَارَتِهَا، وَعُمَّارُ الْمَسَاجِدِ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التَّوْبَةِ: 18].

«وَعِمَارَتُهَا: رَمُّ مَا اسْتَرَمَّ مِنْهَا، وَقَمُّهَا وَتَنْظِيفُهَا، وَتَنْوِيرُهَا بِالْمَصَابِيحِ، وَصِيَانَتُهَا مِمَّا لَمْ تُبْنَ لَهُ الْمَسَاجِدُ مِنْ أَحَادِيثِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا بُنِيَتْ لِلْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ، وَمِنَ الذِّكْرِ دَرْسُ الْعِلْمِ».

وَالْأَصْلُ فِي تَطْهِيرِ الْمَسَاجِدِ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ مَهْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ، فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ». وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  بِتَرْكِهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ مِنْ بَوْلِهِ؛ لِئَلَّا يَهْرُبَ فَيَنْتَشِرَ بَوْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ؛ وَذَلِكَ حِفَاظًا عَلَى أَرْجَاءِ الْمَسْجِدِ مِنَ التَّلَوُّثِ.

وَقَدْ عَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَطَايَا: الْبُصَاقَ فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمِنَ الْأَدَبِ الَّذِي يَنْبَغِي لِمَنْ أَتَى الْمَسْجِدَ أَنْ يُرَاعِيَهُ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِمَا يُؤْذِي إِخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ كَثْرَةِ الْبُصَاقِ وَالنُّخَامِ وَالسُّعَالِ وَنَحْوِهِ، وَيَكْظِمُهُ مَا اسْتَطَاعَ، وَيَخْفِضُ الصَّوْتَ بِهِ إِنِ اضْطُرَّ لِذَلِكَ. وَلَوْ فَارَقَ مَكَانَهُ فِي الصَّفِّ وَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَفَعَلَهُ وَعَادَ لِمَكَانِهِ لَحَمِدَ النَّاسُ صَنِيعَهُ، وَصَارَ وَقُورًا فِيهِمْ.

وَمَنْ عَرَفَ قَدْرَ الْمَسَاجِدِ فَاحْتَرَمَهَا لَمْ يَأْنَفْ مِنْ تَنْظِيفِهَا، وَإِزَالَةِ مَا يَرَاهُ مِنْ أَوْسَاخٍ فِيهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى بُصَاقًا فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ أَوْ مُخَاطًا أَوْ نُخَامَةً فَحَكَّهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَحَكَّتْهَا وَجَعَلَتْ مَكَانَهَا خَلُوقًا -أَيْ: طِيبًا - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

بَلْ عَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسَاوِئِ أَعْمَالِ أُمَّتِهِ تَرْكَ الْقَذَرِ فِي الْمَسْجِدِ بِلَا إِزَالَةٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «وَكَنْسُ الْمَسَاجِدِ وَإِزَالَةُ الْأَذَى عَنْهَا فِعْلٌ شَرِيفٌ، لَا يَأْنَفُ مِنْهُ مَنْ يَعْلَمُ آدَابَ الشَّرِيعَةِ، وَخُصُوصًا الْمَسَاجِدَ الْفَاضِلَةَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ».

وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَفِي بِمَنْ يُنَظِّفُ الْمَسْجِدَ، وَيَسْأَلُ عَنْهُ إِذَا فَقَدَهُ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ أَسْوَدَ رَجُلًا -أَوِ امْرَأَةً- كَانَ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَمَاتَ وَلَمْ يَعْلَمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ، فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ، قَالُوا: مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَفَلَا آذَنْتُمُونِي؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا -قِصَّتَهُ- قَالَ: فَحَقَرُوا شَأْنَهُ، قَالَ: فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ، فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَتَطْيِيبُ الْمَسَاجِدِ وَتَجْمِيرُهَا يَجْعَلُهَا تَفُوحُ بِالرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ، مِمَّا يُدْخِلُ الْأُنْسَ عَلَى الْمُصَلِّينَ، وَيَكُونُ سَبَبًا فِي خُشُوعِهِمْ، وَيَطْرُدُ الرَّوَائِحَ الْكَرِيهَةَ الَّتِي تَقَعُ بِسَبَبِ الْأَنْفَاسِ وَالِازْدِحَامِ، وَهِيَ رَوَائِحُ تُؤْذِي الْمُصَلِّينَ، وَتُذْهِبُ خُشُوعَهُمْ، وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَطْيِيبِ الْمَسَاجِدِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَدْ فُسِّرَتْ مَسَاجِدُ الدُّورِ: بِمَسَاجِدِ الْأَحْيَاءِ وَالْحَارَاتِ، وَفِي حَدِيثِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِهِ: «أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُنَا بِالْمَسَاجِدِ أَنْ نَصْنَعَهَا فِي دِيَارِنَا، وَنُصْلِحَ صَنْعَتَهَا وَنُطَهِّرَهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُجَمِّرُ الْمَسْجِدَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

وَالنَّاسُ فِي تَجْمِير الْمَسَاجِدِ وَتَطْيِيبِهَا طَرَفَانِ وَوَسَطٌ؛ فَطَرَفٌ يُهْمِلُونَ ذَلِكَ، فَلَا طِيبَ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَلَا تَهْوِيَةَ، فَتَخْتَزِنُ الرَّوَائِحَ الْكَرِيهَةَ، وَطَرَفٌ يُسْرِفُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يُؤْذُوا بِهِ الْمُصَلِّينَ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَتَحَسَّسُونَ مِنْ رَوَائِحِ الطِّيبِ، أَوْ مَنْ يُعَانُونَ مِنْ أَمْرَاضِ ضِيقِ التَّنَفُّسِ، وَالْوَاجِبُ مُرَاعَاةُ حَالِ الْمُصَلِّينَ فِي ذَلِكَ، بِحَيْثُ تَكُونُ رَوَائِحُ الْمَسَاجِدِ طَيِّبَةً وَلَا تُؤْذِي الْمُصَلِّينَ، وَهَذَا هُوَ الْوَسَطُ.

نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْعَمَلَ بِمَا عَلَّمَنَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 43].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ تَوْقِيرِ الْمَسَاجِدِ وَاحْتِرَامِهَا أَنْ يَرْتَادَهَا الْمُصَلِّي بِمَا يَلِيقُ بِهَا مِنْ لِبَاسٍ ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الْأَعْرَافِ: 31]، فَلَيْسَ مِنَ اللَّائِقِ أَنْ يَأْتِيَ لِلْمَسْجِدِ بِلِبَاسِ النَّوْمِ أَوِ الرِّيَاضَةِ، وَبَعْضُ الشَّبَابِ يَتَسَاهَلُونَ فَيَأْتُونَ بِأَلْبِسَةٍ تَكْشِفُ أَكْتَافَهُمْ وَرُكَبَهُمْ وَرُبَّمَا أَفْخَاذَهُمْ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ أَبَدًا، وَالْفَخِذُ عَوْرَةٌ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، فَقَدْ يُصَلِّي مَنْ هَذَا حَالُهُ وَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ.

وَمِنْ تَوْقِيرِ الْمَسْجِدِ: عَدَمُ إِتْيَانِهِ بِرَوَائِحَ كَرِيهَةٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي الْمَلَائِكَةَ وَيُؤْذِي الْمُصَلِّينَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْ تَوْقِيرِ الْمَسْجِدِ: عَدَمُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهِ، أَوْ نُشْدَانُ الضَّالَّةِ، أَوِ الْحَدِيثُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا لِطَلَبِ الدُّنْيَا أَوِ الْحَدِيثِ فِي شُئُونِهَا. وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ الْأَشْعَارُ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ الضَّالَّةُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «وَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ أَمْرٍ لَمْ يُبْنَ لَهُ الْمَسْجِدُ مِنْ أُمُورِ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ وَاقْتِضَاءِ حُقُوقِهِمْ. وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَرَى أَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَى السَّائِلِ الْمُتَعَرِّضِ فِي الْمَسْجِدِ».

وَمِنْ تَوْقِيرِ الْمَسْجِدِ: عَدَمُ الْجِدَالِ وَالْخُصُومَةِ فِيهِ وَرَفْعُ الصَّوْتِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ عَلَى أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ وَقَارَ الْمَسْجِدِ وَاحْتِرَامَهُ، وَيُشَوِّشُ عَلَى مَنْ يُصَلُّونَ وَمَنْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ. وَقَدْ هَدَّدَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالضَّرْبِ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ فِي الْمَسْجِدِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ مَا تُوَقَّرُ بِهِ الْمَسَاجِدُ وَتُحْتَرَمُ: ارْتِيَادُهَا، وَالْمُسَابَقَةُ إِلَيْهَا فِي الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَإِحْيَاؤُهَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَدَمُ هِجْرَانِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عِمَارَتِهَا. وَكَمْ مِنَ الْحِرْمَانِ وَالْخِذْلَانِ يُصِيبُ مَنْ لَا يَحْضُرُ الْجَمَاعَةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ زَكَّى اللَّهُ تَعَالَى عُمَّارَ الْمَسَاجِدِ ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [النُّورِ: 36 - 38].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ....

المرفقات

المساجد-2-2

المساجد-2-2

المساجد-2-مشكولة

المساجد-2-مشكولة

المشاهدات 3190 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا